صحيفة المثقف

رحلة في عينية الشاعر عبد الباقي العمري (1)

جعفر المهاجرمن حق أي مسلم أن يتساءل ماهو السر الذي جعل كثيرا من الشعراء عبر الزمن أن يطلقوا ماجادت به قرائحهم في حق شخص إمام المتقين وسيد الغر المحجلين علي بن أبي طالب ع؟ هل كان الإمام ع يغدق المال على مادحيه كما كان يفعل السلاطين والملوك عبر العصور حين كانوا يأمرون الشعراء أن يقفوا على أعتاب قصورهم ليسمعوا قصائدهم وهم في أقصى نشوتهم وغرورهم. فيمنحون لمن يبالغ أكثر، ويطلق العنان لخياله ليتفوه بسيل من كلمات التقديس والعظمة الكاذبة على أولئك الحكام الذين لم يتركوا وراءهم إلا صفحات سوداء تحكي قصصا طويلة عن ظلمهم وفسادهم. وهؤلاء الشعراء الواقفبن دوما على أعتاب السلاطين عبر الزمن هم كمن اتخذوا ملوكهم أولياء من دون الله وقد ذكرهم الله في الآيات الكريمات:

(وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ)1

لكن على النقيض منهم هم الشعراء المؤمنون الذين إستثناهم الله من جوقة اللاهثين خلف أصنامهم. إنهم الباحثون عن الحقيقة الناصعة والقيم المثلى حيث ذكرهم الله في الآية الكريمة:

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا.)2

لأنهم لم يلوثوا نفوسهم بالمال الحرام،ولم يدافعوا عن صرح الظلم وأصنامه، بل كتبوا قصائدهم بوحي من ضمائرهم الحية، وانطلاقا من نفوسهم المتعطشة للقيم الإنسانية العليا التي عشقها رجال عظماء خلدهم الدهر.

فتفجرت قرائحهم بقصائد خالدة صادقة نابعة من وجدانهم بعد أن درسوا سيرة أولئك العظماء وعلى رأسهم رسول الإنسانية محمد بن عبد الله ص.

وسيرة أبي الحسنين العظيمة، وتقواه وتعففه وصدقه وتركه لدار الخلافة وهو خليفة المسلمين هي التي دفعت الكثير من الشعراء التغني بهذه الشخصية الفريدة التي تربت في البيت النبوي، ونهلت من أخلاق سيد البشرية محمد ص، ودافعت عن بيضة الإسلام ورسالته السمحاء إلى آخر لحظات حياتها. ولاقت مالاقت من المصائب والأهوال في سبيل ذلك.

والشعراء الذين كتبوا قصائدهم العصماء في حق أبي السبطين علي بن أبي طالب ع لم يكونوا من غلاة الشيعة كما يدعي بعض الذين عميت بصائرهم وعقولهم ونفوسهم عن رؤية الحق المبين. لكنهم وجدوا إن علي بن أبي طالب ع يتصف بصفات إنسانية رفيعة قلما تجتمع في نفس شخص .ولا شك إنه السر الإلهي الذي كمن في تلك النفوس المؤمنة الطيبة التي لم تلوثها دمى الظلم والإستبداد للرد على أعداء الرسالة المحمدية الذين حاولوا بمختلف السبل اللاأخلاقية النيل من الصفات الإنسانية

المثلى للإمام وتضحياته العظيمة في سبيل تثبيت عقيدة الإسلام المحمدي الناصعة التي تعرضت للكثير من العواصف على أيدي دعاة الزيف والضلال والإنحراف.

وقد إرتأيت أن أجوب في أبيات قصيدة عصماء أنشدها شاعر كبير في حق علم الهدى، ونبراس التقى علي بن أبي طالب ع بعيدا عن أية روح طائفية عمياء متحجرة.

والشعر الرسالي الولائي الملتزم الذي تجود به قريحة شاعر كبير لابد أن يكون صادقا وناصعا كقرص الشمس بعيدا عن الخيال المجنح، والمبالغة والمغالاة لأنه نابع من حرارة الإيمان الذي يحمله الإنسان في عقله وقلبه وضميره. وحين يكتب عبد الباقي العمري قصيدة في حق شخصية متفردة عظيمة كشخصية الإمام علي بن أبي طالب ع التي حوت كل القيم الإنسانية العليا بعد رسول الإنسانية محمد ص . آنذاك يمتزج الصدق مع القدرة البلاغية والفنية في كتابة قصيدة بحق تلك الشخصية التي مازال الأدباء والبلغاء ينهلون من طهرها ونبلها وعدالتها وعطفها الإنساني الكبير وشجاعتها في الذود عن قيم الإسلام.

ولا شك أن قصيد ة كهذه تظل تخترق حدود الزمن. وتترك بصمات لاتمحوها غابرات السنين، لأنها تغور في منجم الحقيقة وتكتشف في أعماقه رؤى إنسانية خلاقة، وتصبح بذلك زادا ثقافيا متألقا للباحثين عنها.

ومن خلال هذا الطرح لابد من استحضار شخصية ذلك الشاعر العبقري الباحث عن الحق والعدل والرؤى الإنسانية الخلاقة ولو مضت عليه وعلى قصيدته التي كتبها أعواما طويلة لكنها تبقى شامخة،وتشتد تألقا على مر الزمن. وهكذا كان الشاعر الكبير عبد الباقي العمري وقصيدته العينية العصماء بحق سيد البلاغة العربية علي بن أبي طالب ع.

لقد أجاد العمري في وصف شخصية الإمام علي ع تلك الشخصية العظيمة التي احتلت قلوب الأحرار والتقاة والمؤمنين عبر الزمن. والتي عرفت بتقواها المطلق، وجلالها الزاكي، وسموها العرفاني الذي بلغ الآفاق. ولا غرابة في أن يتسابق الشعراء لمدح هذه الشخصية الجليلة التي قال عنها نبي البشرية محمد ص:

(لكل نبي وصي ووارث، وأن عليا وصيي ِ ووارثي. )3

وهكذا كان الشاعر عبد الباقي العمري الموصلي ذلك الشاعر الألمعي الذي كرس جل شعره لمدح آل البيت ع وترك لنا عدة مؤلفات منها (الباقيات الصالحات) وهي قصائد في مدح آل البيت ع و(أهلة الأفكار في مغاني الابتكار) وهو ديوان شعر ومؤلفات أخرى. وكان أبنه حسن شاعرا أيضا وله قصيدة في مدح الإمام علي ع مطلعها:

نعم بلغت ياصاح نفسي سؤالها

وليس عليها كالنفوس وما لها.

ولا غرو أن تلد الموصل الحدباء أم التأريخ الإسلامي العريق شعراء كبار يوالون آل البيت ع كعبد الباقي العمري والخطيب الموصلي وأبو فراس الحارث بن سعيد الحمداني وعثمان الخطيب وغيرهم .

وهكذا كان الشاعر عبد الباقي العمري الذي جند قلمه وفكره لآل بيت رسول الله الأطهار ع وتوجها بسبيكة من سبائك شعره الذهبية في قصيدته العينية الخالدة العصماء بحق الإمام علي بن أبي طالب ع (أنت العلي) ولم تزل تلك القصيدة تتجدد عبر الزمن ويرددها ويطبعها الملايين من المؤمنين وتدخل قلب كل من عرف شخصية علي بن أبي طالب ع العظيمة.

ولد الشاعر والمؤرخ عبد الباقي سليمان أحمد بك العمري في الموصل سنة 1204ه الموافق 1789م وتوفي في عام 1278ه الموافق 1861م ودفن في الحضرة الكيلانية في بغداد . وقد تناول شرح قصيدته وتحليلها السيد محمود الآلوسي صاحب التفسير الكبير في ( سرح الخريدة الغيبية في شرح القصيدة العينية ) .

يقول عبد الباقي العمري في مطلع القصيده:

أنت العلي الذي فوق العلى رفعا

ببطن مكة وسط البيت إذ وضعا.

وأنت باب تعالى شأن حارسه

بغير راحة روح القدس إذ وضعا.

وأنت ذاك البطين الممتلي حكما

معشارها فلك الأفلاك ماوسعا .

وأنت ذاك الهزبر الأنزع البطل

الذي بمخلبه للشرك قد نزعا.

وأنت نقطة باء مع توحدها

بها جميع الذي في الذكر قد جمعا.

وأنت والحق ياأقضى الأنام به

غدا على الحوض حقا تحشران معا.

وأنت صنو نبي غير شرعته

للأنبياء إله العرش ماشرعا

ففي هذه الأبيات الرائعة تتفجر قريحة الشاعر عبد الباقي العمري ببلاغة شعرية نادرة عبر ضمير الخطاب (أنت)

ثم تتوالى الأبيات بوتيرة متصاعدة تزيد من لهفة المتلقي لمعرفة المزيد من الصفات الفريدة للممدوح. فكان لهذا الضمير رنين خاص أضفى على القصيدة جمالا باهرا، ومنحها دفقا بلاغيا متصاعدا، وكأن كل بيت ينافس الآخر في ذكر فضائل سيد المتقين علي بن أبي طالب ع ومناقبه وقد بدت تلك اللوحة الشعرية النابضة كعقد من اللآلئ والدرر المتناسقة في بريقها وصفائها .

ففي البيت الأول يعلن الشاعر أن رفعة الإمام علي بن أبي طالب ع وعلوه جاءت من تفانيه لهذا الدين وهو الذي أول من آمن به ولم يسجد لصنم قط. وهو الذي أول من صلى خلف رسول الإنسانية محمد ص وجاءت تلك الرفعة أيضا من قول رسول الله ص في حقه ع في ذلك الحديث المتواتر في معظم المصادر الإسلامية:

(ياعلي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ولكن لانبي بعدي).4

أما الشطر الثاني من البيت (ببطن مكة وسط البيت إذ وضعا ) فله علاقة أيضا بالرفعة التي رفعه بها الله حين ولدته أمه فاطمة بنت أسد في جوف الكعبه بعد أن انشق جدار البيت ودخلته .

ذكر الحر العاملي:

(ولد الإمام علي ع بمكة المشرفة داخل البيت الحرام في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر الله الأعصم رجب المفرد سنة ثلاثين من عام الفيل قبل الهجرة بثلاث وعشرين سنه) 5

وحكى الحافظ الكنجي الشافعي في (الكفاية) عن طريق بن النجار عن الحاكم النيسابوري قال:

(ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع بمكة في بيت الله الحرام ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب سنة ثلاثين من عام الفيل ولم يلد قبله ولا بعده مولود في بيت الله الحرام إكراما له بذلك وإجلالا لمحله في التعظيم)

والبيت الثاني مأخوذ من الحديث النبوي الشريف المتواتر:

(أنا مدينة العلم وعلي بابها ومن أراد العلم فليأت الباب)6

فالإمام علي ع هو باب مدينة العلم الذي هو رسول الله ص تلك المدينة التي حرسها الله بعنايته لتكتمل الرسالة على يده ص.وتصل إلى أبعد نقطة في الأرض والتي مهرها جبريل بأمر ربه بكلمة (إقرأ) حيث أصبح ذلك اللوح المحفوظ كتاب السعادة البشرية وأساس طريقها نحو الرقي والعلى

وفي البيت الثالث:

وأنت ذاك البطين الممتلي حكما

معشارها فلك الأفلاك ماوسعا

يشير الشاعر إلى حكمة الإمام وصبره الفريد على من جهلوه وآذوه. وهو الذي نشأ وترعرع في بيت النبوة ونهل من معينها الرائق منذ طفولته وتعلم من رسول الإنسانية ص وأخلاقه السماوية السامية كل مكارم الأخلاق ؟ وهو القائل ع:

(وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله، بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره، وانا وليد يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل . ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله من لدن إن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره . ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما، ويأمرني بالاقتداء به)7.

والفصيل هو ولد الناقة . لأن رسول الله ص كان مثله الأعلى ونبراسه الأوحد بعد الله تعالى يحاكيه في أفعاله ويقتدي به ويطيعه. وقد أجمع المؤرخون أنه لم يرد على رسول الله ص بكلمة قط ولم لم يكن ذاك البطين الممتلي حكما لما باهل به رسول الله ص نصارى نجران مع زوجه فاطمة الزهراء البتول ع وولديه الحسن والحسين ع سيدا شباب أهل الجنه واعتبره ص كنفسه من خلال الآية الكريمة:

بسم الله الرحمن الرحيم:

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ.)8

وفي البيت الرابع (وأنت ذاك الهزبر) إشارة من الشاعر إلى ذلك البلاء الذي أبلاه الأمام علي ع في الدفاع عن بيضة الإسلام ودوره الرئيسي في جميع معارك الإسلام الفاصلة من بدر إلى حنين إلى الأحزاب إلى خيبر إلى الطائف إلى صفين إلى النهروان. فهو الأسد الهصور الذي كسر شوكة المشركين في تلك المعارك بقتل قادتهم وصناديدهم بسيفه (ذو الفقار) وفي معركة الأحزاب التي سميت (الخندق) التي قتل فيها أشجع فرسان كفار قريش عمرو بن عبد ود العامري.و قال الرسول ص في حقه أثناء ذهابه إلى المبارزة:

(لقد برز الأيمان كله ألى الشرك كله)9

وهو القائل ع يوم قتل مرحب قائد اليهود:

أنا الذي سمتني أمي حيدره

كليث غابات شديد قسوره

أكيلكم بالسيف كيل السندره

أضرب بالسيف رقاب الكفره.

لكنه كان إنسانيا في معاركه وشجاعته حيث يقول (جورج جرداق):

(هل سألت التأريخ عن محارب شجاع فائق الشجاعة يبلغ به حبه لصفة الإنسان في مقاتليه , ويبلغ عطفه عليهم أن يوصي أصحابه وهو المصلح الصالح الكريم المغدور به فيقول ع (لاتقاتلوهم حتى يبدأوكم فإذا كانت الهزيمة بأذن الله فلا تقتلوا مدبرا، ولا تصيبوا معورا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذى)

 

جعفر المهاجر

.....................

المصادر:

1- سورة الشعراء- الآيات 224-225-226.

2- سورة الشعراء- الآية 227.

3- مجمع الزوائد ج9ص113

فضائل الصحابة لإبن حنبل ج2ص615.

فتح الباري ج8ص150.

4- صحيح البخاري ج6 ص3.

صحيح مسلم ج15 ص173

المعجم الكبير ج4 ص 384.

مجمع الزوائد ج9ص111.

5- الفصول المهمة في إثبات الأئمة - الحر العاملي ص30

6- مستدرك الحاكم – حديث رقم 4693.

كنز العمال ج11ص600.

تأريخ دمشق ج9ص20.

7- مقطع من أطول خطبة في نهج البلاغة تتمحور حول مجموعة من القضايا الأخلاقية والتربوية وذم التكبّر الذي يُعد المحور الأساسي للخطبة، سميت بالقاصعة لأنها تتضمن تحقير إبليس واتباعه وتصغيرهم، من قولهم قصعت الرجل إذا امتهنته وحقرته، وغلام مقصوع، أي قمئ لا يشب ولا يزداد .

شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج13 ص128نشر مكتبة المرعشي النجفي.

8- سورة آل عمران – الآية 61.

9- السيرة الحلبية ج2ص631.

تأريخ الطبري ج3 ص172.

السيرة النبوية لإبن هشام ج3ص224.

10- علي صوت العدالة الإنسانية ص48- جورج جرداق.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم