صحيفة المثقف

حكايات بغدادية.. المقامة الثالثة

زاحم جهاد مطرقلت: شَوَّقْتَني واللهِ إلى قِصَّةِ سارِقُ الوَزِّ والبَطِّ

قال: هَلْ تَذْكُرُ الساقِيَةَ في نِهايَةِ الزُقاقِ ؟

قلت: وكَيْفَ لا أذْكُرُها وبِالذاتِ قَنْطَرَتِها التي كانْتْ عِبارَةً عَنْ عِبارةٍ مِنْ جِذْعِ نَخْلَةٍ مَمْدودَةٍ بَيْنَ ضِفَتَيْها والتي إنْزَلَقْتُ مِنْها يَومأً بَعْدَ إنْ زَلَّتْ قَدَمي ومِنْ سُوءِ حَظّي كانَتْ المِياهُ مَقْطوعَةً فَوَقَعْتُ وتَخَبَّطْتُ وغُصْتُ وتَلَطَّخْتُ في وَحَلٍ مُنْتِنٍ وماءٍ آسِنٍ مِنْ رَأسي حَتى قَدَمَيّ .

رَمى أهْلُ الزُقاقِ بِحَبْلٍ حَتى يُخْرِجوني من الوَحَلِ فَتَشَبَثْتُ بِهِ كَتَشَبُثَ الغَريقِ بِقِشَّةٍ ثُمَّ سَحَبوني سَحْبا وجَرّوني مِنْ الخارِجِ جَرّاً . وَقَفْتُ وأنا مُضْطَرِبٌ مُرْتَعِدٌ ومُرْتَجِفٌ مُرْتَعِشٌ؛ ومَنْ حوْلي يّنْظُرُ لي بِعَيْنِ الرِّفْقِ والشَفَقَةِ؛ ثُمَّ سِرْتُ بِخَطَواتٍ مُرْتَبِكَةٍ مُتَعَثِرَةٍ نَحْوَ بَيْتَنا بِملابسي الوَحِلَةِ المُشَرْشِرَةِ والمُخَرْخِرَةِ ورائِحَتي المُنْبَعِثَةِ تَزْكُمُ أنْفي قَبْلَ أُنوفِ الآخرينِ وتَجْعَلُهُمْ يَنْفُرونَ مَنّي نُفورَ الظَّبْي مِنْ ظِلِّهِ . وما أنْ وَصَلْتْ البَيْتَ وَبَّخَتْني أُمّي وعَنَّفَتْني ومِنْ الدُخولِ مَنَعَتْني؛ وطَلَبَتْ مِنّي أنْ أنْزَعَ مَلابِسي الخارِجيةِ والحِذاءَ ورَمْيها وهي تَقولُ:

كَمْ مَرَّةً قُلْتُ لَكَ طالِعْ دُروسَكَ في البَيْتِ لا في البُسْتانِ لكِنَّكَ وَلَدٌ لا يَنْفَعُ فيكَ لا تَأنيبٌ ولا تَأديبٌ !

أدْخَلَتْني الحَمّامَ ولَيَّفَتْني بِلِيفٍ خَشِنٍ وجَلَفَتْني وكَشَطَتْني حتى شَعَرْتُ أنّها سَلَخَتْ جِلْدي مِنْي؛ وعِنْدَما وَجَدَتْ إنَّ كُلَّ أنْواعِ الصابونِ لَمْ تَنْفَعْ معي إبْتِداءً مِنْ صابونِ الغارِ الحَلَبي مُروراً بِصابونِ الجَمالِ العراقي وإنْتِهاءً بِصابونِ الّلوكْسِ الجّديدِ الذي تَسْتَخْدِمُهُ فاتِناتُ هوليود؛ فَلَجَأتْ إلى المَسْحوقِ والمَحْلولِ؛ التايدُ والديتولُ لكِنْ الرائِحَةَ النَتِنَةَ الخَبيثةَ لازَمَتْني وأبَتْ أنْ تُغادِرَ مَساماتي إلاَ بَعْدَ أيّامٍ بّعْدَ إنْ أفْرَغْتُ كُلَّ ما في قِنّينَةِ كلونيا أبي (أرماني) وعِطْرِ عَمّي (فوجير) .

بَقَيْتُ أيّاماً أتَحاشى لِقاءَ النّاسِ ولكِنّي قَرَّرْتُ مُنْذُ ذلكَ اليَوْمُ أنْ أمْشي شَهْراً ولا أعْبُرَ نَهْراً .

قال: وهَلْ تَذْكُرُ الوَزّاتَ والبَطّاتَ التي كانَتْ لِلساقِيَةِ تَرومُ وفيها تَسْبَحُ وتَعومُ ؟

قلت: نَعَمْ؛ وكُلُّها كانَتْ للمَرْحومَةِ أمّ حُسين بائِعَةُ الباقلّاءِ؛ وكانَ مَنْظَرُها ساحِراً وجَذاباً وهي تَسيرُ وأفْراخُها مِنْ خَلْفِها في الذِهابِ إلى الساقِيَةِ مَعَ الصَباحِ أو في الإيّابِ إلى البَيْتِ عِنْدَ المَساءِ .

قال: مُمْتازْ . وهذا يَجْعَلُكَ تَتَذَكَرُ اليَوْم الذي إخْتَفَتْ أفْراخُ الوَّزاتِ والبَطّاتِ ؛ و كَيْفَ أخَذَتْ أُمُّ حُسَين تُوَلْوِلُ وتَبْكي وتَنوحُ وهي تَبْحَثُ وتَسألُ عَنْ أفْراخِها مِنْ الرائِحِ والغادي عَلى طُولِ الساقِيَةِ وكَأنَّها فَقَدَتْ واحِداً مِنْ أوْلادِها؛ وتَعاطَفَ مَعَها الجَميعُ مِنْ أهْلِ الزُقاقِ؛ والأطْفالُ كانوا يَجْتَمِعونَ حَوْلَها ويَهْزِجونَ:

(يا أُمّْ حْسينْ لا تِبْجينْ لا تْضوجينْ؛ يا أمّْ حْسينْ أصِبْري ها اليومينْ)

و إسْتَمَر الأطْفالُ على أهْزوجَتِهِمْ هذهِ ولِغايةِ مَعْرِفَةِ السارِقِ مِنْ قِبَلِ أهْلِ الزُقاقِ

و الإمْساكِ بِهِ وتَقْيِيدِهِ والدَوَرانِ بِهِ في الزُقاقِ والأطْفالُ مِنْ خَلْفِهِ يُصَّفِقونَ ويَهْزِجونَ باهْزوجَةٍ جَديدَةً:

(جُوقي أبو الزّطْ؛ إنْحَطْ وحَطْحْطْ ؛ بِالساكَه بَطْبَطْ ؛ راحَ البَطّْ غابَ البَطّْ ؛ والبَوّاكْ جُوقي أبو الزّط ّْ؛ جُوقي أبو البَطّْ؛ باكْ البَطّْ وبالظَلْمَة ْنَطْنَطْ؛ جُوقي أبو الزّطّْ جُوقي أبو البَطّْ) .

ومُنْذً تِلْكَ الحادِثَةِ هَرَبَ ولَمْ يَرَهُ أحَدٌ كَما يَقولُ المَثَلُ ذَهَبَ ولَمْ يَعُدْ .

قلت: تَذَكَرْتُهُ... إنَّهُ جُوقي الحائِرُ البائِرُ والفاسِدُ الكاسِدُ؛ الفاقِدُ لِلعِلْمِ والعَمَلِ والمُمْتَهِنُ لِلجَهْلِ والكًسَلِ؛ التارِكُ لِلحَرْفِ والحِرْفَة ِو العائِشُ على النَّشْلِ والسَرِقَةِ . ولكِنْ لا أتَذَكَرُ مِنْ أيْنَ أتى الأطْفالُ بِهذِهِ الكَلماتِ؟

قال: الشاعرُ الذي كَانَ يَكْتُبُ كَلِماتِ الأغاني لِكِبارِ المُطْرِبينَ والمُطْرِباتَ هو مَنْ كَانَ يَكَتَبَ الكَلِمات ويُرْسلها للأطْفالِ بِيَدِ إبْنَهِ الصَغيرِ فَيُعَلِّمُهُمْ....هذا ما سَمِعْتُهُ.

قلت: نَعَمْ نَعَمْ رَحِمَهُ الله والذي تَوفَّى في المَنْفى بَعْدَ تَسْفيرِهِ مَعَ أهْلِهِ إلى إحدى دُوَلِ الجِوارِ لأنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ أغْنيَةً تُمَجِّدُ النِظامَ آنذاكْ .

قال: وصاحُبُنا المُرَشَّحُ سارِق الوَزِّ والبَطِّ هو نَفْسُهُ جوقي أبو الزّطْ

متعجبا

قلت: قُلْ غَيْرَ هذا يا صَديقي .لا تَسْتًهْزِئْ بي فأنا لِسْتُ بِرَجُلاً هُزْأَةً؛ ألَمْ تَقُلْ إنَّهُ خَرَجَ ولَمْ يَعُدْ ؟

قال: معاذ الله أنْ أهْزَأَ بِكَ أوْ مِنْكَ أو أكْذِبَ عَلَيْكَ؛ نَعَمْ خَرَجَ ولَمْ يَعُدْ؛ لكِنَّهُ بَعْدَ الأحْداثِ عادَ بِإسْمٍ جَديدٍ وكُنى عَديدَةٍ؛ واحِدٌ يُناديهِ بِالسَيِّدِ والآخَرُ باِلحاجِّ والآخَرُ بِالأسْتاذِ والآخَرُ بِالشَّيخِ تَعَدَّدَتْ الألقابُ وجوقي أبو الزّطِ واحِدُ؛ ومَجْموعَةُ تُحيطُ بِهِ وتَحْميهُ ومَوْكِبٌ مِنْ العَجَلاتِ رُباعِيَة الدَفْعِ لَها أوَّلٌ ولَيْسَ لَها آخِرٌ؛ صَدِّقْني؛ هيَ الحَقيقَةُ والحَقيقَةُ أغْرَبُ مِنْ الخَيالِ كَما قيلَ في الأمثالِ والأقْوالِ .

قلت: ولكِنْ كِيْف .....

قال: سَأخْبُرِكَ بِالتَفْصيلِ لاحِقاً عَمّا حَدَثَ سابِقاً

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم