صحيفة المثقف

The insult أو القضية 23

رحمن خضير عباسيُعرض في دور السينما المعروفة بـ(سينيبلكس) في مدينة اوتاوة الفلم اللبناني (انسلت. او القضية23).

صديقتان شابتان – أعرفهما شخصيا - أحدهما لبنانية مسيحية. والأخرى فلسطينية مسلمة، تواعدتا لمشاهدة الفلم والاستمتاع به. قبيل العرض كانتا منسجمتين، تناولتا الذرة والعصائر.

وبدأ الفلم ليؤجج بينهما جدارا من الصمت والحزن والدموع ، وكأن أوجاع الماضي قد تسللت الى الصديقتين لتجعلهما في خندقين متناقضين .

الفلم من إخراج الفنان اللبناني/ الفرنسي زياد الدويري. ومن بطولة مجموعة متميزة من الفنانين ومنهم عادل كرم وكامل الباشا.

يتحدث الفيلم عن حادثة يومية ، في أحد أحياء بيروت الشعبية، وهي ان احد سكان الشقق في حي شعبي في بيروت. واسمه طوني يندفع غاضبا لكسر الانبوب الذي أصلحه المهندس ياسر. وكرد فعل منه فقد تفوّه (ياسر) بشتيمة ضد طوني.

الى هنا تعتبر القضية عادية وكثيرة الحدوث في حياتنا اليومية. ولكن طوني إعتبرها إهانة كبيرة لانها صدرت من شخص فلسطيني. مما يؤجج الاحداث ويدفعها الى التوتر. ويطلب مدير الشركة من المهندس ياسر أنْ يعتذر لطوني. ومع أنّ ياسر لم يكن مقتنعا بالإعتذار، ولكنه إنصاع لارادة مدير العمل، فذهبا الى كراج تصليح السيارات الذي يملكه ويعمل فيه طوني. وحينما هَمّ ياسر بالاعتذار مضطرا. واجهه طوني بكلام دلّ على الكراهية التأريخية قائلا :

" ياريت شارون محاكن عن بكرة أبيكن "

وكأنه يذكّره بكل المآسي التي حدثت للفلسطينيين في تلك اللحظة التأريخية المضرجة بالدم.

مما دفع بياسر ان يضربه بقوة ، بلكمة أسقطته ،وكسرت بعض عظام قفصه الصدري. فنُقل الى المستشفى مما حوّل القضية ، من مشاحنة شخصية الى قضية رأي عام. جعلت المجتمع اللبناني ينقسم على نفسه، ودفعت الامور الى الانفجار مرة أخرى .

من خلال سير أحداث الفيلم، يبدو لنا طوني شخصا معقدا ، يعيش انفصاما في الشخصية مازال مهووسا بالماضي، وكأنه يستعيد أجواء الحرب الأهلية اللبنانية . وذلك من خلال إعتزازه ومشاهدته لخطب الرئيس اللبناني بشير الجميّل. والذي أغتيل في تلك الحرب من خلال التفجير الذي قضى عليه، وهو بين أنصاره قبيل الحرب . وكان المعروف عن بشار الجميّل أنه من الذين طالبوا بعدم تواجد الفلسطينيين في لبنان.

يتلقف بعض القوميين اللبنانيين قضية طوني. ويجعلها قضية رأي عام، تعيد لنا أحداث وأخطاء ومآسي الحرب الأهلية اللبنانية التي إمتدت لعقد ونصف من السنين. شاركت فيها كل الاحزاب والأديان والمذاهب والقوميات اللبنانية. كما تحولت الى ساحة لتصفية حساب الأنظمة المحيطة بلبنان. وقد بلغت الكراهية والحقد، تتسرب الى الجميع لمحاولة إنهاء الخصوم. وهكذا تحولت لبنان الجميلة الى ركام من البيوت والشوارع الخاوية والأسوار المسلحة ، والقتل على الاسم والهوية.

مذابح لناس عزّل وأبرياء . تقابلها مذابح مضادة.

مذبحة الدامور وضحاياها من المسيحيين .

والكرنتينة وصبرا وشاتيلا وضحاياها من الفلسطينيين.

فُوَّهات الموت مصوّبة الى صدورالجميع من قبل الجميع . لاتعرف القاتل من القتيل، الضحية من الجلاد . انها حرب الكراهية والحقد . حرب الاخوة الذين تحوّلوا الى أعداء

لقد أعاد الفيلم الماضي بكل مآسيه وأخطائه. من خلال المحكمة التي أثارت جدلا واسعا.حتى بين العائلة ذاتها ممثلة بمحامي طوني الكتائبي ومحامية ياسر ابنته ذات البعد غير الطائفي. وكان محامي الدفاع عن طوني، ليس محاميا بالمعنى المهني، بل رجل يحمل عبأ قضية سياسية ذات مضامين قومية أو لبنانية . لذلك حملت المحكمة ذات البعد الجنائي أبعادا سياسية، تنتمي الى مرحلة إندثرت من الذاكرة . تلك الذاكرة التي كانت تقتات بفضلات الالم وتأبى أن تغادره . انه تسليط للماضي من خلال لقطات سريعة، الغاية منها قضائية. ولكنها ذات مدلول تأريخي وسياسي. وذلك من خلال البحث عن دليل على ان المهندس الفلسطيني كان ذَا ماض ارهابي من خلال أخراج أحد الشهود من الأردنيين الذي شهد بان الفلسطيني قد أعتدى عليه بقسوة في ايام الحرب الاردنية الفلسطينية. او مايسمى بأيلول الاسود.

ورغم ما في الفيلم من أوجاع ، ومن بقايا تخندق طائفي او قومي. ولكننا وجدنا فيه الكثير من تجاوز هذا التخندق. وذلك من خلال المحامية الشابة. وهي ابنة المحامي المتعصب لافكاره. فهي على عكسه تؤمن بقيم الحق والعدالة الانسانية. كما ان طوني الذي يكره الفلسطينيين . حاول مساعدة ياسر نفسه، حينما توقفت سيارته. وهذا يدل على الجذور الانسانية النبيلة عند الضحايا الذين ينتمون الى إنسانيتهم قبل غيرها . وهذا ما أكده المخرج الذي تلقى نقدا بانه ذو توجهات ضد الفلسطينيين !

ولكن الحروب هي التي تحاول محو هذا النبض الانساني الجميل ، وتحيله الى حقد أعمى .

لقد قيل عن مخرج الفيلم أشياء كثيرة. ومنها أنه يحمل أجندات إسرائيلية وغير ذلك. ولكن الذي يقرأ فيلمه جيدا. يجد أنه كان محايدا في هذا الفلم على الاقل .

فقد تعامل مع قسوة الواقع كما هي، دون أن يتدخل فيها. وكأنه يرفع سبابته ضد الجميع ويقول لهم انتم من شاركتم في الجريمة. وعلينا أن نزيح عن كواهلنا هذا العبء التأريخي. صحيح أنّ هول المجازر تجعل المشاهد عاجزا عن تخيلها. (صبرا وشاتيلا) كانت ضد الفلسطينيين (والدامور) كانت ضد المسيحيين وعشرات المجازر التي يندى لها جبين الذاكرة.

لذا يأتي الفيلم وكأنه مصالحة مع الماضي ومصالحة مع الذات التي تشظت.

أما من الناحية الفنية فقد كان الفيلم جميلا من حيث حدة الزوايا والانتقالات عبر مساحات واسعة. الإضاءة الرائعة والمعبّرة. كما انه ينتمي الى الأفلام الواقعية. التي تحاول أن تتناول الوقائع والاحداث كما هي.

تقنية التصوير كانت متقنة . بحيث أن المخرج قد إعتمد كثيرا على لغة الجسد وتعبيرات الوجه. بحيث ان المشاهد أدرك طبيعة شخصية المهندس ياسر من خلال تعبيرات وجهه، وكذلك شخصية طوني وبقية الممثلين.

كما إعتمد الفيلم على الإيماء، وملامح الوجه وتعبيرات الجسد. مما جعل اللغة أكثر إقتصادا . لقد تفوّق هذا الفلم من الناحية الفنية. حتى أصبح ضمن القائمة القصيرة المرشحة لجائزة الأوسكار .

 

رحمن خضير عباس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم