صحيفة المثقف

العين الثالثة

رحمن خضير عباسعن دار فضاءات للطباعة والنشر . صدرت رواية (العين الثالثة) للكاتبة العراقية صبا مطر. وقد تكون هذه الرواية من أولى تجاربها في هذا المجال . ولكن الكاتبة، أكدت قدرتها السردية، وقابليتها على إختزان الاحداث والوقائع، ومن ثم سفحها على بساط السرد الفني، لتجعل من هذا العمل جدارا فنيًّا أو لوحة لتدوين الوجع العراقي في أحلك ظروفه التأريخية.

لقد ساهمت صبا مطر بروايتها هذه، بكتابة بعض أحزان أرض السواد، من وجهة نظر الطفولة المستباحة والمحرومة، والتي وجدت نفسها في بلد يجتر الحروب المتتالية، التي ما إن تنتهي حرب حتى تبدأ أخرى.وما أن يتنفس الناس الصعداء من محنة حتى تأتي محنة أحلك منها . في هذا الوطن الذي يعيد إنتاج أحزانه وعذاباته، وكأنه لايكتفي بتخزينه الموروث من المآسي، حتى يُضيف اليه كوارث أخرى، تستدعي أشد وسائل الحداد والبكاء.

صبا مطر الضحية والشاهدة، والتي عايشت أهم مفاصل الحزن والدمار والقتل والحصار. تتأمل كل ذلك من شرفة المهجر. من خلال عينها الثالثة والتي تعبّر عنها بقولها :

" كانت لي عينٌ سريةٌ، أرى العالم بصورة مختلفة عن الصورة التي يراها الآخرون "

فماهي هذه العين ؟

إنها التأمل للماضي بأحداثه وصوره المتسارعة من خلال شرفة اللحظة الراهنة. تأمل الطفولة المعذبة والبريئة من خلال سكون الحاضر . إنها نقل حي لأحداث هائلة وأزمات خانقة، جرت على العراقيين دون أن يشعر العالم بألمهم إنها المِحنة العراقية المنسيّة،بأزماتها الطاحنة وإنفراجاتها الموّقتة، ببشرها من الضحايا والجلادين .سواءً الذين ساهموا في تدمير البيت العراقي أو الذين حاولوا ترميمه.

الاطفال الايتام والفقراء، طلاب المدارس والجنود، المقهورون من البشر، والذين وجدو أنفسهم تحت ظلم نظام لايعرف الشفقة.

العين الثالثة : هي العين التي أرادت إعادة التوازن للأشياء والاحداث. والتي حكمت عليها بما تستحق. إنها عين إنسانية . تحاول ان لاتكتفي بالدموع، وانما تنقل الى العالم أسبابها والمسببين فيها.

لقد كانت الرواية مخاضا هائلا، تنهمر أحداثه الحقيقية لكي تصفع الضمير الانساني. ولكي تسجل بشكل فني جميل ومؤلم. مالذي حدث فعلا، ولماذا، ومن هم الذين ساهموا فيه ؟

لذا أتت روايتها، كشهادة حية تُدين قيم هذ العصر وإختلال معاييره   . هذا العصر الذي ينتصر للقوة. ولا يقيمُ وزنا للآلام الانسانية، والتي سجلتها الكاتبة بدقة وتأنٍ. . وكأنها تقوم بعملية تسجيل لذكريات الطفولة والشباب، للبشر الذين وجدوا أنفسهم في براثن القسوة والحرب، وترعرعوا على شظايا الموت وهي تمزق الاجساد المستباحة، والتي لاتمتلك من وسائل الدفاع سوى ضعفها على المواجهة المحتدمة، أمام آلهة الموت والحرب. في معارك عبثية لاناقة لهم فيها ولا جمل .

تبدأ الرواية لتؤسس مُناخا للطفولة البريئة، التي لايهمها سوى اللعب البريء. والدفء الانساني بين جدران البيوت الآمنة. وفجأة يبدأ الموت على هيئة حرب. تستعر هذه الحرب دونما توقف. وكأن الذي أشعلها قد نسي إخمادها. وتظل تأكل الحياة والانسان والمشاعر، في ظل طبول وأهازيج وأغاني وكلمات وصور تحاول أن تجعل منها شعارات جديدا للحياة.

هذا ما صوّرته الكاتبة عن حرب الثمان سنوات بعين طفلة في المدرسة. ولكن هذه الطفلة تكبر وتحيطها متاريس الحرب من خلال إعلام الدولة، الذي جنّد كل شيء من أجل معارك عبثية . ومن أجل تمجيد القائد.

الأغاني والقصائد الشعرية ووسائل الاعلام المسموعة والمرئية والمناهج المدرسية. وكل مفاصل الحياة. لقد نقلتها الكاتبة بتفاصيلها وجزئياتها ومناحي تطورها. لقد نقلت لنا صليل الحرب وإنعكاساتها على العراقيين . وكيف أنّ الدولة قد عسكرت كل منافذ الحياة . وأصبحت الحرب وحدها، هي القضية التي يعلو صوتها على كل المشاعر والدفء الحياتي، الذي يُفتَرض أنْ يسري بين الناس.

لقد إستطاعت الكاتبة أن تنقل لنا الوجه الآخر للحرب. وهو وجه متعرٍ من مساحيق التهويل والتطبيل الذي نجده في التلفزيون الوحيد الذي يمثل الاعلام الرسمي للسلطة. حيث يعيش الناس في ظلمة المعلومة الضائعة. وذلك من خلال راديو والدها الذي أطلقوا عليه (الهدهد) لانه يأتي ببعض أخبار صحيحة خارج إطار إعلام النظام.

تتحدث الرواية في لقطات سريعة أو متأنية عن شرائح اجتماعية، تعاني مرارة الحاجة والقحط. وذلك من خلال وجه الطفلة التي تأتي لاستجداء مايسد الرمق . من خلال أطفال الشوارع. من خلال الارامل والشهداء. قصة العروس التي كانت تحلم بهذا اليوم، ولكن صاروخا طائشا. اقتحم بيتها وعرسها وتركها مجرد أشلاء مضرجة بالدم.

كانت الكاتبة تتحدث بحماس عن محنة الجغرافية التي تحيط بالوطن. وكأنها تحلم بتغييرها. عن زيارتها للمستشفى وعثورها على قدم جندي مازال راقدا في سرير الانعاش ينظر اليها برعب من خلال زجاج غرفته . تتحدث عن نُصْب الشهيد والذي يزدحم بخوذ الحرب التي كانت تحتضن البشر المتناحرين. ويزدحم بأسماء الجنود المجهولين الذين ماتوا بصمت.

وحينما تنتهي الحرب الايرانية العراقية تنقل الكاتبة لوحة فنية للفرحة التي إنعكست على المشاعر العامة. ان النصر الحقيقي ليس التفوق على العدو وإرغامه على القبول بالسلام. بل ان النصرهو الخلاص من الحرب ذاتها .

ثم تنتقل الرواية الى الحرب الاخرى التي دمرت ماتبقى من النسيج الاجتماعي وأرهقه. انها حرب استنزاف حقيقية لكل النبض الانساني لبلد لايمتلك القدرة على تغيير القرار. ورغم أن الكاتبة أصرت على أن تجعل الاحداث من زاويتها الشخصية. مما جعل الخط البياني لسير الاحداث في إتجاه واحد. وهو إتجاه التجربة الذاتية. حتى يصل القارئ الى يقين أن الكاتبة. تقوم بعملية إستحضار أحداث الماضي من خلال الذاكرة وكأنها منهمكة في كتابة مذكراتها.

لذا جاءت الاحداث أكثر حرارة من حيث مطابقتها للوقائع. فقد جاءت الرواية على هيئة (سكيتشات ولقطات سريعة).

حيث أغارت ثلاث وثلاثون دولة على البلد، وها هي صواريخها تتشظى في سماء المدن العراقية. ولكن الاطفال يخرجون الى الشوارع وهم يتابعون إتجاهاتها وكأنها ألعاب نارية.

صورة محمد الشاب الذي يزعم عدم الخوف إزاء أزيز الطائرات وصوت الإنفجارات، ولكنه حينما يخلو لنفسه يبكي من الذعر.

قصص حب صغيرة تنشأ بين الشباب لتبدد وحشة الدمار، الانسجام بين الضحايا ومحاولة إشاعة الحب بينهم كمواجهة لحقد الحرب. الشهامة وتحدي الموت كموقف ابو خليل الذي يتحدى الخطر ليذهب الى بغداد كي يجلب له ولجيرانه بعض المواد الغذائية . الاستاذ الجامعي الذي التهمت الحرب مكتبته العامرة بالكتب وآلة البيانو الذي كان يعزف به لمواجهة الخوف .

ضحايا ملجأ العامرية، حيث الصواريخ التي حفرت أعماق الكونكريت لتحرق مجموعة كبيرة من الاطفال والنساء،والذين ماتوا إحتراقا في أسوأ جريمة إنسانية يرتكبها الأمريكيون في زمن بوش الأب.

الغيوم السوداء الذي تغطي سماء العراق. ويكتشف الناس من خلال راديو الأب. إنها نتيجة حرق آبار نفط الكويت.

طريق الموت والمجزرة. وقصة وهاب الذي تخلص من الموت. وكادت الصحراء ان تلتهمه. ولكنه عاد الى إمه بمعجزة.

آلام الأمهات على غياب إبنائهن. سلام الذي رأى بأم عينية كيف إستطاع النظام ان يدفن أسراه وهم أحياء في حفر عملاقة والصراخ الذي كان ينبعث منهم وهم يبحثون عن الهواء.

سياسة التجويع من خلال حصار العالم للعراق والذي إستمر سنين طويلة. وكيف أن الناس باعوا كتبهم وشبابيك غرفهم وأسرة أطفالهم. وتنقلنا الكاتبة الى قاع الحياة في ظل الحصار، من خلال عشرات الحكايات المنتزعة من الواقع . ذلك الحصار الذي أدّى الى تغيير التركيبة السلوكية للفرد العراقي، والذي وجد نفسه أعزلا مابين مطرقة نظام بشع وقاس. وبين سندان إرادة دولية لم ترحم إستغاثاته.

لقد تحدثت الكاتبة عن الصدفة قائلة :

" الصدفة هي خيط الحرير الناعم، وحبل المشنقة المخيف"

وترى ان الصدفة التي جعلت من صدام حسين قائدا. هي حبل المشنقة الذي تدلى على وريد العراق لسنين طويلة. وأعتقد ان الكاتبة كانت محقة في لوم الصدفة. لان الكاتب أريك دور تشميد قد أكّد ذلك في كتابه المعروف (دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التأريخ) والذي يؤكد فيه " كم من جيوش جرارة هُزمت بسبب غباء وعدم كفاءة قادتها، فالحرب ليست مجدا عسكريا وانما رحى الموت".

في فصل الرواية الاخير. تتأمل الكاتبة حالة المهجر بكل متع العيش ووفرته وطبيعة العلاقات السوية وذات المضامين الانسانية بكل نبلها وطيبتها وإنسانيتها. وتقارنها بالأوضاع الشاذة التي تركتها في الوطن.

هذا الوطن الذي تعرض الى غزو أمريكي أطاح بالدكتاتورية . فخلق حالة من الفراغ والفوضى وشريعة الغاب. هذا ماتقصه على القارئ، من خلال صديقتها وجارتها سناء التي عادت الى الوطن . لكنها وجدته ينزف رعبا ودما وفوضى عارمة. وكادت سناء إن تكون ضحية لانفجار هائل هز بغداد. ولكنها نجت بأعجوبة.

وهكذا تتحول العين الثالثة من الكاتبة الى شخصية سناء. ومن خلال رؤيتها للإحداث.

ورغم الصدق في سير أحداث الرواية. من خلال شخوص حقيقين عاشوا وماتوا ومن خلال الامكنة والأزمنة والاحداث. ولكنها تبتعد عن طبيعة السرد الروائي بمعناه ومبناه الفني. فالرواية ليست هي تراكمات لقصص وأحداث. وانما هي عملية بناء مواز للحدث. يعتمد على (خامته) وينأى عن تفاصيله وضروراته. العمل الروائي تقنية تتجاوز الحدث الواقعي، وتقوم بحياكته من جديد. وفق صيغة روائية معيّنة، لها عوالمها التي تعكس الواقع أحيانا وتغايره أحيانا اخرى.

ومع إختزان الكاتبة لسيل هائل من الحكايات والقصص والروايات المتداخلة. ولكن هذا الحشد الكبير الذي تم سرده والشخوص الذين ظهروا بين الاحداث يمكن أن يروي لنا مذكرات لإحدى ضحايا القهر. ولكنه في نفس الوقت لايقدم لنا رواية متماسكة من الناحية الفنية.   وذلك لان الاحداث قد ظهرت أقرب الى التدوين الصحفي منه الى السرد الفني.

ومع ذلك فان (العين الثالثة) للكاتبة صبا مطر. قد جعلتنا مسمرين على وهج الاحداث والعذابات والضحايا والجوع والدمار واليأس والضعف والقوة والتحدي. انها ملحمة عراقية تتحدث عن روح الصمود والتحدي لدى الشخصية العراقية المتمثّلة (بالعائلة) التي تحتمي بجدران لاتستطيع حمايتها وهي تواجه عالم القسوة من العدو الخارجي والعدو الداخلي.

وكأن صبا مطر تتهجى الالم فتركت الامور تنهمر بصدق. لتحكي التفاصيل الكبيرة والصغيرة.أما اللغة فكانت جميلة وشفافة تقترب من الهمس الشعري إحيانا، تجعل القارئ متمتعا بها رغم حزن وقسوة الاحداث.

لقد كانت أحداث رواية (العين الثالثة) شهادة متكاملة عن عصر سافل، لم يكترث للدموع التي تحجرت من الحزن .

لقد كانت الرواية شهادة حيّة على الجريمة.

 

رحمن خضير عباس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم