صحيفة المثقف

الينبوع

من بعيد كانت المدينة تبدو نائمة بدعة في حضن الجبل الأخضر، غير إن أهليها مسخوا عبر الأجيال الى وحوش رهيبة، يأكل بعضهم بعضا فهم يعملون في النهار ولا يتحرون في عملهم مرضاة الله، وفي الليل يسطو بعضهم على بعض. مثل قرّادة يمتص القوي منهم فقيرهم وضعيفهم حتى العظم، ومن سقط بين الأقدام صار سخرية للآخرين وموضع استهزاء . درجوا على هذا عاما بعد آخر حتى نسوا فطرة الله .

اتفق أربعة من أعتاهم أن يتوسعوا في عملهم فيسافروا الى مدينة قريبة ليعبثوا ويسرقوا ثم يعودون الى منازلهم بغنائم كثيرة ترضي زوجاتهم الشرهات - الى أموال الناس - وأبناءهم الذين رضعوا الشر والجشع .

لذا افترعوا غابة كانت تعزلهم عن المدن الاخرى والتي لم يسبق لأحد منهم أن اجتازها تماما إكتفاءً بما لديهم ولنزعة الانفراد والتقوقع التي كانوا عليها، وفي الغابة التي كانت تتدرج صعودا ونزولا حتى تصبح في بعض أرجائها جبالا شاهقة كان عليهم البحث في شعابها عن ممرات الى سفوحها والتفافاتها . لم يتزودوا بمتاع كثير للطريق اذ إنهم يعرفون عن الغابات عموما انها توفر طعاما لذيذا من أشجارها المعترشات البواسق ، لذا لم يعوزهم الطعام بل كان خوفهم أن يشح ماؤهم وينفد . لذا كانت أعينهم تمسح الأرجاء حيثما ساروا ليملأوا أوعيتهم منه . وبين حين وآخر ولأقل زلة في لسان أو غفلة من حركة كانت تتلبسهم حالة من الشر والنزاع وسوء الخلق والتصرف . وفي عطفة من صخرة كبيرة عثروا على ينبوع كأنه خصلة من شلال بارد تخرج من بين الصخور لتسقط رهوا الى حفرة صنعتها عبر الزمن بأناملها الرقيقة . فرحوا بها جميعا وشربوا الماء وعبوا بأيديهم وارتشفوا واغترفوا ما شاء الله لهم اغتسلوا وملأوا آنيتهم، وبعد هذا الصخب الذي رافق اندهاشهم برؤية الينبوع وحين هدأوا قليلا لاحظوا في كلماتهم تحولا وميلا للرقة والتسامح بعد أن كان أميل للعنف والخشونة . انتبهوا لأنفسهم أكثر وأحسوا تغيّرا في طباعهم ومقاصدهم حتى إنهم جلسوا يستمتعون بالماء والظلال ولم تعد في جعبتهم رغبة بمواصلة السير الى مدينة اخرى لنهبها وسرقتها، بل عادوا يريدون الاطلاع على عادات الآخرين وطرق عيشهم تحدثوا بذلك معا واستقروا على المضي في دربهم لغاية اخرى غير ما خرجوا له . فأتموا طريقهم الى مدينة صغيرة ترقد على ضفاف نهر جميل، فوجدوا أبناءها يعملون في نهر فمنه غذاؤهم وفيه نزهتهم وراحتهم . حينما اقتربوا ألقوا التحية بأدب جم فرحّب بهم الصيادون وإذ طلبوا العمل معهم وتعلّم صنعتهم وافق الصيادون على ذلك مرحبين واعتبروهم ضيوفا فأحسنوا لهم حتى أتقنوا الصنعة وجمعوا بعض المال الحلال .

عادوا لبيوتهم وزوجاتهم وأولادهم، فإذا بهم ينقضون عليهم ويستلبون ما جمعوا بكدّهم حسبانا منهم انه أيضا من أموال السرقات وحين استنكر الآباء طريقتهم الفظة في الاستيلاء على ثمرة جهدهم وتعبهم ضربهم الأولاد لذا آثروا السلامة فصمتوا .

غير إن الأمر لم يرق لهم فتسللوا بعد اتفاق الى الغابة وبسط كل منهم ما جرى له بإسهاب وألم فاتفقوا أن يحتالوا على زوجاتهم وأولادهم أولا فيجعلونهم مثلهم - بان يسقوهم مما شربوا منه من ماء ذلك الينبوع الخيّر - فعاد كل منهم ليخبر اسرته بأنهم سيخرجون في رحلة اسرية ترفيهية الى مكان في غاية الجمال في عمق الغابة . وطلبوا من زوجاتهم الشرهات أن يحضرن مستلزمات الرحلة من طعام وشراب ومستلزمات اخرى . وافقوا جميعا إذ انهم سمعوا بالترويح عن النفس بالسفرات والرحلات غير إنهم لم يمارسوها لا هم ولا اسرهم .

وهم يسيرون في عمق الغابة ويتمتعون بما خلق الله قادهم الآباء الى حيث الينبوع عجبوا لجماله وما يلقي في محيطه من سحر وبرودة فشربوا من مائه واغتسلوا برذاذه مما أثلج قلوب الآباء إذ انشقت ثغور الأولاد والامهات المتيبسة عن ابتسامات واسعة جميلة لم يعتادوا عليها حيث كان العبوس يرين على ملامحهم القاسية جميعا .

وأخيرا تفتقت أذهان الآباء عن حيلة بارعة فأخذوا يملأون كل ما لديهم من أوعية من ماء الينبوع ليأخذوها الى مدينتهم مدعين إنها من ينبوع يطيل العمر فتكالب أهلها على الماء رغبة في العمر المديد ومن من الخلق لا يرغب أن يطول عمره ؟!، وبذا سمحوا للخير والإحسان والمودة والعفاف أن يدخلوا مدينتهم فعاد أهلها أناسا يتميزون بالرقة والشفافية والخلق الرفيع .

*****

سمية العبيدي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم