صحيفة المثقف

زاحم جهاد مطر يعيد الاعتبار لفن المقامة التراثي

هنالك اجناس ادبية اعتقدنا بانها انقرضت، منها فن المقامة الذي يقوم على فنون كتابية كنا نعتقد كذلك بانها انقرضت كالجناس والطباق والسجع والبديع وسواها من اساليب كتابية قديمة كانت تشكل مساحة واسعة من ادبيات تراثنا القديم . وركن النقاد الى ان فن المقامة اقتصر على عصري الهمذاني والحريري، الذي وصل فيه فن المقامة ذروته كجنس ادبي مستقل لا يشبه الشعر ويختلف عن النثر باستخدامه للمؤثرات التي يشغلها الطباق والسجع والجناس والبديع وسواها، اضافة الى الصوت فهي تعتمد في جزء كبير منها على الاصوات سواء بتبديل الحروف او الحركات الاعرابية او بتقابل الحروف والحركات لتؤدي معان مختلفة تأتلف احيانا وتتناقض في احيان اخرى كما في المقطع الاتي من مقامة حكايات بغدادية "2" :

"فقد نَضَبَتْ أنْهارُنا وجَّفَتْ آبارُنا ويَبُسَتْ اشْجارُنا وأفَلَتْ أقْمارُنا؛ خَيْرُنا إنْحسَرْ وشَرُّنا إنْتَشَرْ؛ مَوارِدُنا تَذْهَبٌ إلى غَيْرِ مَواضِعها وأمْطارُنا تَأتي في غَيْرِ أوانِها؛ فأصْبَحْنا في زَمَنٍ لا يُطيقُنا ولا نُطيقُه؛ وطَقاطيقُنا غَيْرَ طَقاطيقِه؛ طَقاطيقُنا أغاني جَميلةٌ وألحانٌ وطَقاطيقُه ُ إنْفِجاراتٌ وغُبارٌ ودُخانٌ؛ وعلى هذا المِنْوالُ سارَ ويَسيرُ الحالُ"

فن المقامة يقوم على اللعب بالالفاظ والمعاني المتقاربة شكلا والمختلفة معنى واداء، ومثل هذا الفن يحتاج الى قدرة استثنائية ومعرفة واسعة بمعاني المفردات ودلالاتها المعنوية والصوتية لتؤدي فكرة الكاتب او المؤلف او يوصلها الى القاريء بشكل صحيح وعلى قدر من المتعة والفائدة.

نجد في مقامات زاحم جهاد افكار ومعان عصرية او معاصرة في منحى مقاماته ولولا ذلك لظن القاريء بانها تنتمي او من عصر الهمذاني والحريري، ويكاد القاريء لا يعرف غير هذين الاسمين اللامعين في فنون كتابة المقامة ماضيا وحاضرا، ولكن زاحم جهاد استحق بمقاماته المسماة "مقامات بغدادية" التي اصدر منها ثلاث مقامات، استحق الانضمام الى كتاب المقامة الاوائل المجددين بمقاماته الجديدة والمعاصرة بمواضيعها ولغتها .

هنالك مواضيع معاصرة لكن يمكن ان تنطبق على عصور اسلامية عديدة قديمة وحديثة كالحوار التالي الذي يشكو من سوء المسؤولين والحكام، وهذه الشكوى تمتد بعمق في التاريخ العربي والاسلامي لاكثر من 1400 سنة عدا فترات قليلة بهذا التاريخ الطافح بالحكام الجائرين :

"جَعَلْناهُم وُلاةَ أمْرَنا فَجَنَوا خَيْرَنا وشَكَروا غَيْرَنا؛ وَعَدُونا بِالمَنَّ والسَلوى ووَهَبونا الفِتَنَ والبَلْوى؛ فَعادَتْ حواضرنا قُرى وغَدا ماؤُنا قِرى .قلت: ومَنْ هؤلاءْ ؟

قال: أتَحَدَّثُ عَمَنْ يُريدُ أنْ يَعودَ مِنْ جَديدٍ بَعْدَما نَكَثَ بالوُعودِ والعُهودِ مُنْذُ زَمَنٍ لَيْسَ باِلبَعيدِ"

مقامات بغدادية "2"

وهذا هو واقعنا بالفعل الان فمن حكم 15 عاما ما زال متشبثا به ويريد العودة للحكم باستعماله الوسائل والحجج والمكر والعهود والوعود الزائفة عن طريق انتخابات مشكوك بنزاهتها، بالف طريقة وطريقة التوائية .

ما يبذله الشاعر والاديب زاحم جهاد من جهود في اعادة الاعتبار لفن المقامة، جهد كبير لا يضطلع به الا قلة من الادباء لانه يتطلب جهدا مضاعفا بتطويع فنون المقامة الصعبة كالطباق والجناس والبديع والسجع والحوار والقص وغيرها لتستوعب مواضيع معاصرة، سواء كانت ذات منحى سياسي او اجتماعي او لغوي باعتبار ان فن المقامة يقوم بالاساس على اللغة، وما يمكن ان يستخلص منها من تأثيرات صوتية ومعان مختلفة تؤدي الاغراض والمعاني التي يريد ان يوصلها المقاماتي الى القاريء، والمثال الواضح في هذا الصدد : "مقامات بغدادية" . اضافة الى توظيفة للموروث الديني وغبر الديني بطريقة عصرية ممتعة بلغتها ودلالاتها كما في هذا المقطع من مقامة "مِنْ دالِ العُنْقودِ ولآلئ العُقودِ" :

تَحْتَ سَقْفٍ مَرْفوعٍ غَيْرِ مَسْنودٍ؛ وعَلى بِساطٍ غَيْرَ مَزْرودٍ؛ جَزاءٌ مِنَ الحَميدِ الوَدودِ؛ كَما جاءَ في الكِتابِ المَسْرودِ؛ والحَديثِ المَسْنودِ؛ وكَلامِ أَسَدِ الأُسودِ أمامِ الشُّهودِ؛فَكَيْفَ تَتَنَكَرُ الحُشودُ للعُهودِ والوعودِ؟

مقامات بغدادية "1"

جميعها تصور واقع الحال في العراق بشكل واقعي وحقيقي بتطويع فن المقامة، الذي يحتوي على وسائل او فنون كتابية تشد القاريء وتبعد عنه الملل كالطرائف والايحاءات الطريفة والممتعة لمعاني بعض المفردات وجناساتها، لتشكل في النتيجة لوحة فنية باهرة لا تدخل الملل في نفس القاريء، خاصة ان مواضيعها معاصرة تنتقل بين اجواء حقيقية يمر بها المواطن على الصعيد السياسي او الاجتماعي او الاقتصادي .

الشيء الجديد الذي اضافه المقاماتي والاديب زاحم جهاد مطر لفن المقامة اضفاء الطابع القصصي الحديث على المقامة بتوسيع الحوار والسرد الذي يتخلل المقامة، واهتمامه بالمكان كاحد العناصر الاساسية، وهذه العناصر تدخل في اطار التقنيات القصصية او من مقومات كتابة القصة المعاصرة، اي اننا امام عمل يمزج فن كتابة المقامة باساليبه وشكله التراثي مع استخدام التكنيك والتقنيات الحديثة بكتابة القصة وابرزهما الحوار والسرد اللذين يضفيان على المقامة طابعا ممتعا ومعاصرا، وهذا يدخل في التجديد والريادة بكتابة المقامة اي الحفاظ على اصولها والتجديد بالمضامين واساليب وطرق الكتابة باستخدام التقنيات الحديثة، بحيث يمكن ان نطلق عليها اسم "مقامات معاصرة" لتمييزها عن "المقامة التراثية" التي اشتهرت على يدي الهمذاني والحريري .

لم يكن ذلك متنافرا مع المقامة، فهنالك من يرجع المقامة او اصولها الى الحكواتي، او انها مستمدة منه وتمثل الوجه الاخر للحكواتي، فهذه العناصر ليست دخيلة او متنافرة مع فن المقامة بما فيها الحوار والسرد والقص والمكان والزمان وغيرها من عناصر القصة وتقنيات القص، ولكنها لم تأخذ طابعها المعاصر او ابعادها المعاصر في المقامة التراثية كما يفعل زاحم جهاد،فقد استفاد من جميع هذه العناصر مع المحافظة على اصالة المقامة باستخدامه للبديع والجناس والطباق والسجع التي تشكل البنية الاساسية لفن كتابة المقامة .  

المقامات او النماذج المقاماتية التي قدمها زاحم جهاد مطر لحد الان ذات مستوى رفيع الى حد ما، لا يقل عما وصل اليه فن المقامة في ازهى عصوره كفن كتابي وتراثي ممتع ومفيد، وبذلك فانه اعادة الاعتبار اليه كفن تراثي بعد ان ركن للنسيان لقرون طويلة من خلال توشيحه بمواضيع معاصرة بلغة تتوسط الاعتماد على الجناس والطباق والسجع والبديع التي كادت ان تختص بفن كتابة المقامة وحده، رغم وجودها بكثرة احيانا في العديد من النصوص والخطابات التراثية .

واذا اردنا ان ننقب عن المقاماتية في وقتنا المعاصر نجد ان زاحم جهاد مطر ربما يكون الوحيد بين الادباء، تجاوز حدود كتابة المقامة الى محاولة التجديد في مضامينها واشكالها من كتاب المقامة في عصرنا، كذلك نجد اليازجي الذي استطاع ان يحاكي الهمذاني والحريري بلغته الرصينة، ومعرفته المتشعبة باساليب الجناس والسجع والطباق والبديع، فاستحق ما كتبه بهذا الفن الصعب السهل، ان نطلق عليه اسم مقامة حاضرا وماضيا، تضاهي المقامة التراثية التي عرفت اوانتشرت على يدي الهمذاني والحريري في تراثنا القديم .

 

قيس العذاري    

  

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم