صحيفة المثقف

ماسر إهتمام المعماريين بعلم الآثار؟!!

هاشم عبود الموسويالمقدمة: عندما نُقر بتقارب الفنون من بعضها فإننا نجد أن كلاً من فن العمارة، وعلم الآثار على صلة وثيقة ببعضها في المادة التي يعالجانها، فكلاهما يعالج النتاج المادي الذي يعكس جهد الإنسان في محاولته إثبات وجوده على سطح البسيطة وتملّكها، أحدهها ينتجه والآخر يتقصاه. ويحتل تاريخ العمارة موقعاً وسطاً بين الاثنين، وهو موضوع دراسي عام للمعماري، لإكمال استعداده للممارسة المهنية. وتتشارك هذه الفنون معاً في مواجهة إشكالية الحداثة فتتداخل مجالات كل منها، فالموقف بين الماضي، والتاريخ، والتراث، فيه من الأساطير بقدر قد ينقص أو يزيد عما به من الحقيقة العلمية، وهو دوماً يصطبغ بصبغة الحاضر. وفيما بين المعلومات التي يضعها عالموا الآثار بين أيدينا والحقائق التي يؤكدوها، وبين عمائرنا التي نقدمها بصورة أو بأخرى، على أنها نتاج فكر راعٍ لما سبقه، كما لمعطيات حاضره، ثمة فجوةٍ، على المعماري دوماً في سياق نتاج فكره وعمله أن يجد لها معبراً.

بل يمكننا القول بأن جُل فكر المعماري من حيث «لِمن نبني؟ ولماذا نبني؟» يقع في ذلك الشق، وفي تلك الفجوة. والإبداع في العمل التصميمي ليس إلا إبداعاً لذلك النسيج الذي يصل بين ما كان أن يكون، والفكر المعماري، في ذلك قيمة بقدر ما لألفاظه، وأن كانت لوحداتها الغلية أحياناً. مادة الإبداع إذاً هي فكر وعمل، وقول.

فلنتتبع منطق المعماريين في تعاملهم مع مادتهم المشتركة وعلماء الآثار والتي تشكل في مجموعها أعظم نتاج مادي للإنسان، ألا وهو "المدينة"، ولننظر إلى المعمار الذي سَخّر العلوم والفنون في كل مراحل تشكلها منذ نشوء أول تجمع بشري في جنوب وادي الرافدين قبل سبعة آلاف عام، وحتى مراحل تشكلها في الغرب بدءاً في عصر النهضة في منشأها جمهورية فلورنسة. عسى ذلك ما يُثري فكرنا المعاصر في معالجته وتصديه لإشكالية الحداثة وما بعد الحداثة.

هنا في هذه الدراسة المقتضبة، نهدف وبتواضع إلى المشاركة في إثراء الفكر العربي المعاصر في موضوع التراث والحداثة وبإلقاء الضوء على التجربة الأوروبية، والأمريكية الشمالية في هذا المجال من أجل فهم أفضل للمسار الذي خطته تلك الفنون والعلوم في أهم مراحل تشكلها في الغرب.

فلورنسه والآثار الرومانية:

فلافيو بيوندو Flavio Biondo وبجيوه يراشوليني Bggio Bracciolini هما مؤسسي علم الآثار الحديث. يقول بيتر مري Peter Murray مؤلف الكتاب المرجعي المعروف "عمارة النهضة" “Renaissancd Architecture” (1) إلى جانب هذين نضيف ليوني باتسيتا ألبرتي (1404-1472) Leoni battista Alberti أقدر منظّري عمارة وفن عصر النهضة إذ يرجح (مري) بأن الأخير لابد وأنه كان برفقة كل من دونتيللو Donatello وفيليبو برنلسكي Filippo Brunelleschi في زيارتهما لأطلال المباني الرومانية التي كانت ما تزال ظاهرة للعيان في روما آنذاك، شاهدة على عظمة ممن قاموا ببنائها قبل ذلك بقرون(3). أما برنلسكي فمن المعروف نجاحه في تغطية قبة كنيسة سانتا ماريا ديل فيوره Santa Maria del Fiore في فلورنسه دونما استخدام لطوبار مركزي كامل(4). وتعود دراسته المستفيضة للمباني الرومانية القديمة التي كانت ما تزال قائمة في روما آنذاك، ومن أهمها البانثيون Pantheon، الذي كان في أفضل حالة قياسياً بالمباني الأخرى المهتدمة والمهمة (شكل 1)(5).

لكن الفضل الأكبر في تعزيز الاتجاه نحو محاكاة العمارة والفنون الرومانية المختلفة يعود لكائنات ألبرتي. وهو لم يكتف بالكتابة فقط إذ قام بتنفيذ عدد من المباني مثل بلاتزو روشيللاي Palazzo Rucellai في فلورنسة، تيمبيوه ملاتيستيانو Tempio Malatestiano في ريميني Rimini، ثم كنيسة سانتا ماريا نوفيلا Santa Maria Novella: كنيستي سانت أندريا وسان سبستيانو. ما من شك أن ألبرتي أدرك منذ البداية غموض النص الفتروفي Vitruvian text، وهو يعتبر أقدم مخطوطة عن العمارة من العصر الروماني قرابة القرن الأول قبل الميلاد، فكان كتابة De Re Aedificatiria(6) على الأقل في جزء من أهدافه، محاولة للتوفيق بين نص مخطوطة فيترفيوس والعمائر الرومانية الباقية المتناثرة في أنحاء روما والتي بدا الفارق بينها وبين الصفات التي يصفها فيترفيوس فيما يجب أن تكون عليه، كبيراً بيد أن تقنين طرز الأعمدة Canonization of the orders بشكله التام تمّ لاحقاً على يد سبستيانو سرليو (1475-1554/1555 تقريباً)(7) Sebastiano Serlio ومن بعد دانيل باربارو (1514-1570) Daniel Barbaro، الرياضي الفيلسوف، صاحب اندريا بلّلادّيو Andrea Palladio، ومحقق أحدى الطبعات الرئيسة لمخطوطة فيتروفيوس (8).

إنعكس الغموض في نص المخطوطة الرومانية على ممارسات المعماريين، مثل ما تم في تصميم بلّلاديو للفيّلا الشهيرة في ضواحي فشينزا Vicenza، والمعروفة باسم الروتندا la Rotunda ففي محاولته محاكاة واجهة البيت الروماني القديم طبق بلّلاديو منطقاً كان مؤداه أن واجهة البيت لابد انها هي ذاتها واجهة المعبد، فإذا كان المعبد الروماني ذي الواجهة المقوصرة Pedimented front هو "بيت الله"، كما تبادر لبلاديو، فلابد أن البيت الروماني كان مقوصر الواجهة. أي أن شكل المعبد، كما يبينه البانيثون في روما، لابد أنه يعكس شكل البيت الروماني. لذا جعل بلاديو الروتندا بواجهات مقوصرة كالمعبد. وبالرغم من قصور وسذاجة هذا المنطلق كما تبين لاحقاً بيد أنه أعطى لبلاديو استشراقاً خلاّقاًَ ساعده في صياغة مبانيه السكنية التي اشتهر بها.

فرنسا وآثار الإغريق:

وبالرغم من شعبنة تقنين طرز الأعمدة على يد سرليو، بيد أن الفروقات الواضحة في نسبتها فيما كان مائلاً منها في المباني الرومانية المختلفة الباقية في روما أضحى مدعاة للشك في صحة ذلك التقنين وحافزاً للاجتهاد في التفسير كما بدا في ممارسات المعماريين مما يدرج في العادة تحت عنوان الباروك، ومن أشهر ما قام به ميكائيل انجلو Michelangelo في مبان عديدة، فتعددت الاجتهادات وتنوعت الممارسات. لكن هذه التعددية لم ترق للملكية الفرنسية التي كانت قد أحكمت سيطرتها فبسط ملك لويس الرابع عشر نفوذه، دونما منازع من نبلاء وأمراء فرنسا، معززاً مركزية سلطته. وكان من الطبيعي أن يهرع البلاط الملكي إلى استحداث الأكاديميات المختلفة ومنها أكاديمية للعمارة عام 1671 بجهد خاص من الوزير كولبيرت Colbert، وذلك على غرار سالفاتها في فلورنسة وفينيسيا(9). وكان أول موضوع على جدول الأعمال في أول اجتماع لها هو تحديد مفهوم "الذوق المعماري Architectural Taste" وهو ما يتعلق بتقنين طرز الأعمدة وبخاصة تحديد نسبها. ولم يك ذلك غريباً أو بعيداً عما كان يجري في البلاط الملكي من تحديد للذوق العام في السلوك واللباس والفن بشكل عام بل أنه يصب في اتجاه واحد نحو تقنين متنامي في كل منازع الحياة.

وكان على رأس من ساهموا في تقنين الذوق المعماري الفيلسوف الفرنسي كلود بيرولت Claude Perrault الذي يُعرف لدى الجماعة المعمارية بتصميمه للواجهة الشرقية لقصر اللوفر في باريس، وقد أصدر بيرولت كتابه Ordonnance de cinq Especes de colonnes(10) في عام 1683 أمضمّناً إياه توصياته في النسب الصحيحة لطراز الأعمدة التي توصل إليها بحساب متوسطات قياسات الأعمدة في المباني القديمة والمعاصرة الماثلة آنذاك مثل الكوليسيوم Coliseum، مسرح مرشيللس Theater of Marcellus، ومن مباني ألبرتي، سكامتسي Scamozzi، سرليو، بلاديو، فنيولا Vignola، ومن أعمال المعماري الفرنسي فيليبير ديلورم Philibert de l’Orme(11).

وظلت توصيات بيرولت مرجعاً للمعماريين الفرنسيين لفترة طويلة تقارب المائة عام وحتى (إعادة) اكتشاف آثار الإغريق في جنوب إيطاليا، "بيتسم وأغريجنتم" Peastum & Agrigentum، التي كانت يتعذر وصول الرحالة إليها، وفي أثينا ذاتها التي تحررت من سيطرة العثمانيين آنذاك فأخذ المعماريون يساءلون أنفسهم في مرجعية عمائرهم، هل هي تلك التي في روما أم أصولها المكتشفة في أثينا، وبالتدريج اخذ صيت المباني الإغريقية كتلك التي نشرت رسومها لأول مرة في كتاب جولين – ديفيد ليروي Julien-David le Roy يطغى على الهالة التي أحاط بها معماريو عصر النهضة الأوائل المباني الرومانية(12). وبدا عجز النص الفيتزرفي في رأب الصدع بين النظرية والممارسة أكثر وضوحاً مما دعى آب لوجييه             Abbe Laugier، الكاتب المعماري، إلى الدفاع عن أصول سلامة العمارة الإغريقية والوصفة الفتروفيّة باقتراحه اعتماد "الكوخ البدائي" (الأسطوري) المصنوع من أغصان الشجر أصلاً للعمارة وذلك في مقالته Essai sur l’architecture التي ظهرت في باريس لأول مرة عام 1753(13) وكانت دعوته بالعودة إلى الأصول (الطبيعية) شبيهة بدعوى المفكر الفرنسي جان جاك روسو Jean – Jacque Rousseau إلى عقلانية الإنسان الطبيعي ممثلاً بشخصية أميل "المتوحش النبيل" Noble Savage في مقابل لا عقلانية الترف الحضاري الزائد في البلاط الملكي وما امتد إليه من أوساط خارجة وممثلاً بعمارة الباروك ولاحقتها الروكوكو Rococo. وتجلّت دعوته في لوحة الغلاف التي رَمَزَ فيها للعمارة مشخصة بهيئتها الأسطورية المعتادة في هيئة امرأة فتية، تجلس على حطام من أجزاء من طرز الأعمدة المنمقة مشيرة ببنائها إلى صبي ملائكي عار في رأسه النار، نحو الكوخ البدائي، أصل العمارة في الطبيعة. ويمكن اعتبار تلك الدعوة صيحة ضمنية لما تلاها من إحداث حتى الثورة الفرنسية. لا عجب إذاً أن اتخذت طلائع الجمهوريين الطراز الإغريقي (النقي على حد الزعم) المحدّث neo Grec طراز الجمهورية الفرنسية الناشئة، كما في أمريكا الشمالية من قبلها، وفي ألمانيا لاحقاً، فأصبح بلا منازع الطراز الجمهوري. وبلغ من ذلك أن سُميت ادنبره "أثينا الجديدة" New Athens.

القوط والشعوب "البداية":

برغم كل الاجتهادات في تحديد الأصول الحقيقية لعمارة الإغريق، إطار الموضوع ذاته، أي عمارة الإغريق والرومان، وهو ما يسمى في العادة بالعمارة الكلاسيكية. لكن في الربع الثاني من القرن التاسع عشر تنامى اهتمام المعماريين وعلماء الآثار بعمائر القوط مما أثار زوبعة من النقاش سمّيت فيما بعد باسم "معركة الطرز" Battle of Styles والتي من أبرز الأمثلة عليها الصراع حول إعادة بناء بيت البرلمان البريطاني في لندن بعد احتراقه والذي بوشر العمل به في عام 1836 على يد شارلز باري وأوغست بيوجن   August Pugin& Charles Barry، فبعد إرساء أساسات المبنى ليكون كلاسيكي الطراز تم تغيير تصميمه بضغط من جهات عديدية ليصبح قوطي الطراز باعتبار الأخير طرازاً إنجليزي الهوية(14).

وتقلب المفكرون بين مناصر لعمارة الإغريق والرومان وآخر للعمارة القوطية، ولا أدلّ على ذلك من سيرة شاعر المانيا يوهان فولفغانغ فون غوته. فقد كان في بداية كلاسيكي النزعة بيد أن نظمه في مدح كاتدرائية ستراسبورغ الذي نشر عام 1773، مهدّ الطريق لاهتمام أوسع بإعادة تقييم العمارة القوطية بشكل عام(15). وكذلك كان الأمر بالنسبة للكاتب الفنان الإنجليزي جون رسكن John Ruskin في تغنّيه بالعمارة القوطية في فينيسيا. ومع نهاية القرن التاسع عشر، أطلق المعماري الفرنسي يوجين امانويل فيوليه لودوك (1814-1879) E.E. Viollet – le Duc تقييماً جديداً للعمارة القوطية معتمداً في ذلك على خبرته الطويلة في عمله بصيانة الكنائس القوطية القديمة في فرنسا، إذ رأى لو دوك، كما أن العمارة القوطية تعكس النظام الإنشائي بصدق وصراحة، بعكس العمارة الكلاسيكية التي لم ير أيّهم علاقة بين طريقة الإنشاء وما يعكسه المظهر الخارجي. فإذا كان أصل المعبد الإغريقي هو الكوخ البدائي المصنوع من الخشب، كما قال فيترفيوس وكما أسهب لوجييه بعده، فإن التحول من استخدام الخشب إلى الحجر أو الرخام كان يوجب على الإغريق والرومان أن يغيّروا شكل المعبد ليتناسب مع مادة وطريقة الإنشاء، لا أن يقلدوا ذات الأشكال الخشبية في الحجر أو الرخام.

بهذه الكتابات والكثير مما يشبهها تحوّل علم الآثار واتسع، فلم يعد قصراً على العمارة الإغريقية، مثلما لم يعد الأدب، بعد شكسبير، مقصوراً على الأدب الكلاسيكي. فجاء الاهتمام بالأدب القروسطي(*) مواكباً أن لم يكن سابقاً لهذا الاهتمام بالعمارة القروسطية. وبالتدريج هانت سلطة الإغريق في مقابل الاهتمام المتزايد بالتراث القوطي. ثم توسعت الدائرة أكثر بعد منتصف القرن التاسع عشر ببروز اهتمام جديد بفنون وعمارة من أطلق عليهم اسم "الشعوب البدائية" في أفريقيا وأمريكا واستراليا ونيوزيلندا. فصار نتاج كل من هذه الحقب والشعوب مجال بحث ودراسة، لا بل أن بعضه أُستخدم أحياناً لالقاء الضوء على نواح غامضة من عمارة وفن الإغريق. وحار المعماريون فما يجب أن تكون عليه عمارة اليوم بسبب التشعب الكبير في دراسة فنون الأقدمين والشعوب غير الأوروبية. وفي محاولة لاستشراف طريق البناء الصحيح في ضوء المستجدات وذلك باستخلاص المبادئ العامة التي يخضع لها النتاج العمراني في شتى الحقب والظروف خرج المعماري الألماني غوتفريد زمبر Gottfried Semper بنظريته في تكوّن الطرز والتي ضمتها طي كتابه "Der Stil"(16) والتي يبين فيها أن النتاج المعماري ما هو إلا نتيجة لمجموع الفنون الصناعية Industrial arts التي تدخل في عملية البناء والتي حددّها بأربعة: الخزف، والنسيج، والنجارة، وبناء الحجر. وكان هذا الطريق إلى عمارة الحداثة، وبه اتسعت الفجوة بين المعماريين وعلماء الآثار.

الحداثة:

ظل موضوع الطراز مدار جدل موسّع بين المفكرين والمهتمين بالفنون والعمارة حتى مطلع القرن العشرين عندما قام الألماني هرمن موتيسيوس     Herman Muthesius ، الملحق الثقافي في السفارة الألمانية بلندن، بتوجيه الضربة القاضية وإسدال الستار على هذا الموضوع وذلك باقتراحه مفهوم البناء         Building بالكلمة الألمانيةBauen بديلاً لما كانت تمثله لفظة "العمارة" Architecture آنذاك من حيث أن المعماري، كما كان واقع المهنة آنذاك، هو بشكل أساسي "خبير الطراز". فجاءت مطالبة موتيسيوس باستبعاد موضوع الطراز من عمل المعماري ضربة في صميم التأريخانية Historicism التي تميزت بها تلك الحقبة، وبهذه الضربة البارعة تأكد محاكاة الأقدمين لأنهم أقرب منا إلى الطبيعة وبالتالي أقدر على فهم أسرارها، فصار التصميم، كما أرتاى زمبر، ومتيسيوس من بعده، أمراً مرتبطاً في المقام الأول بالخامات وطرق تشكيلها، وغير ذي صلة بموضوع الطراز على الإطلاق. فلم يعد من داع لأن يبحث المعماري كثيراً في كتب التاريخ أو يجهد نفسه في إتقان رسم المعابد الإغريقية وطرز الأعمدة ليعيد إنتاجها في مبانيه. كما أضحى علم الآثار أكاديمياً بحثاً محدوداً بقدر الاهتمام بالتاريخ الإنساني بشكل عام.

لكن معماري الحداثة، بسبب محاولتهم حلّ جميع مشاكل المدينة في آن واحد وبضربة واحدة وذلك باقتراح مشاريع ضخمة إلى حد يصعب معه السيطرة عليها، حكموا على أنفسهم بالفشل مسبقاً وخسروا الثقة، فآلت مهنة العمارة إلى من خلفوهم في جوّ عام من عدم الثقة في جدوى نهجهم الثوري. في مقابل ذلك انتعش المؤرخ المعماري وأصبح، كما يقول ديفيد واتكن، «يتغذى كالغراب على البقايا المتهرئة من البيئات العمرانية التي ساهم المعماريون والمخططون والسياسيون في تدميرها»(17).

ما بعد الحداثة(18):

حاول بعض معماري ما يطلق عليه اسم "ما بعد الحداثة" Post Modernism أحياء موضوع الطراز مرة أخرى في محاولاتهم للخروج من مأزق الحداثة في الفن والعمارة والتخطيط، المأزق الذي اعتبره شارلز جنكس Charles Jenks، المؤرخ المعروف ممثلاً في اسكان برويت – إيجوك Pruitt Igoc Housing في سانت لويس بالولايات المتحدة، وهو الذي تم هدم أجزاء كبيرة منه في 15 تموز عام 1972 بعد تفاقم المشكلات الاجتماعية بين قاطنيها وارتفاع معدل الجريمة هناك(19) فكان ما بين ما كان في اتجاه ما بعد الحداثة مبنى المكتبة العامة في وسط مدينة شيكاغو من تصميم المعماري الأمريكي توماس بيبي الذي فاز به من خلال مسابقة عامة طرحتها بلدية شيكاغو في منتصف الثمانينات. حيث قام المعماري بتصميم المبنى على هيئة كلاسيكية مدجّنة بواجهات مقوصرة وفتحات قوسية رومانية ضخمة وجدران توحي بالسماكة والثقل، مع تقليد لتفاصيل عديدة عن المعابد الإغريقية أو نظيراتها الرومانية القديمة أمّا قبول وتنفيذ مثل هذا التصميم في قلب مدينة شيكاغو، غير بعيد عن مباني معماريين رائدين في تصميم المباني العالية من مدرسة شيكاغو Chicago School أمثال وليم هولابرد (1854-1923) William Holabird ووليم لو بارون جيني (1832-1907) William le Baron Jenney(20) فقد كان مفاجأة للكثيرين.

قد تبدو هذه المحاكاة Imitation للبعض مقبولة (في الولايات المتحدة)، لكن ماذا يسعنا القول للدفاع عن مشروع مثل مبنى متحف ج. بول غيتي (1971-1974) J.Paul Getty في ماليبو بلوس أنجلوس الذي هو تقليد شبه تام لفيلا رومانية قديمة اعتماداً على المعلومات المتوفرة عن فيلا دي بابيري Villa dei Papiri التي كانت تطل على خليج نابولي خارج مدينة هركولينيوم Herculaneum في جنوب إيطاليا؟(21) من أجل الاستغراق في الحقيقة / الوهم يتطلب الأمر إيقافاً مؤقتاً للإدراك الواعي، لينسى أنه في ماليبو بكاليفورنيا ويستغرق في حلم بأنه قد انتقل إلى هركولينيوم إلى الفيلا دي بابيري. فهل الوهم الماثل أمامنا يصدق؟ وهل يختلف الأمر كثيراً عنه في متحف فرساي بضواحي باريس أو في متحف قصر الحمراء في غرناطة؟ أوليس المتحف، كما قال أحدهم "المكان الذي نضع فيه تلك الأشياء التي تمثل طريقة حياة جعلناها نحن بأنفسنا غير ممكنة اليوم"؟.

خاتمة:

اليوم نهرع إلى المدينة للحفاظ على مبانيها القديمة ونسيجها العمراني المتراص بعد أن كاد تيار الحداثة ينال منها أو فعل لجزء أو أجزاء منها. وفي غمرة لهفتنا نودّ لو نحيل مدننا كلها إلى متحف واحد كبير أشبه ما يكون بقرى بوتمكن Potemkin Villages، تلك القرى الوهمية التي بناها الماريشال غريغوري ألكسندروفتش بوتمكن (1739-1791) Grigori Aleksandrovich Potemkin صديق ملكة روسيا كاثرين الثانية، كي يترك انطباعاً حسناً لديها خلال زيارتها عام 1787 إلى منطقة القرم بعد ضمّها إلى روسيا، بناها من الكرتون المقوى والقماش كي تظهر الصحارى الجرداء في أعين صاحبة السمو الملكي وكأنها حقول خضراء، فينال حظوة لديها(22). وكذا في أمثلة عديدة من أنحاء العالم. هناك نجد التراث وقد تحوّل إلى سلعة استهلاكية، وهذا بعض مما عناه روبرت فنتوري في تبجيله وتجميله لرموز عمارة الاستهلاك في لاس فيغاس(23). وهذا نوع آخر من الحفاظ على المباني لا يبدو لي أنه يختلف كثيراً عمّا فعله توماس بيبي في شيكاغو أو غيتي في ماليبو بكاليفورنيا وغيرهم فيمن يمكن اعتبارهم من معماريي اتجاهات ما بعد الحداثة. هذا هو جزء أساسي مما يسمّى بعمارة ما بعد الحداثة مما هو في رأيي لا يزيد عن كونه مثل داء الحداثة المزمن، في وعي الإنسان المتزايد لذاته في الزمن.

إن العناية الفائقة التي نوليها لتراثنا هي أكبر دلالة على حداثتنا ووعينا لذواتنا كموضوع محدود بتأريخيته في الزمان والمكان(24).

أرجو ان أكون قد وُفقت في تبيان العلاقة التأريخانية (ولوبأمثلة مقتضبة) بين العمارة والآثار.

د. هاشم عبود الموسوي

أستاذ العمارة و التخطيط العمراني

........................

الهوامش:

1- Peter Murry، Renaissance Architecture (original Italian edition، Milan: Electa، 1971; New York: Rizzoli، 1978، republished، 1985) 10.

2- يصعب حصر المراجع المتعلقة بليوني باتيستا ألبرتي لكن يمكن التعرف عليه بالإطلاع على ما يلي:

Franco Borsi، leon Battista Alberti: The complete Work (New York: Rizzoli، 1989).

3- يذكر مري كتاب ألبرتي في وصف آثار روما، Descripto Urbis Romae الذي كتبه تقريباً في الأعوام (1432-1434)م والذي برغم ما يوحي به عنوان الكتاب، فهو لا يصف بالفعل آثار روما، بل بصف أجهزة مساحية مختلفة واستخداماتها في مسح المباني، يرجّح مري بأن زيارة لآثار روما برفقة دوناتيللو وبرنلسكي وقعت في ذات السنة في حين أن زيارة برنلسكي ودوناتيللو الأولى في روما تعود للعام 1405م (مري، المرجع السابق، ص10).

4- هذا ما أفاد جورجيو عن برنلسكي في كتابه Le vite de’ piu eccelenti 1568مpittori، sutrori ed architecttori، يمكن الإطلاع على متقطعات من الكتاب في: Lives of the Artists: A Harmondsworth، Selection، trans George Bull.

5- Middlesex. England: Penguin كان البنثيوم آنذاك قد تحود إلى كنيسة سانتا ماريا أد مرتيريز Santa maria ad Martyres. كان قطر قبته 142 قدم فيما كان عرض الفتحة ثمانية الشكل فوق تقاطع أجنحة كنيسة سانتا ماريا دل فيوره هو 138 قدم وستة بوصات، مما لا يدع مجالاً للشك لدى برنلسكي بأن قبة بهذا الحجم يمكن عملها. أما بالنسبة للشكل الثماني للقبة شبه المؤكد أنه بوحي من مبنى العمّاد Baptistry مقابل الكنيسة في فلورنسة إذ كان يعتقد آنذاك بأنه معبد روماني قديم للإله مارس Mars تم تحويله وتكريسه ليوحنا المعمدان في وقت لاحق (مري، مرجع سابق، ص14).

6- Leon Battista Alberti. Leonis Baptiste Albnerti de re acdifricatoria (Florence: Nicolo di Lorenzo Ale)

من أجل ترجمة لهذه المخطوطة أنظر:

L.B. Alberti، On the Art of Building in Ten Books، trans. Joseph Rykwert and Robert Tavernor and Neil Leach (Cambridge. Massachusetts and London، England: MIT Press. 1988).

7- Sebastiano Serlio. Tutte L’opere d’architectura (Facsimile 1584 ed. Books I-VII. Ridgewood 1964: 1611 English ed. I – V. New York، 1970; 1552 Spanish ed. Books III-Iv. Valencia 1977).

8- Marcus Vitruvius Pollio. I dieci libri dell architettura di M. Vitruvio tradutti et commentati da Monsignor Barbaro eletto Patriarca d’ Aquileggia (Venice، Francesco Marcolini، 1556).

تعد ترجمة بربرو لمخطوطة فيتروفيوس من أهم التراجم التي ظهرت باللغة الإيطالية رغم أنها لم تك الأولى وذلك لسعة إطلاع محققها بربرو الذي ساعده في بعض أجزائها المعماري الشهير أندريا بلاديو الذي أعدّ لها الرسومات التي صاحبت النص المشروح.

9- حول تاريخ أكاديميات أنظر: Nicholus Pevsner، Academies of Art (Cambridge، England: Cambridge University Press، 1940).               10- قبيل نشر كتابOrdonnance   قام بيروه بنشر طبعته من مخطوطة فيتروفيوس عام 1673م، وملخص لها عام 1647م. للمزيد عن بيروه وموقعه في تاريخ نظريات التصميم أنظر: Joseph Rykwert، The First Moderns Cambridge،) Massachusetts & London، England: MIT Press، 1980)، 23-47             11- للمزيد عن هؤلاء المعماريين أنظر:

Dora Wiebenson (ed.) Architectural Theory and Practice from Alberti to Ledoux (Architectural Publications Inc. by Univerity of Chicago Press، 1982).

12- تم نشر أول كتاب عن آثار الإغريق، كتاب جوليان- ديفيد ليروي Julien – David le Roy وعنوانه Ruines des Plus Beaux Monuments de la Grece عام 1754. وتلاه كتاب جيمس ستيورت ونيكولا رفييت James Stuart & Nicholas Revett بعنوان The Antiquities of Athens الذي صدر جزءه الأول عام 1762. للمزير من التفصيل أنظر: J. Rykwert، The First Moderns، ibid.، 270 – 273.

13- Marc-Antoinc Laugier، An Essay on Architecture، trans، Wolfgang and Anni Herman (Los Angeles: Hennessey & Ingalls، 1977).

14- هذا موضوع مقالة لي بعنوان: مهنة المعماري: خلفية القرن التاسع عشر: ظهور القوميات ومعركة الطرز. وهي معدة للنشر في مجلة متخصصة تقبلها.

15- نشر غوته (1749-1832)م مقالته Von deutscher Baukunst، D.M. Ervini a Strinbach في هامبورغ عام 1773م ثم أعاد يوهان غوتوفريد هردر Johann Gottfried Herder (1744-1803) طبعها في العام الذي تلاه في كتابه Von deutscher Art und Kunst، einige fliegender Blaetter ويفيدنا ديفيد واتكن David Watkin بأن أول كتاب عن تاريخ العمارة الألمانية القروسطية هو Von altdeustcher Baukunst (2 Vols.، Leipzig، 1820) وكان من تأليف كريستيان لودفيغ شتيغلز Christian Ludwig Stieglitz (1756-1836)؛ أنظر في ذلك D. Watkin، The Rise Architectural History’ (Chicago: Chicago University Press، 1980 ). 4. ويقول واتكن «إن تطور موضوع تاريخ العمارة في القرنين الثامن والتاسع عشر في ألمانيا جاء فعلاً في مجال العمارة القوطية لا الكلاسيكية، وكذا في بريطانيا وفرنسا» (واتكن، مرجع سابق، ص4).

16- Gottfried Semper. Der Stil in den Technishen Und Tektonishen Kunsten order Praktische Esthetik Ein Handbuch fur Techniker، Kunstler und Kunstfreunde Von Gottfried Semper. Vol. I Joseph حيث ظهر الجزء الثاني من الكتاب بعد وفاته. Rykwert، “Semper and the (Munich، 1863). Conception of Style، “أنظر أيضاً in Necessity of Artifice (New York: Rizzoli، 1982)، 123-130: Harry Francis Mallgrave. “The Idea of Style: Gottfried Semper in London، “Ph. D. dissertation University of Pennsylvania. 1983).

17- David Warkin، The rise of Architectural Histoey، ibid.، p. 190.

18- يذكر شارلز جنكس Charles Jenks أن أول استخدام لتعبير "ما بعد الحداثة" في مجال العمارة يعود للعام 1949. للمزيد عن تاريخ استخدام هذا التعبير أنظر: C. Jenks، The Language of Post-Modren Architecture (New York: Rizzoli، 1981)، 8.

19- جنكس، مرجع سابق، ص9.

20- يعد الاثنان من مؤسسي طراز مدرسة شيكاغو التي اشتهرت باستخدام نظام الهيكل الإنشائي الحديدي في بناء المباني العالية. أهم هذه المباني بناية هوم انشورنس Home Insurance Building من تصميم وليم لو بارون جيني، ثم بناية توكوما Tacoma Building من تصميم هولابرد وشريكه مارتن روش Martin Roche. استخدم في كلتا البنايتين نظام الهيكل الإنشائي الحديدي Steel-skeleton construction الذي كان الأساس في تطوير بناء ناطحات السحاب.

21- كانت الفيلا دي بابيري مدفونة تحت الأنقاض التي تجمعت عن ثورة بركان فيتروفيوس في عام 79 للميلاد مثل مدينتي بوميي وهركلولينينوم. في القرن الثامن عشر تم اكتشاف الفيلا بالصدفة، فزارها علماء الآثار ونهبها لصوص الآثار عن طريق أنفاق تحت الأرض. وما لبثت هذه الأنفاق أن أغلقت مخلفة الفيلا ستين قدماً من التراب. ولكنه كان يتوفر مسقط أفقي للفيلا تم رسمه في القرن الثامن عشر مع بعض الملاحظات، فكانت هذه الأساس الذي اعتمد في تصميم متحف غيتي، أما الحدائق والتماثيل والجداريات فتم فيها تقليد مثيلاتها في بومبي.

22- أستعير هذا التشبيه بقرى بوتمكن من مقالة لآدولف لوس Adolf Loos كان يسخر فيها من المباني المحيطة بجانبي شارع الرنغ شتراسه Ring strasse في فيينا، الشارع الذي يلتف حول المدينة في مكان أسوار المدينة التي كانت قد هدمت بعد أن فقدت قيمتها الدفاعية نتيجة للتطورات في المدافع الحربية. أنظر: A. Loos، “Potemkin City” in Spoken into the Void، Cambridge، (trans. Jane Newman and John Smith Massachusetts: MIT Press. 1982): 95-97.   23- أنظر بالتحديد كتابه: Robert Venturi Denise Scott Brown and Steven Izenour، Learning from las Vegas (1972-1977). Cambridge، Massachusetts: MIT Press من أبرز العناوين الفرعية في الكتاب From La Tourette to Nieman Marcus (ص138)، وهي فقرة واحدة من الكتاب يبين فيها المؤلفون فقدان المحتوى من العمارة إذ يتحول تصميم لوكوربوسيه لديرLa Tourette في فرنسا إلى مبنى تجاري Department Store لشركة Nieman-Marcus، واحدة من كبريات شركات الملابس المعروفة في الولايات المتحدة.

24- من أفضل ما كتب عمّا يسمى بـ"ما بعد الحداثة"، كتاب: David Harvey، The Condition of Postmodernity: An Enquiry into the Original of Cultural Change (1980; London: Basil Blackwell. 1990). مؤلف الكتاب هو باحث ماركسي معروف متخصص في علم الجغرافيا الثقافية Cultural Geography وهو يخلص في تحليله لظروف ما يسمى بـ"ما بعد الحداثة" إلى نتيجة مغايرة لما يوحي به عنوان الكتاب. إذ يقول بأنه ليس هناك فعلياً ما يمكن أن يسمى بـ"ما بعد الحداثة" لأن ظروف الإنتاج فيما يسمى بـ مرحلة الإنتاج أو الاقتصاد "ما بعد الاقتصاد الصناعي" Post Industrial Econonmy لا تختلف جوهرياً عمّا سبقها، وإنما هي تدل على تغيرات سطحية فقط. وبالتالي يمكن اعتبارها استمرارية للحداثة وإخضاعها لذات التحليل المنهجي لكن بعد إضافة البعد الجغرافي.

.............

(*) أدب القرون الوسطى.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم