صحيفة المثقف

عجيل مزهر روافد ابداعية للفن البصري المعاصر

khadom shamhod2يذكر علماء الاجتماع ان للبيئة دورا كبيرا في منتج الفنان كما هو في دور الوراثة . ولهذ فان من اهم العوامل المؤثرة في العملية الابداعية والطريقة الادائية هو ذلك المزاج الفني الذي تتحكم به طبيعة البيئة التي نشأ فيها الفنان .. عجيل مزهر نشأ في بيئة بصراوية لها عمق حضاري في الادب والشعر والفكر والفن، فهو ينهل من هذا المعين الذي لا ينضب . وكانت الابلة (البصرة) تعد من اقدم المدن العراقية بل يعتبرها البعض احد المدن السومرية ومن عجائب الدنيا السبعة في ذلك الوقت وكانت تسمى ايضا – الخريبة – وفي خطبة الامام علي –ع- في البصرة (يا اهل البصرة والبصيرة والسبخة والخريبة) وقد نقلها ياقوت الحموي في كتابه – معجم البلدان – والخريبة هي المدينة التي بقت اطلالها مندثرة وظاهرة ... ويذكر انه ظهر في هذه المدينة العريقة رسام يدعى احمد الخراط البصري في النصف الاخير من القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) اشتهر في رسم الاشخاص والحيوانات ويعتبر من طلائعي الفن في العالم الاسلامي، في وقت كان تحريم الصور على اشده . وكانت اوربا تعيش في العصور المظلمة .؟؟

و قد اشتهرت البصرة في العصر الاسلامي في قصورها المترفة الراقية وبيوتها التي زينت بالشناشيل او المشربيات حيث تلامس احيانا بعضها البعض في ازقة ضيقة عتيقة، وهو اشارة الى التوادد والتراحم، وتلك الدردشات النسائية التي تطل من خلال تلك الشناشيل، وقد زينت هذه القصور والمنازل بمختلف النقوش والزخارف الاسلامية، ولازالت آثار بعضها موجودا لحد هذا اليوم ..

بدايات عجيل مزهر:

عجيل مزهر من مواليد البصرة، كان مدرسا في اعدادية المعقل لمادة الرسم . وكان قد فرض هذه المادة على الطلاب كاي مادة اخرى في مسألة الامتحان والنجاح والرسوب .. وهذا ما خلق له مشاكل مع ادارة المدرسة حيث رسب بعض الطلبة، ومن جراء ذلك نقل الى احد المدارس في مدينة الفاو ثم الى مدينة الزبير وهناك حدثت له مشادة اخرى مع احد الموظفين في مديرية التربية على اثرها انزلوا درجته التدريسية فحول الى مدرسة الجبيلة الابتدائية ولما رأى هذه الحالة المزرية قدم استقالته .. في عام 1974 سافر الى فرنسا وسجل في مدرسة الفنون – البوزار- ثم سافر الى ايطاليا ودرس فن الديكور الداخلي، ولكنه لم يكمل دراسته لظروف عائلية . فعاد الى العراق وعمل مصمم ديكور في وزارة التجارة الى ان احيل على التقاعد عام 2002 . ويخبرنا عجيل انه ترك الرسم منذ سنة 1995 بسبب عدم الاقبال على شراء لوحاته ؟؟؟ ويبدوا انه الآن عاد الى ممارسة الرسم بعد جفاء دام اكثر من عشرين سنة ..

اقام عدة معارض فنية خارج وداخل العراق وحصل على جوائز تقديرية كما وجهت اليه دعوات من خارج البلد لعرض اعماله هناك .. كما ان عجيل له مواهب اخرى في كتابة الشعر والقصة وهو خطاط ايضا . وقد كتب عدد من السيناريوهات .. ورافق المخرج قاسم حول فترة طويلة وحضر بعض افلامه.. ..

بدأ عجيل مزهر حياته الفنية في رسم الشناشيل والمواضيع الاجتماعية و الجدران القديمة المتآكلة والتي رسمت عليها بعض الرموز والاحرف والشخبطات والشقوق . وهو في هذا المنحى يشبه طريقة اعمال شاكر حسن آل سعيد، في استخدام الملمس والتأمل في الجدران .. يقول دافنشي (انظروا الى الجدار ستجدونه يحتوي عدة صور خيالية)

قال فيه شاكر حسن آل سعيد (في نهاية الستينات كان عجيل مزهر الذي سرعان ما اصبح فنانا بصريا او شيئا من هذا القبيل في تقديم الفن الشعبي او (فن البوب آرت) في الفن العراقي وكان بذلك يمهد للنزعة المحيطية دون علمه ...)

انا اعتقد ان عجيل لم يسلك في تقنياته ومواضيعه فن البوب آرت كما وصفه شاكر حسن وانما اتجه الى التأمل السريالي والرمزي ونحن نعرف ان البوب آرت هو الخلطة بين الفن والسلعة المستهلكة واول من بدأ به واشتهر هو الفنان الامريكي اندي وارهول 1928 . وقد ظهر في اواسط الخمسينات من القرن العشرين في امريكا وبريطانيا ...

عجيل لم يتخلى عن الشخوصية وعن الاكاديميات في اعماله وقد وضفها باسلوب تعبيري ورمزي احيانا وبمعالجات حديثة . ونجد في لوحة له تمثل فتاة تطرق بابا مقفولا تعلوه شمس والى جانبها نخلة تعصف بها الرياح ويطغي عليها الالوان الصفراء والحمراء . هذا المشهد الرمزي له دلالات فلسفية وروحية ولا يخلو من السريالية .. وحيث نلمس تلك الطاقة الروحية الخارجة من احاسيسه ووجدانه وما تحمل من شحنات ابداعية وسيكولوجية تنساب من خلال خطوطه والوانه .

معرض الحلم:

من ابرز اعمال عجيل مزهر هو ما جسده في معرضه – الحلم – وهي لوحات تمثل مشاهد من عالم الاحلام وبالتالي فهي لوحات نابعة من اللاوعي او ما يطلق عليه بالسريالية . حيث نرى اشكال شبحية مقطوعة الاوصال وملفوفة في اكفان بيضاء وسط ظلام دامس . هذه الاعمال تشير الى اكثر من معنى ورمزية، فهو يستلهم افكاره من العالم الباطني ويعضدها بعالم الوعي في تقنيات واسلوب مألوف وبالتالي فهي من تأثيرات المدرسة السريالية .

المعرض اقيم في البصرة ربما عام 1973 ويحتوي على 19 لوحة، ثم انتقل الى بغداد وهناك لاقى نجاحا كبيرا .. وكتبت عنه الصحافة معتبرة ذلك المعرض خطوة جريئة في الاسلوب والموضوع . وقال فيه الفنان محمد حسين جودي (عجيل مزهر مبتكر سريالية عراقية جديدة)، كما قال فيه الناقد علي الدليمي (عجيل مزهر بيكاسو العراق ...) ويقول عجيل ان (معرض- الحلم - احدث ضجة في البصر وبغداد مما دفع بالناقد جبرا ابراهيم جبرا الى جلب كامرة كبيرة ذات عجلات وصور المعرض و اعتبره بداية سريالية جديدة ..)

افكار واعمال مبتكرة:

يقول عجيل انه تعلم طريقة جديدة في استخدام الالوان اطلق عليها اسم - زراعة الالوان – وهي عبارة عن خلط مواد كيمائية بطريقة خاصة فتخرج الالوان بارزة على سطح اللوحة وكأنها نباتات .. ... ثم تعلم طريقة الرسم بالطين وهي عبارة عن ايحاآت من شقوق وفطور الارض التي اصابها الجفاف . حيث يأخذ مادة الطين ويرسم بها مشهد من الارض الجافة بشقوقها وحفرها وتشعباتها وكل ذلك يجري على سطح اللوحة.... ثم يقول عجيل انه ابتكر طريقة اخرى جديدة اطلق عليها اسم –اسلوب الخلايا- ويعني بذلك انه يرسم الشكل من وراء الزجاج الذي فيه بخار فيعطي الزجاج مشهدا على شكل احساس بالخلايا ... ولديه لوحة تمثل ذلك اسمها – المستحمة –

. وذكر لي عجيل انه كتب عنه اكثر مما كتب عن جواد سليم وشاكر حسن وغيرهم لان اعماله كلها عبارة عن مخترعات . كما يقول (تحديت شاكر حسن آل سعيد بان نعرض معا معرضا مشتركا تمثل لوحاته الرسم على الجدران وما يحدث على هذه الجدران من عوامل الطبيعة ولكن شاكر رفض ذلك التحدي ..)

جماعة المثلث:

في عام 1969 او 1970 اجتمع محمد راضي وفاروق حسن وعجيل مزهر في احد مقاهي البصرة واتفقوا على تكوين جماعة فنية اطلق عليها اسم – جماعة الشراع – واصدروا بيانا في ذلك . ثم غيروا الاسم واطلقوا على تجمعهم – جماعة المثلث – واقاموا اول معرض لهم عام 1970 في قاعة كولبنكيان في بغداد . ثم انفرط التجمع بعد سفر عجيل الى الخارج عام 1974 ..

عاد عجيل مزهر للرسم من جديد بعد سنوات عجاف يابسات طويلة وسط افكار ومشاريع كثيرة مما يعزز قدرته الابداعية في التجديد والابتكار للوصول الى القيم الجمالية النوعية دون ان يتورط في المواضيع الانحدارية او يحدد نفسه بالمحيطية بل ينفتح على عالمية الفن ومغزاه الجمالي والفكر الانساني المتمدن .... تحياتي

 

د. كاظم شمهود

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم