صحيفة المثقف

الدم الفلسطيني يثقل ايديهم

كاظم الموسويمرت ايام حملت ذكريات صعبة، استعادت قسوة ما كانت عليه، فليس هينا على الفلسطيني، اينما يوجد اليوم، وكم يكون عمره، أن يتذكر او يستذكر يوم النكبة وما بعدها، سبعون عاما ليست سبعة عقود زمنية وحسب، بل سبعون عاما من الدم الفلسطيني، من النزف الشعبي، من الصراع التاريخي، من النزاع الوجودي، من الالم والحزن، من الكفاح والصبر، من الصمود والمواجهة.. وكلها تستعيد تلك الأيام، وما رسمته من مسيرة التغريبة الفلسطينية، مأساة شعب، ومحنة أمة. ليست سبعون ذكرى وحسب وليست ذكرى القضية وحسب، من بداية الجرح، من "ماكو أوامر" الى ما نعيش اليوم من ظلم ذوي القربى.

صفحات التاريخ نقلت اسطرا عن التآمر الغربي، وعن المخطط الاستعماري الامبريالي، وعن قاعدة ستراتيجية تستوطن وتمزق الوطن العربي، وان تهجّر اهل البلاد وتحرق البلدات والزرع والشجر وتستعمر الارض وتدعي لها ما لم يكتبه تاريخ ولا يعرفه خبير، وتنتقل الخدمة من مستعمر الى اخر، غربي في الانطلاق واستيطاني في الواقع. وتصبح نكبة وتليها نكسة وتستمر مأساة "نكبسة.!".

هذا العام لم تكتف دول الاستعمار في تكريس الكيان وتسمين القاعدة العسكرية، بل أرادت أن تزيد بقرار الرئيس الامريكي دونالد ترامب بنقل سفارة بلاده من تل أبيب الى القدس واعترافه بأنها عاصمة الكيان الإسرائيلي، خلافا للقانون الدولي والمواثيق المتفق عليها وتجاوز تاريخ الدم الفلسطيني، وانكار تضحيات حركة التحرر الوطني الفلسطينية، من أجل حقوق الشعب العادلة في الحرية والاستقلال والعودة إلى الديار ورفض التصفية والوعود الجديدة، بعد فضائح وعد بلفور واتفاقيات سايكس بيكو.

اختار الرئيس الامريكي ذكرى يوم النكبة موعدا لتنفيذ قراره، واختار الذكرى السبعين لها وهو يعد بصفقة سميت بصفعة القرن، لتصفية القضية الفلسطينية وتطبيع العلاقات لاستمرار الهيمنة الإمبريالية وأدواتها ومن يتخادم معها في المنطقة العربية وخارجها. لم يكن الإعلان ولا الاحتفال هو الموضوع، ولا الصفقة وما فيها وما تطلبه وتسعى اليه، ولا .. ولا.. بل السؤال المشرأب الذي لا يراد سماعه، لانه يسأل وينطق بان الحق لا يتقادم وان المطالب لا تنتهي، كما ان السبابة المرفوعة لطفل رضيع او طالبة مدرسة اولية، تؤكد جيلا بعد جيل، إشارة صمود وتضحية وايمان بالوطن والعدالة وحروف فلسطين، من إلفاء الى النون.

أمام كل هذا اختارت جماهير الشعب الفلسطيني ذكرى يوم الارض في نهاية شهر آذار/ مارس لانطلاق مسيرة العودة الكبرى، من داخل غزة الصامدة، الى باقي الوطن المحتل، وكانت افتتاحا مستمرا ليوم الذكرى الاخرى، النكبة، والسبعين عاما لها، لتواصل مليونية المسيرة وارتقاء الدم الفلسطيني. في هذا اليوم الذي احتفل به الرئيس الامريكي وعائلته مع الاحتلال واعوانه، تقدمت أرواح اكثر من ستين بطلا فلسطينيا، واكثر من ألفي جريح، من كل الاعمار..لا فرق بين رجل وامراة، طفل وشيخ، صبي وصبية، شاب وشابة والتضحيات مستمرة في المسيرة الكبرى، في حلم العودة وقسم المفتاح.

هل كان الدم الفلسطيني المراق على أرض فلسطين كافيا لإعادة الصورة؟!. صورة المجاهد الفلسطيني الذي حمل روحه على راحته، صارخا: امّا حياة تسر الصديق وأمّا ممات يغيض العدا.

كنت في مقابلة تلفزيونية يومها أردد اخبار التضامن واشيد بخطوات لا تنسى لقيادات صديقة ومناضلة، من حكومات ومن جماهير وشخصيات سياسية بارزة، من جنوب افريقيا، من ماليزيا، من فنزويلا وبوليفيا، والسويد وايرلندا وتظاهرات في غيرها، إدانة المجزرة الدموية وسحب السفراء او تحميلهم غضب القيادات الحكيمة وشعوبها المتضامنة معها والثابتة مثلها. للاسف لم تنقل وكالات الانباء أخبارا مثلها من اية عاصمة عربية. في المقابلة قلت: لماذا لا تقوم الحكومات العربية بالمثل، وهي صاحبة القضية؟!. لماذا لا تطرد بعددها عشرين سفيرا امريكا الى واشنطن؟ ولماذا لا تسحب عشرين سفيرا عربيا من واشنطن وتقول بالفم المليان نستنكر الجريمة وندعو الى وقفها فورا ومحاكمة المجرمين الذين اقترفوها. لا تعرف ادارات الغرب المشتركة في الجريمة الكبرى غير الأعمال الملموسة والافعال الصادمة للرأي العام في بلدانها.. اين الاحزاب والتنظيمات السياسية والنقابات العمالية والحقوقية والقانونية وباقي المهن والاعمال؟ لماذا هذا الصمت؟!، لماذا لا تقاطع النقابات والاتحادات الشركات والمؤسسات الامريكية؟ لماذا لا تعلن الأحزاب ونقابات العمال اضراب تضامن مع الشهداء الفلسطينيين؟ والامتناع عن تقديم أية خدمات لكل ما هو امريكي في المطارات والموانئ والحدود؟! واسئلة أخرى كثيرة. اعرف اني اصرخ في برية عربية، واعرف أن هناك من يترصد كلامي ويسجلني في تقارير لسجلات ودوائر الأمن أو أجهزتها الأخرى. ولكن الدم الفلسطيني اغلى، وقد استفز الملايين من أخوة الانسانية، في مختلف المدن، ومنها الغربية خصوصا، واختصرها مندوب بوليفيا في مجلس الأمن الدولي، ساشا سيرجو، خلال الجلسة التي عقدت في أعقاب الجريمة في غزة، بالقول، إن «إسرائيل» تنتهك القرارات الدولية وعلى المجلس الدولي أن يفرض على حكومة «إسرائيل» حماية المدنيين الفلسطينيين والتحقيق في الأحداث الماضية»، وتساءل سيرجو: «لماذا لم تحقق المحكمة الدولية فيما حصل خلال التظاهرات؟».

هذا المندوب البوليفي يعلن بصوت عال صرخة الضمير الانساني، ويقرأ أسماء شهداء التظاهرات السلمية في غزة، في كلمته في مجلس الامن، ويخاطب المحتلين المباشرين، قائلا: أنتم تقتلون الأطفال والنساء.

كلمة المندوب البوليفي في مجلس الأمن، اعتبرت الاقوى حيث لم يتردد في التوجه بالاعتذار إلى الشعب الفلسطيني، وطلب السماح، وتعرية التردد والقصور والضعف في الموقف الدولي: «سامحونا أيها الفلسطينيون، نحن آسفون لأننا سمحنا لقوة احتلال غاشمة بقتلكم بدم بارد، نحن آسفون لأننا فشلنا في إعادة خمسة ملايين فلسطيني إلى أرضهم السليبة، نحن آسفون لأن دولة عظمى هي أمريكا تحمي بقوة السلاح وضعف هذا المجلس الجزار الذي يقتلكم».

موقف مشرف، والانسان موقف، وهذا الأمر اختبار حقيقي، كان وما زال معبرا عن أصحابه الفعليين. وسجّل التاريخ أمثاله وبقيت ذكراه تروى للاجيال. المهم أن هذه المواقف العلنية فضحت الكثيرين من الصامتين او المتواطئين او المتامرين. وتلك لعمري مأساة اخرى، لا تغطيها براقع البيانات ولا تسكتها فضائيات الخديعة. حيث يصعب القول عنها، لاسيما من ذوي القربى، من العرب والمسلمين، من الجيران والابعدين.. ماذا تقول للناريخ، للناس والضمير.. سيظل الدم الفلسطيني ثقيلا على أيدي كل من وقف، علنا او سرا، مع المجزرة، مع الاحتلال، مع القتلة والمجرمين الذين لا يمكن أن يفلتوا او يؤمنوا من العقاب القانوني والأخلاقي.

 

كاظم الموسوي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم