صحيفة المثقف

وداعا توهراش.. المسرحي المتشائل

42 توهراشابن مدينة الحمراء (مراكش) ذاك- عبد الهادي توهراش- تلك الطاقة المبدعة الخلاقة فوق الركح؛ ركح بقدسيته المعلنة لأهل المعنى في رحاب ديونيزوس؛ رحاب موكبه الهوس والعِشق الأبدي؛ عشق وهوس غير معلن الإحساس؛ إلا للذين أثخنوا في الركح توهجا كالمبدع –توهراش- لكن حركية جسده وبلاغته؛ والتي كانت تخفي قصر قامته؛ لتحوله عن طواعية لعملاق وشخصية، تكتسح الركح بكل وثوقيه وإبداعية؛ أمست تلك الحركية؛ تستسلم للمرض ، فتكاثرعليه وأوهنه وأضعفه ! فتوقف الإثخان وألمعية العطاء الفني؛ لكن - الوفاة - أوقفت صراعه مع المرض؛ ليصارع قبره؛ إنها تراجيديا الوجود أيها – المتشائل- كنت بيننا تحمل في أعماقك التفاؤل والتشاؤم وتدمجهما في صمتك المعهود؛ ونكران الذات وابتسامتك التي لا تفارق محياك؛ رغم أنك كنت تميل للانطواء والانزواء الجميل؛ وليس المرضي؛ لأنك ضمنيا تقاسم لوعة المسرح مع نفسك ودواخلك؛ وسؤال المتشائل يلاحقك؛ يوم جسدته بكل تلقائية وبراعة أنا: أمتشائم أنا أم متفائل؟

أنت بحق ِّ كنت مبدعا فاعلا؛ وفنانا أصيل الطينة في رحاب مدينتك {الحمراء} والتي حولتها {خضراء} بالعطاء الإبداعي المتميز رفقة العديد من الأسماء؛ التي – كانت - تنازعك حق الوجود فوق الركح؛ ولكن ساهمتم بنضالية فنية؛ بناء ثقافة مسرحية؛ بعيدة عن الغوغائية وحشو الكلام . فكنت من مؤسسي العديد من الجمعيات المسرحية فرق كالضياء /نادي خشبة الحي / ورشة إبداع دراما /..../ أيام مجد وتألق مسرح الهواة.. الذي اغتالته أيادي الخبث ؟

فتاريخ تجربتك التي صقلتها بعرق عصاميتك؛ وهَوسك الجنوني للفعل المسرحي؛ منذ1968 رفقة الصديق الأعز– عبدالله المعاوي- الذي لم أراه منذ سنوات؛ فمن جمعية - الجيل الصاعد - كانت البداية المسرحية؛ التي أبعَدتك عمليا عن فرقة الناشئين التابعة للكشفية الحسنية المغربية . وفعلا كنت من ضمن الجيل الصاعد الذي أغنى الساحة المسرحية بأعذب العروض وجمالية أيقوناتها وخفة إيقاعاتها.

فقدمت الجمعية مسرحية على ما أعتقد - عمية بلا عكاز- لكن التطور الذي حَدث في عطائك يتجلى في مسرحية {النمرود} سنة 1975 – بأكادير؛ وبعْدها " {دردبة فالحمام} " والتي ساهمت أساسا في تكوين علاقتك بجيلك من الفنانين المسرحيين في مدن أخرى سنة 1977 إثر تلك الجولة في عدة مدن مغربية؛ وما أروع تلك الجولات التي كانت؛ قبل المشاركة في المهرجان الوطني لمسرح الهواة بتطوان سنة 1980؛ فكسبك لتجربة إبداعية خلاقة؛ فرضت أن تلتحق/ تؤسس رفقة المبدع : عبد الرحمان السبطي وعزيز بوزاوي و جلال عواطف ومحمد قريشي وعبد الله الشويخ.... وجملة من الأصدقاء الذين لا زلت أتذكر بعضهم وحماسهم في- نادي خشبة الحي . فكنت لا أرى في مسرحية "المفتاح " أو" الخرابة " إلا أن هناك طاقة صوفية تحمل دررا ربانية؛ من الصعب وصفها أو تفسيرها؛ لأنها - كانت - في دواخل الراحل عنا – عبد الهادي توهراش- إنه غادرنا و رحل بشكل مفاجئ ! إذ شخصيا ماكنت أتوقع أن المنية كانت له بالمرصاد و تلاحقه؛ يوم سألت عنه في أواخر شهر مارس. رفيق دربه وهمومه وضحكاته وقفشاته من عهد مسرحية – دردبة فالحمام؛ إلى يوم وفاته – المبدع – عبد العزيز البو زاوي-

فرحمه الله كان محبوبا عند الجميع؛ مقبول العشرة والمجالسة؛ رغم خجله وصمته؛ كان له حضور قوي في المجالس وفي مختلف التظاهرات والملتقيات المهرجانات المسرحية؛ وذلك من خلال وثيرة الاستمرارية والعطاء غير المبتذل أو المميع .

فكل هذا وغيره من السلوك النبيل الذي تميز به؛ فالسر لا يَكْمُن في تواضعه أو نكران ذاته؛ بل في صوفيته الغامضة؛ التي جعلته يؤمن أن الآخر ذاته؛ وذاته هي الآخر؛ فكان لا يتواني عن خدمة الآخر و مساعدته بما يستطيع أو يسمح به المقام؛ فإن كان الإخوة المراكشيين يلقبونه ب [العشير] فللقب دلالة خاصة؛ ولكن بالنسبة لي؛ كنت أراه – النبيل – في علاقته وحميميته والتي لا تقدر بثمن (ما) لأنه كان يعيش صوفية خاصة؛ صوفية غامضة؛ لا يمكن أن توصف؛ ولكنها تلمس؛ إن عدنا بذاكرتنا لمسرحية – المتشائل – في طبعتها الأولى مع جمعية (الضياء) ومحاولة ربطها وتشريحها بمسرحية { تخريفة هرما } والتي تعد في (نظري) أروع ما قدمت جمعية (ورشة الإبداع دراما) علما أن أعمالها الأخرى كانت بحق متميزة؛ من الناحية الجمالية والفنية .

فإن كان الفن المسرحى فن جمعوي بالدرجة الأولى؛ و يقوم على تضافر عناصره الإبداعية بتكافؤ منطقى؛ حسب أهمية كل عنصر من العناصرالتي تتداخل وتتكامل كمنظومة شمولية لبناء العرض المسرحي؛ فإن المبدع – توهراش- بحركيته الجسدية وإلقائه السلس والمسموع؛ يتخطى تلك العناصر؛ باستثناء الإضاءة التي كانت أقوى منه في جل العروض.

إذ ففي العملين[ المتشائل/ تخريفة هرما] نستشف ذاك التحول الفيزيائي الرهيب؛ الذي يحدث لجسد الفنان الراحل – توهراش- جسد ما هو تشريحي ولا بلاغي؛ بل جسد نابض بروحانيته ونفحات – ميتاجسد - والذي يملأ الركح بخفته وحركيته المضبوطة؛ ولا ارتجال فيها؛ ولا تصنع . وهاته ميزة لدى أغلب المسرحيين المراكشيين؛ مع التفاوت طبعا. وهنا :فمن الصعب حصرهم وكذا من باب الإجحاف ذكر البعض عن البعض.

لكن الذي غادرنا ولم نستمتع باستمراريته؛ فانمحاء قِصر قامته ، فوق الركح. قضية تحتاج لوقفات خاصة .

إذ نعلم أن قصر القامة بالكاد لا تستطيع تجسيد المأساة أو التراجيديا؛ بقدرما تجسد الكوميديا وتبدل جهدا متميزا في نوعيتها؛ باعتبار أن طبيعة الأقزام لهم خاصية الإضحاك . لكن - توهراش- لم يكن فنانا كوميديا؛ ولم يكن يحمل في جسده رسالته إضحاك الجمهور؛ بل كان فنانا مهيب الحضور– متشائلا- يحمل عمق رسالة المسرح الحقيقي والجاد وليس التهريجي والبهرجي؛ فمن هاته الزاوية؛ كان رحمه الله من ألمع الفنانين وأصدقهم عطاء؛ ومساره المسرحي وتجربته الفنية لشهادة معه؛ لا يمكن لأحد أن يزايد عليها أو ينقص من قيمتها .

فطوبى: لتوهراش المتشائل في عطائه وتضحياته ونضاليته المتميزة في مساره الإبداعي؛ وطوبى: لأخلاقه العالية؛ ونبله النابع من طينة الجذر الصحراوي المتأصل؛ فنم قرير العين في مثواك الأخير؛ لأن نبْلك وأخلاقك : لم تترك لك جفاء وخصامات وحسابات ضيقة بين رفاق دربك . والبقاء لله الواحد الديان .

 

نجيب طلال

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم