صحيفة المثقف

عندما تتحدث الغربان

أصبحت مسألة البحث عن يوم بدون أسئلة تفوح سذاجة تخصّ متاهات المستقبل وترتبط به ارتباطا وثيقا في الأوساط الشعبية العربية أمرا مستبعدا؛ خصوصا اتجاه من تجشموا عناء خوض مسارات طوال في ميدان البحث العلمي بالبلدان العربية؛ دون أن تتاح لهم فرصة العمل بكرامة داخلها. غير أن العجيب في الأمر، أن هذه الشريحة المجتمعية من الشباب تحاول –ما أمكن- أن تتأقلم مع طبيعة الوضع القائم. كما أنها تحاول تتناسى عجز حكومة بلدانها وفسادها في التعاطي مع حقهم المشروع في العمل. إلا أن التشكيلة المجتمعية المغيبة عن هذه الأوضاع المزرية، والتي تفكر بمنطق البطن والماديات من سيارة وشقة وزوجة التي يوفرها العمل، تعمل على الحفر عميقا بجهلها في هذه الحيثية على هذه الشاكلة الحوارية:

السائل: السلام عليكم

المسؤول: وعليكم السلام

السائل: أحوالك؟

المسؤول: على ما يرام، الحمد لله، وأنت؟

السائل: الحمد لله، ترى ماذا تفعل حاليا؟ هل وجدت عملا مناسبا؟

المسؤول: ليس بعد اذ كان هذا يشفي غليلك، لكن أفضل أن تسأل كبار مسؤولي هذه البلد، فربما قد يجيبوك على سؤالك هذا.

السائل: بعد فهمه القصد الملغوم، يبتسم بصعوبة وصفرة السذاجة تعلوه، ويحرك رأسه يمنة ويسرة...ويأتيه الذكاء فجأة، ثم يتريث بعد ادراكه أنه يساق إلى المحظور حسب أبجدياته السطحية لمعنى حرية الرد...مباشرة بعد ذلك يحاول الفكاك بقوله بالمغربي " دوز بخير" بمعنى أتركك بألف خير.

المسؤال: بأسلوب منولوجي، كيف لي أن اكون بخير؟ وأمثالك المخدرين "المدوخين" يفجرون في وجهي قنابلهم الصباحية، مذكرين اياي وضعي.

هذا مقطع مصغر من حوار مقتطف من لقاء من بين اللقاءات الكثيرة التي تجمعك خلال اليوم مع محيط أصبح من فرط جهله يؤله المادة ومهوس بها، محيط يطلق أهله العنان بدون تورع في حشرأ انوفهم في أمور لا يفهمونها، أمور تكبر عقولهم الغر كثيرا. إنهم كثيرو السؤال، قليلو الحكمة، سذج باسم الواقع. وسيكولوجية مقهورة تترنح لتجد من تتنفس عبره مآسيها حتى وإن كانت غير دارية بذلك. لك أن تعاود الصيغة الحوارية، لتجد أنها غير بريئة كما قد يعتقد البعض، بل مقصودة ومفكر فيها، إنها آلية لتبرير هجران العلم والمعرفة، تبرير لقتل الأمل فيك كسامع لك حمولة علمية وثقافية. الكل يعتقد بداخل هذه المجتمعات، أنك قد أضعت حياتك في التحصيل بدون معنى؛ والمعنى المقصود هنا، هو العمل وتحصيل الدنانير والدريهمات، المعنى أن تكون ضمن القطيع ومعادلتك الأكل والشرب ونكاح...وانتظار طابور الموت. إنني أعجب لهؤلاء الغشم، واشفق على معنى الحياة المتوارث بينهم...إنه سيناريو بئيس عن الحياة، أن تحيا وفق معادلتهم تلك.

سيكولوجية مريضة تلك التي ترنو صباح مساء بتذكيرك بالمستقبل، لا أعلم عن أي مستقبل يتحدث هؤلاء، إنهم يتحدثون عن الوهم، عن السراب خصوصا إذا ما كانوا يربطونه ببلدان تجعل شبابها تهاجر لتحقيق أملها في قصد معين، لا أريد هنا أن اسمي قصدا هدفا معينا في الحياة بمستقبل أو غيره من الأسماء، ولن ألخص هذا الهدف في سيارة وشقة ورصيد بنكي وعذراء حسناء تنتظر أن أكون حاملا أرقاما بنكية...إلخ. ربما هناك ما هو أسمى، وقادر أن يعبر من حياتك المادية إلى ما بعدها...وحتى هذه لن أضع لها اسما؛ فالحرية الحقة ألا اسجنك بمفاهيمي الخاصة عن الحياة...وليت هؤلاء يتركون شباب اليوم؛ خصوصا أولئك الذين يحملون تاجا معرفيا وعلميا بالمعنى المعنوي. وحالهم دون أن يفسدوا لحظاتهم بقنابلهم المسيلة لخيبات الأمل، وبدل سؤالهم بشكل مباشر وبدون أدنى تفكير بأحوالهم النفسية المتأزمة، فليتوجهوا بأسئلتكم لكبار مسؤوليهم الحكوميين. فالشباب ليسوا ذلك الحائط القصير يسهل اجتيازه متى أردوا وشاؤوا.

وعليه، نذكركم أيها الفضوليون، انكم بهذا تتعدون حرية الآخرين، وتصنعون بأفواهكم وسلوكياتكم غير أخلاقية نعوش شبابكم، وتقتلون أمالهم بدل رعايتها، او المساعدة على رعايتها، وبالتالي تسقطون في مزالق القول المثبط للعزائم ومحبطها، فـ"رحم الله امرءا قال خيرا فغنم، أو سكت فسلم".

 

د. أكثيري بوجمعة أنس

باحث في مجال الفنون البصرية

والدراسات الثقافية

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم