صحيفة المثقف

المُظفّر في سطور..

عبد الاله الياسريالمصلح الكبيرالشيخ محمد رضا المظفّر (1322هـ ــ 16 رمضان 1383 هـ)، عرفته وهو في اواخر كهولته، يوم كنت صبيّا قبل البلوغ بين الثانيةَ عشرةَ والثالثة عشرة. . كان رشيق القوام، ربعةً. تتدلّى على صدره ذؤابة بيضاء من عمامته، فتزيده جمالا على جمال. وسيم المحيّا، ذا عينين يشعّ منهما الذكاء والجدّ والحزم. سريع الخطى، حين يمشي ينطلق كالسهم لا يشغله عما توجّه اليه ما يشغل الناس في الطريق. مفرطاً في التدخين حتى لأكاد أتخيّل بعض صفرة لاحت على شاربه الذي وخَطَه الشيب. بسيطاً في ملبسه. زاهداً في مأكله، يذوق مجاملة ما يُقدّم اليه بعد الصلاة في شهر رمضان ولايأكله أو يحمله معه، ولكنْ يعطيه رجلاً مسكيناً يجلس عند باب المسجد. . وكان رخيم الصوت حين يجهر بسورة الفاتحة وسورة قصيرة بعدها اثناء صلاة المغرب والعشاء. متعجّلا في قراءته. متعجّلا في ركوعه وسجوده. وربّما تكلّف ذلك التعجّل، لكي لايُؤخِّر المصلّين طويلاً عن أعمالهم التي أوقفوها، وجاؤوا لصلاة الجماعة. ولم يكن عدد المصلين الذين كان يأمّهم من ذوي الحوانيت جوار مسجد (المسابج) إلا بضعة أشخاص. وما كان أكثرهم يحسب أن هذا الشيخ (المظفّر) المتواضع مرجعاً دينيّاً قد بلغ درجة الإجتهاد في العلم ــ إذ كانت تلك الدرجة العلمية في النجف تحاكي عند الناس درجة الملوك والرؤساء في العظمة والحيطة والرخاء ــ بل كانوا يحسبونه مجرد إمام مسجد لاغير.

في يوم نجفيّ شديد العجّ (سنة 1962او1963)، لزم والدي المصدور الدار، وأمرني بأن أخبر الشيخ (المظفّر): أنّه يأسف لعدم إستطاعته الحضور في الموعد المحدّد للذهاب معه الى المكان المقام فيه حفل الزفاف لأحد اٌقاربنا لإبرام عقد النكاح ؛وأنّي أنوب عنه. وما أن أتمّ الشيخ (المظفر) الصلاة حتى تقدّمت اليه مسلّماً، وأخبرته ما أمرني به السيّد الوالد. لم يمتعض من ذلك ولم يعلّق، وكأنّ استبدال الوسيلة المتفّق عليها بوسيلة اخرى لايعني أيّ شئ عنده مادامت الغاية باقية هي هي ويمكن تحقيقها بالوسيلة الثانية. هكذا أفسّر ردّ فعله وانا في مثل سنّه اليوم. على ايّة حال. رافقني مشياً من محلّة (البراق) الى محلة (المشراق) بمدينة النجف، وهو يسألني طول الطريق عن مدرستي الإبتدائيّة: معلّميها وتلاميذها ودروسها، وعمّا أحبّ فيها وما لاأحبّ. لقد أراني من الحدب الابويّ والتربويّ مالم أرَه من أب أو معلّم في تلك الرفقة الخالدة في الذاكرة. ولمّا وصلنا الى الدار، دخلت أنا ووقف الشيخ الجليل عند الباب ينتظر الإذن بالدخول. ولقد اطال عليه ربّ الدار الإنتظار لجهله قدره وقيمته كما أطالت عليه العروس الإنتظار من بعد . فما كادت تقول "نعم"على صيغة العقد التي اخذ يعيدها ويعيدها إلا المرّة الأخيرة. أنجز الشيخ (المظفر) واجبه الشرعيّ ــ كما كان يعتقد ــ وهنّأ من كان قربه من الحاضرين بالزواج، وانصرف مسرعاً خارجاً من الدار، فتبعه ربّ الدار مهرولاً وبيده شئ من المال يريد أن يعطيه إياه، فأبى الشيخ (المظفّر) كلّ الإباء أن يقبل ذلك، وأعلمه انّ عمل الخير أجره عند الله. تعجّب الرجل من موقف الشيخ أيّ تعجب! . وما العجب عندي من عدم قبوله المال وهو العالم الزاهد؛ ولكنّ العجب كلّ العجب أن لم تنقبض نفسه المنبسطة ولم يضق صدره الرحيب وقد لاقى من ذوي العرس مالاقى من غلظة وتجاهل، واضاع من وقته الثمين ما أضاع في تلك الليلة المغبرّة السوداء. . فمن أيّ معدن نفيس صيغ هذا العلامّة العظيم والمصلح الكبير؟. ولم تمضِ بضعة أشهر على هذه الحكاية حتى أخذ يحضر المسجد يوماً ويغيب ايّاماً. وقيل انّه مريض وفجأة "طوى الجزيرة حتى جاءني نبأ ــ فزعت فيه بآمالي الى الكذب". . .

انتهت شهادتي. ومما يظهر فيها هو اهتمام العلامّة (المظفر) بالإنسان والعمل والتعليم والطفولة. لم يكن يعظ الناس بالكلام في المسجد البتة بل كان يعظهم بسلوكه المتميّز، ولاأدري ماذا تعلّم الآخرون من وعظه السلوكيّ ولكنّي تعلّمت منه الكثير:تعلّمت منه أن الدين والعالم الدينيّ هما في خدمة الإنسان وليس العكس. وتعلّمت منه ان الممارسةهي لبّ الدين وأنّ الطقوس هي القشرة . وتعلّمت منه الإنفتاح والتفكير. وأظن أن تلاميذه كالشاعرمصطفى جمال الدين الهاشميّ والخطيب احمد الوائلي وغيرهما تعلّموا منه التغيير والتجديد. هذا موجز ماأعرفه عن بعض سلوكه اليوميّ غير المكتوب ولعلّ فيه ماينفع وامّا فكره المكتوب فاهل العلم أولى بالحديث عنه من خلال مولفاته وهو شاعر مجيد أيضا. ومهما يقل المرء في هذا المصلح الكبير والمفكّر العميق فهو دون قدره ومقامه.

 

عبدالإله الياسري

.....................

(1) هذه هي شهادتي أو إجابتي على سؤال طرحه عليّ أ. د سعيد عدنان أطال الله بقاءه؛ وقد نشرها على مدوّنته مشكوراً قبل سنة أو أكثر ثمّ رأيت أن أعيد نشرها اليوم إحياء لذكراه السادسة والأربعين في 16 رمضان 1439 هـ، وتخليداً لنهجه الإصلاحيّ.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم