صحيفة المثقف

حكايات بغدادية - المقامة الأولى

زاحم جهاد مطروَصَلَني سَلامٌ مِنْ العَزيزِ الغالي صاحِبُ المَقامِ العالي جواد غلوم؛ شاعِرُ الهُمومِ والكُلومِ؛ مُذَكِّراً إيّاي بِأيامِ طُفولَتي وصِباي فَوَجَدْتُ نَفْسي تَنْقادُ وَراءَ عاطِفَتي وهَواي؛ فَعادَتْ بِيَ الذاكِرَةُ إلى الأيامِ الغابِرةِ والسِنينِ الدابِرَةِ .

فَوَجَدْتُ صُوَرَ الماضي الجَميلِ تَتْرى وتَتَلاحَقُ وتَتَعاقَبُ وتَتَوالى وهي تَهُزُّ الوِجْدانَ وتًثيرُ الأشْجانَ؛ فإشْتَدَّ بي الشَّوق والحَنينُ إلى الوُجوهِ والأماكِنِ والدُروبِ والمَساكِنِ؛ فَلَمْ أطِقْ صَبراً ولَمْ أنْتَظِرُ أمْراً.

ولأني تَرَكْتُ قِيادةَ سَيارتي مُنْذُ زَمَنٍ في شَوارعٍ غابَ عَنْها القانونُ والنِظامُ وسادَ فيها الإختلالُ والفَوضى كَسائِرِ أمورنا الأخْرى فَوضى في فَوضى؛ فَقَرَّرْتُ الذِهابَ والإيابَ بِسِيّارَةِ الأجْرَةِ .

خَرَجْتُ إلى الشارِعِ وما إنْ وَقَفْت على الرَصيفِ حتى تَراصَفَت أعْدادٌ مِنْ سِيّاراتِ الأجْرَةِ أمامي؛ كُلُها تَشْتَرِكُ بالحَجْمِ الأصْغَرِ والّلوْنِ الأصْفَرِ؛ كأنها عُلَبُ سَردينٍ لا تَكْفي لأثْنَيْنِ؛ لا تَسْتَوْعِبُ البَدينَ والطَويلَ ولا تُريحُ القَصيرَ والهَزيلَ .

ما إنْ رَكِبْتُ في أوَّلِ سِيّارَةٍ حتى شَعَرْتُ بِضِيقٍ وقَلَقٍ لأني وَجَدْتُ في السائِقِ خِفَّةَ وطَيْشاَ بِنَزَقِ؛ وتَعَجَّلاً وتَهَوّراَ في حُمْقٍ؛ قَصَّةُ شَعْرِهِ جَعَلَتْهُ كَطَيْرِ الهُدْهُدِ وصَوْتُهُ كَصَرِّ الجُدْجُدِ؛ اما شَارِبُهً ولِحْيًتُهُ فَتِلْكَ حِكايَةٌ أخرى تَصْميمٌ عَجيبٌ وموديلٌ غَريبٌ .

ما إنْ تَحَرّكَ حتى أخَذَ يَمْرُقُ بِسِيّارَتِهِ مِنْ بَيْنِ السِيّاراتِ كَأنَهُ الرّعدُ بِكَصيصٍ وأصيصٍ وبَصيصِ ويَجْعَلُ السوّاقَ الآخرينَ في حَيْصٍ وبَيْصٍ؛ وهو يَتَباهى كَفَلَتانٍ مِنْ الفِلْتانِ في زَمَنِ الفَلَتانِ .

ومَعَ حَرَكَتِهِ الّلولَبيةِ وإنْعِطافاتِهِ الفُجائِيَةِ أتَقَلّبُ وأتَشَقْلَبُ يَميناً وشِمالاَ وعِنْدَ كُلِّ فَرْمَلَةٍ أكادُ أخْرُجُ مِنْ الزُجاجِ الأمامي حتى أصَابَني العَمَهُ ولَمْ أعُدْ أدْري أيْنَ وُجْهَتي مِنْ شِدَّةِ إرْتِباكي وحيرَتي .

فقلت: على مَهْلٍ يا عَمْ فَقَدْ عَمَّني الخَوفُ؛ ارى إنّكَ تَقودُنا الى مُهْلِك . طَلَبْتُ إيصالي إلى مِنْطِقَةِ الرَّحمانيةِ ولَيْسَ إلى المَقْبَرَةِ .

أطْلَقَ ضِحْكَةً عاليةً و

قال: وعَمَّ تَخافُ ومِمَّ يا عَمْ؟ وأنْتَ بِعُهْدَةِ سائِقٍ ماهِرٍ لِلسُرْعَةِ قاهِرٍ وعلى الطَيرانِ قادِرُ؛

قلت: (مُتَعَجِباً) طيّارٌ أنْتَ أم طائِرٌ؟

قال: لا هذا ولا ذاكْ؛ ولكن لِشَطارَتي في السِياقَةِ السَريَعَةِ فَإنَّ رِفاقي يُلقْبونَني بِعباسْ طَياّرةْ؛

قلت: حَمْداَ لله إنَّكَ تَمْلِكُ سِيّارَةً لا طَيّارَةً؛

قال: لِيَطْمَئِنَ قَلْبُكَ هذه السِيّارَةُ لَيْسَتْ لي وإنَما أعْمَلُ أجيراَ عِنْدَ صاحِبها؛ ومِنْ أيْنَ لي أنْ أشْتَري سِيّارَةً وأنا تَخَرَّجْتُ مِنْ الكُلِّيَةِ عاطلاً بِدَرَجَةِ إمْتِيازٍ مُنْذُ سَنَواتٍ عَديدَةٍ؛ ولَمْ يَكُ أبي بَرْلمانياً أو وَزيراً أوْ رَئيساً لِكُتْلَةٍ أوْ لِحِزْبٍ أو تاجِراً كَبيراً أو مُديراً؛ وإنَّما كانَ مِنْ أصْحابِ العُقُولِ خَدَمَ الدَوْلَةَ لِأكْثَرِ مِنْ أرْبَعَةِ عُقودٍ وراتِبُهُ التَقاعُدي لا يَكْفي لِشِراءِ أدْوِيَةِ الضَغْطِ والسُكَّري .

صَدِّقْني يا عَمْ لَوْ لَمْ أقُمْ بِهذِهِ المُناوَراتَ والمُجازَفاتِ لَما خَرَجْنا مِنْ الإزْدِحاماتِ إلاّ بَعْدَ ساعاتٍ .

قلت: ولكِنَكَ تُخالفُ وتُغامِرُ وبِحياةِ الآخرينَ تُخاطرُ .

قال: أقْبَلُها مِنْكَ يا سَيدي؛ إذَنْ أنا المُخالِفُ والمُغامِرُ والمُخاطِرُ ألَيْسَ كَذلكْ ؟

واللهِ لَمْ تُنْصِفْ ولَمْ تَعْدِلْ في حُكْمِكً؛ لَقَدْ ساوَيْتَ بَيْنَ الظالِمِ والمَظْلومِ بَلْ تُبَرّئُ الظالِمَ وتُدينُ المَظْلومَ؛ باللهِ عَلَيْكَ هَلْ هُناكَ قانونٌ أوْ نِظامٌ وبِالذاتِ في الشارِعِ حتى لا أخالِفُهُ؛ إنّها كَما ترى (حارَةْ كُلْمَنْ إيدو ألو) كَما يَقولُ الفنانُ دُريد لحّام؛ ثم تقول إني مُغامِرٌ نَعَمْ قّدْ أكونُ مُغامِراً ولكِنْ في طَلَبِ رِزقي ونَحْنُ نَعيشُ في زَمَنِ قَطْعِ الأعْناقِ والأرْزاقِ مَعاً؛ والأخْطَرُ مِنْ هذا إتَهَمْتَني بِالمُخاطَرَةِ بِحياةِ الآخرين وأنْتَ تَنْسى مَنْ خاطَرَ وضَيَّعَ الأرواحَ والأمْوالَ ومَنْ أوْصَلنا إلى هذا الحالِ؛ قُلْ لي هَلْ أنْتَ مِنْهُمْ أمْ مِنْ أهْلِ العَصْرِ الحَجَري هههههه؛

قلت: كَلامُكَ دَوَّخَ رَأسي وأصابَهُ بِدُوارٍ أنْزِلْني قَبْلَ الإسْتِدارَةِ أرجوكْ .

 

و الى الحكاية التالية

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم