صحيفة المثقف

مقهى الشبيبة.. هل تذكرون؟

حاتم جعفركنت في مقتبل العمر وحديث عهد في السياسة حين جاءه أحدهم بنبأ ترجّل مجيد محسن المفاجئ، ليبكي أثرها غلوبي صاحب أشهر مطعم للكباب في المدينة بكاءاً مرّا وليعتصر قلبي معه.

صورة صاحب المقهى وواضع لبنتها الأولى وراعيها ستشد إنتباه زائريها مباشرة، حيث تجدها مُعلقة على الحائط الأخير المواجه تماما لزبائنها حين يدخلون. ومما ساعد أكثر على لفت اﻷنظار الى تلك الصورة هو وجود طاولة بليارد، نظرة، خضراء، تشبه في لونها والى حد كبير ذلك العشب المندى، والذي جفَّ قبل وقت ليس ببعيد، وبفعل شروق شمس الصباح اﻷولى، مؤطرة (الطاولة) بنوع متميز وخاص من الخشب الصقيل اللماع ذو الجودة العالية، بأبعاد فارهة وضمن قياسات مُتفق عليها دوليا، متموضعة في الثلث اﻷخير من المقهى حيث خلا من أرائكه وبالتالي من جلاّسه ليساهم بدوره في التقليل من وقع الحركة هناك وما يمكن أن تسببه من جلبة.

وعلى الرغم من بساطة المثال والإستشهاد الذي أتينا على ذكره، ولكي لا يمر مرورا سريعا، فلا بأس من التوقف عنده لبرهة خاطفة من الوقت لنقول: بممارسة لعبة البليارد، فانه وبمعنى من المعاني، سيحمل معه دليلا ومؤشرا على طبيعة مرحلة زاهية من ذلك الزمان، ستعكس بالضرورة مستوى ما من التحضر. وللعلم فإنَّ طقسا كهذا، لم يكن حكرا على مكان او مدينة بعينها من مدننادون سواها، بل هي ممتدة على مساحة الوطن وبقدر توفر الفرصة المناسبة وشروطها أيضا. (في أوقات لاحقة تمَّ رفع طاولة البليارد، وربما طال هذا الإجراء مدنا وأماكن أخرى، وقد ينطوي فعل كهذا على بداية تراجع ونكوص، لتحل محلَّه ما يمكن تسميته بثقافة الحجر).

ربما سيصعب وصف ملامح صاحب الصورة بشكل دقيق، فقد بدا عليها ما يوحي بِقدمها، فضلا عن تلك الرتوش واللمسات الفنية التي أجريت لها وبأنامل ربما أظهرته بعمر أصغر بكثير من عمره الحقيقي، قياسا الى الفترة الزمنية التي كان قد تمَّ فيها ألتقاط الصورة، وبذا سنبتعد كثيرا أو سيصعب علينا المسك بأهم ما يُميزه أو باﻷحرى أهم ما يميز ملامح وجهه، مما دفع البعض منا وتحت واعز لا يخلو من الفضول والرغبة في معرفة المزيد، الطلب من أصدقائه ومَنْ عايشه تفصيلا وإيضاحا أكثر عن ذلك، ولكي يتسنى لنا أيضا نحن أبناء الجيل الثاني أو ربما الثالث، الوقوف عن قرب على أهم طباعه وخصاله، وﻷسباب لا تخرج عن درجة الإنبهار بشخصيته ومواقفه التي ظلت حاضرة وحديث ساعتنا حتى بعد رحيله.

وعلى رأي اﻷكثرية الساحقة فإنَّ ما يزيد على ربع وجهه كان مغطى بشاربين كثّين، تسللت فيما بينها بعض من خيوط الشيب، مما أضاف على وقاره وقارا، لكنهما بقيتا فاحمتي السواد بشكلهما العام، بارزتين عن عمد وقصد، إنسجاماً وجريا مع تقليد درجت عليه أوساط واسعة من معاصري تلك المرحلة وخاصة شبابها، حيث وجدوا فيها ما يميزهم عن الآخرين ولتشكل بالنسبة لهم هوية وعنوانا خاصا بهم، وسيبقى حكرا عليهم لسنوات طويلة لاحقة، سيدفعهم بكل تأكيد للتفاخر والتباهي، واﻷهم من ذلك سيعطي مؤشراً وعلامة صريحة الى أية فئة أو حزب سياسي ينتسبون. أمّا عيناه فسيلفت نظرك تحديقهما الثابت صوب هدف سيتحقق بلا شك، وتنمان أيضا عن ثقة وتطلّع عاليين للمستقبل، كذلك فيهما من القدرة ما يسعفانه على قراءة وتشخيص ما يمكن حدوثه.

هذا ما رأته عيناصاحب المقهى (مجيد محسن) وما أنذرت به، رغم البون الواسع والشاسع، الذي كان يفصل بين الواقع القلق والمضطرب والمخاض العسير من جهة، وبين الطموح والأمل المرتجى الذي سادَ وقتذاك من جهة اخرى. قال عنه من عاصره بأنه هادئ في طبعه وفي مشيته. قليل في كلامه، صبور طويل الأناة، غير ان ذلك لم يُقلل ولم يأتِ على حساب عزيمته واصراره. هو بإختصار ابن بار لمرحلة زمنية باسلة، كانت قد إنقضت أو قُضيَ عليها بفعل فاعل ولمّا تزل بعد في مراحلها عمرها الأولى ، عسى أن تعود ذات يوم، مَن يدري!.

رحل عن الدنيا أبو عامر ( نسبةً الى ولده الأكبر) في وقت مبكر جداً حتى فاجأ بغيابه هذا أعداءه قبل أصدقاءه، فكان خبرا كهذا مصدرا لسعادة وسلوى وتشفي اﻷولين، وتعاسة وجرحا غائرا للطرف الثاني حيث عدّوها خسارة كبيرة، سيصعب تعويضها وفي زمن عزَّ فيه الرجال. غير ان ذلك لم يؤثر ولم يأتِ على حساب ذاكرة الناس وأهل المدينة إذ بقيت مقهاه تحمل اسمه رغم تغيّر إداراتها والقيمين عليها وتعاقب أنظمة حكم متنوعة. كان رجلاً بمعنى الكلمة، بهذا الوصف ردَّ علينا حين سألناه أحد أصدقاءه من الذين زاملوه في مرحلة مفصلية من تأريخ العراق، يوم دخلت البلاد ودشنت عصراً جديدا في سيرته وسيرورته، ويوم إنتقلت به وبسواعد أبناءه وطليعته المقدامة من الزمن الملكي الى الزمن الجمهوري، فمنذ تلك اللحظة والأمل والحلم لم يبارحاه يوما أو ساعة بل سارا معه حيثما سار. كانت وصيته لولده الأكبر من بعده الحفاظ على استمرارية وديمومة المقهى، ويحسبها وقفاً وملاذاً للطيبين ولمن ظل وفيا، متمسكا بالعهد والوعد.

لعل في ترجّله المبكر بعض رحمة، فبعد أن تكحَّلت عيناه ومنحته القدرة على أن يرى ويعيش فترة من الزمن وتحت ظلال وفيء ذلك العصر الذهبي والأيام المباركة، فقد حدث وبشكل مفاجئ ما لم يكن في الحسبان ولمّا يرتوِِ بعد من ذلك الرحيق، على الرغم من نجاح الوطن وأهله في قطع مسافة بعيدة… بعيدة على طريق تحقيق الإنعطافة الكبرى، وغدا اثرها لصوت الشعب اليد الطولى والأعلى في صناعة التأريخ والقرار، متطلعين الى أفق أبعد، والى مستقبل بات على مرمى حجر وقاب قوسين أو أدنى من التحقق، الاّ انه أخَذَ وعلى نحو مفاجئ وسريع ومدوي بالتراجع ولتتراجع معها قوة الدفع والتأثير على الشارع وما أعقبها من إختلال في موازين القوى، وليأفل الوطن كما أفََلََتْ روح أبو عامر. هل في رحيلهما المبكر ما يمكن إعتباره رسالة إحتجاج ورفض لما يدور من أحداث؟ ربما.

راح البعض إثر تلك الإنعطافة والإنكسار غير المبارك يعيد النظر في حساباته، ولكن بعد فوات الأوان وبعد إنفراط عقد المحبة والرضا المتبادل بين الشعب وبين إبنها البار، والذي كان يطيب لأبي عامر أن يسميه وكما الآخرين من أبناء جيله بزعيم البلاد اﻷوحد وحبيبها، ذو الجاذبية والحظوة والحضور والإبتسامة الرؤومة، الممتدة على مختلف بقاع الوطن، بإتجاهاته وأركانه الأربعة .

في حينها ولسنين تَلتْ، ليس من أحد يعرف سرّ الإنتكاسة والنكوص ولا من يقف وراءهما، هل هو الغلو والمبالغة في قراءة ما كان يجري، أم الشعور بالنشوة والنصر التي باغتت الأطراف ذات العلاقة والمصلحة في التغيير، حتى أعيتهم وأفقدتهم القدرة على التحكم والسيطرة على زمام الأمور! أم هو ضعف حساب وقصر نظر! أم رغبات وإرادات اقليمية، أرادت إستباق ما يمكن أن يجري في المستقبل من تفاعلات قد تطولها وربما تطيح بها! أم ان اتفاقات جرت في ليل حالك الظلمة بين قوى عظمى عابرة للحدود والقارات، ظلَّت دسائسهم طي السرية والكتمان حتى حانت لحظة الإنقضاض على الغنيمة البريئة وتقاسموها وهي لمّا تزل بعد طرية، فتية، لا قدرة لها على المواجهة أو الدفاع عن نفسها. أم ان كل تلك العوامل إجتمعت وتضافرت مع بعضها البعض لتنتهي بوأد الحلم وهو في مهده؟. هذا ما قيل وما كُتبَ رغم قلّته وشحته عن تلك الحقبة من الزمن، والتي فلتت من بين أيدي مَن راهن عليها وانتظرها بفارغ الحب والصبر، والأخطر من ذلك هو ما سيليها من دفع لأثمان باهضة، ما إنفكت تنزف قهراً ودماً حتى اللحظة.

مقهى الشبيبة، هذا هو إسمه وما أختاره لها صاحبها (مجيد محسن)، والذي ظلَّ زاهياً ولسنوات طويلة بعد رحيله، محافظاً على مكانته وعلى الإرث الذي خلفه وأرساه حتى من بعد غيابه، ربما من أتى من بعده كان على ذات العهد، بل كان حقاً كذلك وأهلاً لها. روادها كثيرون ومن مختلف اﻷجيال واﻷعمار وباتت موضعا ﻷستقطاب مُلفت ومن مناطق شتى من المدينة. أحدهم بل أحد أهم زباءنها وروادها المدعو أبو داود رغم بعد الطريق الرابط بين مسكنه ومكان لقاءاته المفضل، فلم يمنعه أو يعيقه ذلك عن قطع مسافات طويلة ويجتاز مقاهي عديدة ليصل الى هدفه المرتجى. وكم من مرة لامه وعاتبه سكان منطقته على إختياره هذا، الاّ انه لم يعر لذلك اهتماماً، وإذا ما إضطر لتبرير الأمر أو تفسيره فسيقول لهم: لابد من تنوع أماكن الجلوس والأشخاص والأحاديث، ففيها راحة للنفس والبال. علماً إن أبناء منطقته لا يتذكرون إن كان أبن حيّهم حديث ساعتنا قد جالسهم ولو لمرة واحدة.

 

حاتم جعفر

السويد ــ مالمو

...

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم