صحيفة المثقف

رمضان بين الأمس اليوم

حميد طولستكلما حلت أيام رمضان إلا ونقلتني، إلى أجواء اعماق الأزمان العيدة، حيث كانت الرمضانات جميلة بأصوات الغيطة الشجية التي ما برح صداها الطرب يملأ سمعي ويغشى فؤادي ويجذب مخيلة طفولتي لتسرد ما اختزنه الذاكرة من صور الذكريات الأكثر تأثيرا على النفس، والأكبر وقعا في القلب، والأدعى إلى تذكر الشعائر والطقوس الرمضانية العذبة الجميلة التي كانت كلها عبادة وتقرب، وتوبة ومراجعة، وتفكر وتأمل، ومتعة وسعادة ولهو مباح، وروائح شهية -لازالت روائحها تملأ خياشيمي - لما كانت تعده والدتي رحمة الله عليها، من "رغايف" -الخبز المحشو بالخضر والشحوم، التي تبز أعظم بيتزات العالم، نكهة ولذة - والبطبوط والمسمن والحرشة والملاوي والتريد والبغرير، والقراشل، والمجمر، والبجماط، وتافرنوت والملة، وخبز الدار وغيرها كثير من المخبوزات اللذيذة التي كانت تعدها أمي بحب واتقان كبيرين، والتي ولازات أذكر جيدا حرص أبي وإصراره على أن ينال ما تيسر منها، الأهل والأقارب والأسر المتعففة من جيراننا وأصحاب الحوانيت المجاورة لبيتنا وحتى البعيدة عنه، والتي كنت أنا المكلف، رغم حداثة سني، بإيصالها لأصحابها قبل أن أجلس إلى مائدة الإفطار، لا يمنعني عن ذلك لا شدة برد فاس الفارس ولا مطرها المدرار، ولا يعوقني حرها صيفها القائض .

لكن –ومع كل الأسف-تغيرت كل تلك الجماليات التي كانت تزهو بها رماضانات بلادي في ماضيها البعيد، والتي كنت انتظرها بشغف، وأنا طفل صغير، وامارسها بخشوع،وأنا مراهق، وأحييها، بتنافس خطير، وأنا شاب، وأأديها بقناعة، وأنا راشد، تغيرت مع زحمة الاغتراب الزماني والمكاني مع كبري، وتوارى كل ما كان فيها منيرا وملونا، ويبعث على الأمل ويبشر بالخير والحب والجمال والروعة والكرم والعطاء، وتبدد ما عرفته من معالم البهجة والتسلية الرائعة، والزيارات العائلية والسهرات اليلية، التي كنا نتمتع خلالها بسحر وعذوبة حكايات الجدات، وغيرها من الطقوس الرمضانية الزاهية التي كانت تستمر حتى السحور، والعالقة بذاكرتي إلى اليوم، رغم أنه لم يبق منها على أرض الواقع الرمضاني شيئ مما كنا ننتظره، ونشتاق إليه، ونستبشر به مع قدوم كل رمضان، في ظل ما يعيشه الناس اليوم –إلا من أخذ الله بيده- من لهاث عنيف خلف البذخ والإسراف، والشره، والمجون والتفسخ، والتكبر، والغواية، والتعال، والاستعلاء.

فعلا كان رمضان جميلا في حينا الشعبي "فاس الجديد"، عندما كانت حياة ساكنته بسيطة أيام زمان، وحين كان أهله يصومون رمضان إخلاصاً لوجه الله تعالى، لا رياءً ولا تقليداً ولا تجلداً لئلا يخالف الناس، ونفوسهم متشبعة بالتسامح نحو كل الطوائف والديانات والمعتقدات، وقبل أن تحوله الفتاوى المغدقة في الوعود الباذخة بالصفح والمغفرة، إلى عبادة تطهيرية صرفة لا يُنتظر من ورائها غير المنافعَ المادّية والتخلص من الشعور بالذنب، والتطهر من مشاعر التوتر وعدم الأمان وتوقع العقاب وغيرها من مشاعر الندم ولوم الذات، الأمر الذي اقتنع به –مع الأسف-عامة الناس واطمأنوا إلى مفعوله التطهيري، وقدرته على التخليص من بالذنوب ما تقدم منها وما تأخر، من خلال الأحاديث المحفوظة عن ظهر قلب دون أن تفهم، والتي بغض النظر عن صحتها أو عدمه، فهي تعمل على التشجيع على عدم النفور من الأخطاء والذنوب، التي يرى جمهور الفقهاء أن الأعمال الصالحة لا تكفرها وحدها، ولا بد من إقامة الحد على مرتكبيها، حتى لا تعظم لديهم القدرة على معاودتها والاستمرار فيها، وتصبح حياة لديهم قائمة على انتهاك القيم والمثل والمعايير الاخلاقية والإجتماعية والمبادئ الدينية، التي لا يقترفها في الأغلب الأعم إلا الشريحة التي تحرص على ألا تكون سوية في تعاملاتها مع الغير، فتغشّ، وتكذب، وتنافق، وترتشي، بشكل مستمر، وتلجأ في النهاية، للشعائر والعبادات ذات الفعَّالية التطهيرية الخارقة، التي لا تؤدى بغرض التوبة النصوح، ولا بقصد التخلي عن الذنوب والمعاصي والآثام، والعزم الأكيد على عدم العودة إلى ارتكابها مرة أخرى في مستقبل حياتهم، كأي تائب توبة نصوحاً ينعم بعدها بالفلاح والنجاح والسداد والتوفيق، مصداقا لقوله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور/ 31)، وإنما تؤدى بغرض،العودة إلى ارتكاب غيرها من الموبقات والاستمرار فيها، بعد الشعور براحة التخلص من مشاعر والإثم الذي تركته تلك العبادات التطهيرية، ما تجعل المجتمع يبدو جميعه ملتزما دينياً، لكنه لايتورع عن ارتكاب الذنوب والأخطاء في حق الغير والوطن.

وأنهي بقولي هذا : هنيئا لمن عاش رمضانات الماضي، وتذوق انسجامها مع الغايات الدينية السامية، ويا حسرة على من يعيش سوداوية حاضره المنقلب على عمق العبادات كما جاءت بها تعاليم الدين وقيمه وأخلاقه المثلى..

 

حميد طولست

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم