صحيفة المثقف

شير فضة

rahman khodairabasالى صديقي لؤي زهرة

شير فضة: ضريح في زقاق كربلائي قديم. يمتد الى سنين معتقة بالغبار، متجذرة في مجسم لمدينة تفوح برائحة الغربة. وكأن وشم معركة الطف قد أسبغها بلون العطش رغم خضرتها الوارفة .إنها الأزقة التي تنسج بعضها كخيوط متشابكة، تنتهي بالأضرحة، وقد تبدأ بها . إنه لون كربلاء المضرج بالدم والدمع .

حينما بدات الحافلة سيرها من بغداد بإتجاه كربلاء . بدأ الطريق يفصح عن ملامحه الشهية :

غابات من النخل تحف بالفرات الأوسط، الذي يبدو شاحباً وبعيدا، خضرة متناثرة مابين النهر وَالنَّخْل؛ وكأنها تتحدى هجيرة الارض القاحلة .

أهي أرض السواد؟

تساءلتُ وأنا أحدّق من خلال نافذة السيّارة التي تنهبُ الارض في سرعتها .

كانت السيطرات العسكرية تشوّه أفق الخضرة المتدفق عبر شموس تموزية حامية . والنخل يبدو منزويا على ضفاف الأنهر . أما السعف المستلقي على العثوق اليابسة، فيتحول الى ظل باهت لجنود السيطرات في لهاث الظهيرة. الطريق الى كربلاء مسكون بالمطبات والحفر التي تمتد بدون نهايات. النخل يبدو سرابا في هذه الارض التي لاتعرف الشفقة.

إستفسرَ جندي السيطرة وهو يلتهب تحت مظلة من الصفيح عن وجهتنا :

كربلاء. قال السائق بدون مبالاة ..أردف الجندي : هوياتكم رجاءَ

يتكرر الموقف كلما توغلنا نحو هذه المدينة المثيرة، والحافلة بالنوايا والحزن والابتهالات والآهات .

مدينة لم أزرْها منذ (حادثة نهر الحسينية) :

حينما كنتُ صغيرا إصطحبني أهلي الى (الزيارة). وهو تعبير شائع، ويعني السفر الى كربلاء للتبرك في مراقدها.

لكننا – أنا وأخي- إنطلقنا في رحاب نهر الحسينية الصغير ؛ والذي يلوذ بين النخل والشجر الكثيف. وفي لجة رشاش الماء الذي كنّا ننثره على بعضنا ، بدا لي- فجأة - جسدُ إمرأة، يذوب في موج النهر المتدفق. خصلات شعرها تتلوى مع فقاعات النهر ويداها تخبطان الماء بعنف .

صرخت بأبي الذي كان يَسجرُ غليونه على الشاطيء ويستلقي على جذع نخلة .

إندفع أبي في لجة النهر، ليقبض على يد قد استسلمت لعنفوان الموج المتحرك . أخرجها من النهر وقطرات الماء تتسرب بين مسالك لحيته البيضاء . صرختٍ المرأة وهي تستجدي الهواء . بينما كان أبي يتمتم بآيات لم افقه مغزاها، وهو منهمكٌ بإنقاذ هذا الجسد الأنثوي الذي كاد ان يبتلعه النهر. انتفضت المرأة وهي تلتهم الهواء بعمق، محاولةً تغطية فخذيها بثوبها الأسود الملتصق بجسدها . تعثرتٍ بمشيتها وهي تختفي بين البساتين .بينما كان أبي يبحث عن غليونه بذهول، وفي قسمات وجهه مسحة من الإحساس بالبطولة . دخّن غليونه العتيق وهو يتكئ من جديد على جذع نفس النخلة .

سنين طويلة تركت ميسمها على نهر الحسينية . تأملتُه اليوم بصمت وانا أتذكر خصلات إمرأة بلون العاج تبحث عن الهواء . نهر الحسينية الذي رمقته بعد دهور من النأي والغربة والجفاف .

هل يتوقف لسماع تسائلي؟

أين ذهبت جدائل تلك المرأة التي كاد أنْ يبتلعها نهر الحسينية ذات يوم؟

سأنتظرك بعد القطع .هذا ماقاله صديقي عبر الهاتف . مما قطعَ عليّ مشيمة الذكرى.

ربما كان صوت الموبايل غير واضح ! ماذا يعني صاحبي بالقطع؟

ربما تقاطع الطريق ! هذا ما أقنعتُ نفسي في تفسيره. تخيلتُ كربلاء قد إزدانت بالتقاطعات للشوارع الفارهة المجهزة بأضواء السير .

أخذت حقيبتي من التاكسي . حيث أشار لي سائقها الى مايشبه الدهليز المحاط بالقضبان .

سرت متوجسا بين زحام التفتيش .

قابلني شرطي في القطع .تلمس حوافي السروال المتعرّق . فتح حقيبة سفري وهو منهمك بحديث جانبي مع شرطي آخر يلهو ببقايا سجارته.

بدا صاحبي من بعيد وهو يُلًوّحُ لي، بين الزحام والسيارات القديمة والكيات والباعة المتجولين والستوتات وألأكشاك التي تلتهم الارصفة .كانت ملامحه تغرق في الغبار، وحبيبات العرق التي تتسلق جبهته تبدو كلون السعف . سرنا في أسواق مزدحمة بالمارة والبضائع الملقاة على قارعة الطرق، محلات الملابس والاحذية والحلي والمسابح والعطور. الحلويات الشعبية والمطاعم ومحلات الأزياء وصالونات الحلاقة.

كانت الشمس تنهمر من بين فجوات الأسقف وأعمدة السوق الذي لذنا به عند الهجيرة .حتى الظلال في عتمة الاسواق إكتسبت شيئا من لسعة الشمس .

في الأسواق تتكدس الفوضى، وبائع الشاي يلقم الفرن بالجمر، وهو يمسد جبهته التي تنث بالعرق . كانت الأزقة تتلقف خطواتنا ونحن نلتقط من الذكرى بعض بريقها .

إلتقيتُ صاحبي ذات مساء بصري حيث ملتقى الرواية . على هامش الملتقى كان هذا الكربلائي البهي والصامت يختزن سحر الحديث، ولعنة السخرية السوداء، وكان قاموسا لمفردات البؤس العراقي . جعل من (ابو عباس) - بطل حكاياته التي لاتنفد - نافذةً لإطلالة على واقع كالحجر .كان ينشر ما يكتب في صفحته على الفيس بك. أو في بعض الصحف.

وفي كل ذلك يتعامل مع الواقع بالبسمة الهادفة.

قلت له، وهو يصر على حمل حقيبتي الثقيلة . بينما الألم يبدو على ملامحه العميقة :

لم أزر هذه المدينة منذ طفولتي.

لم يسمع ملاحظتي الباهتة، أو لم يكترث لها .

وصلنا (دربونة) تتكئ على السوق . في زاويتها بائع الشاي ؛ يتحلق حوله زبائن في مختلف الأزياء والإعمار والملامح . يرتشفون أقداح الشاي بصمت. لكنّ أحدهم كان يضحك بشكل هستيري. مما دفع الآخرين لإتخاذه وسيلة للسخرية. كان طويل القامة . أسنانه المتساقطة لم تتمكن من إشاعة إبتسامته المبللة ببخار إبريق الشاي المتوهّج بالجمر.

كان الزقاق الذي دلفنا اليه يتعثر في إنحناءاته . قال لي صاحبي، قبيل أنْ ندلف الى الفندق الذي إستضافني فيه :

- مقام شير فضة، هل تريد أن تزوره ؟ وحينما تلثمت بدهشتي قادني إليه .

حاول أن يشرح لي:

إنها إمرأة صالحة، كانت خادمة للأمام الحسين .

كان ضريحها بارزا عبر نتوء حجري . الشباك المطلي بالفضة يقابل الزنقة المثلومة على نفسها . وحينما تتجه يسارا يقابلك ضريح مضرجٌ بالحنّاء . نظرتُ بصمت الى الضريح الناتئ من الحجر ودلفتُ الى الفندق.

في المساء. كانت كربلاء حافلة بالغرباء التي ترطن بكل اللغات. تلمستُ العُجمة في أغلب الأشياء المحيطة. ملامح العابرين وأزيائهم،الشوارع واللافتات والاستعلامات . طبيعة المعاملات والسكن والعادات . لكن هذه العجمة تذوب في زاوية الشارع غير بعيد عن مقام الإمامين . ثمة زاوية إنبثقت من الكونكريت المنتصب لاسباب أمنية .هذه الزاوية التي يتكوّم حولها أكثر الكربلائيين قدرة على العطاء.

قنينة غاز. طاولة خشبية متآكلة . سماور قديم وإستكانات الشاي.

في هذه الزاوية الحجرية الأكثر زُهدا في العالم. يلتقي أدباء ومسرحيون وشعراء ونقاد وأكاديميون. ويحيلون هذه الزاوية الى إشعة بنفسجية من حوارات وأحاديث .

أدب وشعر وفكاهة ووجوه تتحدى الحجر.

في آخر الليل، عدتُ الى فندقي المقابل لضريح السيدة شير فضة. كانت أضواء المصابيح شاحبة. والخطوات العجولة قد إنسحبت. والمحلات قد أقفلت ابوابها. كذلك المطاعم والمقاهي والحوانيت.

دخلتُ الفندق واستلقيتُ وحيدا في غرفتي التي يطل شبّاكها على أسطح عارية وبائسة ولكنها حافلة بغابة من صحون الفضائيات والأسطح الكونكريتية البشعة . ليس ثمة شجرة أو نبت او محاولة لزرع العشب في هذه الأسطح الخاوية من الحياة.

حينما انتصف الليل إجتاحتني رغب لرؤية ضريح هذه السيدة المسماة ( شير فضة).

بخطوات متعثرة غادرتُ الفندق المطفأ المصابيح. إتجهت الى الضريح الذي لايبعد الا خطوات معدودة. تسمرتُ أمام الظلمة الحالكة وانا أحدّق بالضريح من خلال الشباك الوحيد المطلّ على الشارع.

إنبعث ضوء خافت من عمق الضريح وكأنه ضوء شمعة يؤرجح ذؤابتها ريح خفيفة. من خلال الضوء الشاحب تأملت ملامح لوجوه كثيرة صامتة، تحدق في الفراغ. بين هذه الوجوه. ثمة إمرأة تنتفض من رُقاد عميق.

تأملتُ ملامحها بحيرة ودهشة. إنها ذات المرأة التي إبتلعها النهر قبل عقود من السنين، لولا جهود أبي الذي يدخن غليونه بصمت.

حاولتُ الاستفسار منها. بيدَ أنها كانت غارقة في تسبيحاتها وتوسلاتها

صرختِ بها :

يا إمرإة النهر، الا تتذكرين أبي ؟

لكن صرختي ذابت بين فحيح أصوات الجمع المتسرب من الزقاق.

كانوا يسيرون بخطى متثاقلة. غير آبهين بالعتمة المحيطة بهم. وكانت إمرأة النهر بينهم.

نسوة وأطفال، يتسربون من ضريح شير فضة ويملؤون الأزقة بخطى متثاقلة. بينما أصواتهم وتذرعاتهم تتناغم مع خفق أقدامهم. يتلفتون نحو الظلمة المحيطة بهم بدون إكتراث. لان أبصارهم كانت مُصَوّبة بإتجاه أضواء شاحبة . ولكن هذه الاضواء كافية – على ما يبدو- لإستقطابهم إليها.

لم أستطع أن أنام تلك الليلة.

وقبل أذان الفجر . عدتُ الى الفندق متعبا قلقا، تتراءى لي الوجوه الساكنة والمبتهلة، والتي تسير مثقلةً بعذاباتها .

لملمتُ ملابسي وغادرتُ الفندق مسرعا وكأني أهرب بإتجاه الجنوب.

 

رحمن خضير عباس

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم