صحيفة المثقف

"حشومة" المكبل الخطير لملكة التفكير وإرادة الخلق والإبداع

حميد طولستخلال تطور عادات وتقاليد المجتمعات، تظهر مصطلحات غير محكوم بقوانين مدنية أو شرعية، تتوارث الأجيال ما تحمله من دلالة مجازية على التحكم في تعامل أفراد المجتمع فيما بينهم، ومن بين تلك المصطلحات المتوارثة من جيل إلى جيل، التي يزخر القاموس اليومي لدارجتنا المغربية، بالكثير منها، والتي من أهمها، أو على الأصح هي الأخطر، مصطلح "حشومة " بكل ما تتضمنه من وقاحة وفجاجة وقلة لباقة وانعدام مداراة أو مراعاة للمشاعر، والتي تحولت في المخيال الشعبي إلى معيار مسلم به لقيم الصواب والخطأ، لا يجوز الطعن فيه، على الرغم من نقضه أحياناً منطقياً أو شرعياً ، ورغم كونه مصطلح ذي معان ومفاهيم مغلوطة، يعسر، في كثير من الأحيان، أن نجد لمدلولها ترجمة حقيقية خارج الدارجة المغربية وبعض الدارجات المغاربية، والتي تدل غالبيتها دلالة واضحة على أنها عبارة قوية كابحة رادعة وقاهرة، تكرس قيم العنف ونبذ الآخر، وتعطيل تحرر الإنسان، وإعاقة انطلاقه نحو أفاق الإبداع والابتكار الرحبة، بما تحمله من معاني العيب والعار كأسلوب للإذلال والإهانة التي تجعل منها لعنة تثقل كاهل الإنسان بكل أحاسيس الذنب، وكَبلاً يُقيد كل صوت ينشد التغيير والتجديد، وحاجزا منيعا يصد الإنسان عن المقاومة ويجعله مهزوما منكسرا مضطهدا و مقتلعا.

لم أكن أدرك في صغري المعنى الحقيقي لـ "حشومة"، ولم أشعر قط بتأثيرها على صعيد الواقع والوقائع المعاشة أنداك، وكانت بالنسبة لي من المصطلحات المبهمة التي لا تثير لدي لا القلق أو الأسئلة المحيرة، وأذكر جيدا أنني كنت أسخر مع الساخرين المتمردين عليها بترديد ما يقوله رجل الشارع فيها : "لحشومة مرات الشيطان" .

ولم أفهم مدلول ""حشومة" الحقيقي إلا في وقت متأخر - وما أقسى،كما يقال، أن نفهم ما يمر بنا في وقت متأخر جدا - وأنها، رغم إبهامها المعجمي، تعني تارة الخجل، الذي يتملك المرء عند إتيان أي فعل من الأفعال، وتارة أخرى تعني الحياء بمفهومه المشوه الذي تحكمه العادات ولا يترك للمرء سبيلا لإثبات ذاته من حيث هو فرد، والذي كنت وجيلي ضحية له لزمن طويل، وتارة ثالثة، وهو الأخطر، تجمع بين معاني الحياء والخجل وبين الحلال والحرام، ما يجعل مفهومها يرتبط في المخيال الجمعي المغربي بالدين، وعلى الأخص جانب الحلال والحرام منه، أكثر من ارتباطها بالجانب الأخلاقي، ما يجعل تأثير الحلال والحرام اللذان هما معيارا الإيمان والعصيان لدى المسلم، يسقط وربما يتلاشى ويندثر أمام خلط ما يمنعه الدين ويعاقب عليه الله شديد العقاب، بمفهوم "الحشومة" الذي يجعل القوانين الشرعية، على الرغم من صرامتها، تقف عاجزة أمام تسهيل هذا المفهوم الديني الخطير للـ"حشومة" لتعايش الفرد والجماعة مع الحلال والحرام دون تأنيب ضمير، وتبقى "حشومة" من أخطر مفردات العادات والتقاليد، التي تجعل من المجتمعات العربية مجتمعات تخاف "الحشومة" أكثر من خوفها من الله، وتخشى العيب أكثر من الحرام، وتحترم الأصول قبل العقول، وتقدس رجل الدين أكثر من الدين نفسه،

أمام هذا الدور الخطير لمصطلح "حشومة" الذي يكبل ملكة التفكير وإرادة الخلق والإبداع لدى الإنسان، يجب علينا قبل أن نستعمل جزافا تلك العبارة المهينة لنعيب بها على الآخرين سلوكياتهم، سوء باسم الأخلاق أو باسم الدين، أدعو المعيب اللوام للتنازل عن التمسك بفردية أفكاره، والتخلص من عقدة امتلاك الحقيقة المطلقة، ومناقشة المخطئ، وتقبُّل آرائه على أساس أنه بشر مثله خلقه المولى عز وجل بنفس ألهمها فجورها وتقواها، حتى لا يكون كمن يفتّشُ على أيّ هفوة، أو أي خطأ، أو أي موقفٍ سلبيّ واحد، ليلوم الشخص المخطئ، وينسِفَ به كلّ مواقفِه الإيجابية، وذكرياته الجميلة، ويمتنع عن منحهِ فرصة الثانية لتصحيح خطئه، وكأنه لا يرغبْ في الاحتفاظِ له بالصور الجميلة ويريد التخلص منه وشطبه من حياته، بسبب أمورٍ سخيفة، بعيدة كل البعد عن - الكذب والسرقة وخيانة الأمانة والعقوق ... إلخ إن الأمر لجلل ومؤلم جدا أن نخسِر عزيزًا بكثرة اللوم والعتاب، لذلك أدعو كل لوام أن يجلس بينه وبين نفسِه، ويأخذ نَفَسًا عميقًا، ويتخيل أنه فقدَ أحد أصدقائه، أو أقربائه أو أي حبيب من أحبّابه، لتلويحه بسيف الـ"حشومة " في كل اتجاه، لأي خطأ سخيف .

وبالمناسبة تحظرني نصيحة تكسب الإنسان القلوب وتربحه المواقف إذا هو واظب على تعامل مع من حوله على أساسها، وملخصها : أنك إذا كرهت الخطأ من غيرك، فلا تكره مع المخطئ، وإذا أبغضت المعصية من شخص فسامح وارحم العاصي، وإذا انتقدت القول فاحترم القائل، حتى تكون كالطبيب الذي يداوي المرض ولا يقضي على المريض، وهناك حكمة قديمة معلقة على جدران البرلمان الأنجليزي تؤكد على أنه لا يكفى أن تكون على حق، بل يجب أن تستخدم أسلوباً يؤثر في محدثك ويحفزه على الإنجاز والتحسن، تقول الحكمة: "إن كل شيء يعتمد على الأسلوب الذي يتحدث به الإنسان وليس على الموضوع بحد ذاته،فعبر عن رأيك بشجاعة وحرية، ولكن أيضاً بلطف وتأدب".

 

حميد طولست

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم