صحيفة المثقف

في نقد الصورة

161 عصام الشرقاويتكاد تخلو الساحة الثقافية من مساحات نقدية لفن التصوير أو تحديدا للصورة الفوتوغرافية التي لا تقل تقنيتها عن تقنيات الأقصوصة أو الومضة النثرية أو فيما أُستحدث من تعابير نقدية في هذا المجال الذي تُهلل له الأوساط الثقافية عبر الوسائط الصحفية. وقلما نجد نقدا بلغة بسيطة يُحلل ويقرأ مفردات الصورة، ويضعها في مكانها الصحيح كفن إنساني على اعتبار أن مؤلفها" المصور" لا يقل في قيمته الإبداعية عن المبدع الروائي، فكلاهما لديه رؤية للأشياء وللكون وللمجتمع، وإن اختلفا في الوسيلة الإنشائية لهذه الرؤية سواء أكانت عدسة أم قلما.

وعلى صعيد متصل للإبداع تأتي الجودة التي تميز عملا عن آخر، وهنا بالطبع أضع الصورة الفوتوغرافية تحت معيار الجودة جنبا إلى جنب مع النص الروائي، والنظر إليها كعمل مكتمل الأركان له عتباته السيمائية التي تخضع للتأويل والتفكيك. ومن ثم الوصول لمغزى الضوء والفراغ والكتلة واللون، وبذلك يمكن الوصول لفكر المصور، وتبيان رؤيته للمنظر الذي التقطته عدسته.

وفي ضوء ذلك، سيتراكم أمام الذائقة فن جديد مختلف في لغته، بل ما يميز تلك اللغة العالمية التي يفهمها الجميع بمستويات الحس الإنساني، لتضع البشرية أمام لغة الصورة وسردياتها، مما يخلق لدينا ارتقاء ما لو أُحسِن تذوقه؛ لوصلنا إلى حالة العرفان الأعلى من السمو.

إن العرفان المقصود به هنا هو اتجاه حضاري لا ترتقي أية حضارة إنسانية إلا به. وهو المعرفة التي يُحدِثها المنظر أيا كان، سواء منظر طبيعي أو بشري. وبالتالي يأتي عليه المبدع ( الأديب- الشاعر- المصور) ويقيم إبداعه بعد مشاهدة هذا المنظر الذي يفجر طاقته القلبية والعقلية والحسية، فيعيد لنا هذا المنظر حسبما اتجهت بوصلة مشاهدته لهذا المنظر، وهنا تغلب طاقة على أخرى، لذلك نرى إنتاج المبدع يغلب على منظره تارة الصورة القلبية وتارة أخرى العقلية أو الصورة الحسية. وهنا يتفاوت كل مبدع عن الآخر في تلقيه عرفانية المنظر الأم.

وعند تطبيق ما سبق على الصور الفوتوغرافية، يأتي على سبيل الانتقاء لبعض الصور للمصور المصري"عصام الشرقاوي" في صورته المسماة بـ"الانتظار"، والتي يتحقق فيها البعد العرفاني الذي انبثق منظره من تجانس الطبيعي والبشري، وفاضت طاقته القلبية على ملامح الصورة اللونية، وعكست مسألة الكتلة والفراغ في الحيز الكوني لذلك الإنسان المنتظر لشيء ما، يقاوم به كتلة الظلام الدامس خلفه، والتي تحتل المساحة الأكبر من تكوين الإطار المشهدي للصورة، فالمشهد الخلفي كله غارق في كميات من السواد الذي يوحي بلا شيء غير العتمة المجهولة، وكأننا أمام العتمة الكونية الأكبر. وعلى الجانب الأيمن من هذه الإطارية تحتل أحد مكونات الطبيعة في جوهرها النباتي والمُصنَّع على هيئة"ضلفة خشبية طويلة تجسد مرحلة غابرة من الفن المعماري المصري في تصميماته الضخمة لمساحات النوافذ لاستقطاب أكبر كمية من الهواء والشمس كي تقاوم عتمة الداخل وتجدد متنفس الكائن العائش بالداخل.

وفي نفس السياق، تأتي صورة الشرقاوي بمفردات الكائن البشري كأنه ظل من ظلال الفضاء الطبيعي وفراغاته اللا متناهية، حيث تتجه نظرة عينيه صوب اليمين غير المرئي. وهنا تتأزم حالة" شَاف الرّجل" أي صعد مكانًا عاليًا ونظر، وهي المكانة المعلومة بالنافذة كما حددها إطار الصورة، لكن مسألة الشوف هنا يشوبها بعض من عطب كما توضحها تلك النظارة الطبيبة فوق أعين الرجل(بطل الصورة)، والنظارة هنا بمثابة معالج موضوعي لمساحات الخلل في الرؤية الإنسانية التي قد انحرفت عن مسارها الكوني لذلك جاءت كتلة الكائن البشري أقل من كتل المكون الطبيعي، وهذا العطب يعكسه أيضا استناد الرجل بمرفقيه على حجر النافذة الصلد جامعا كفية أمام ذقنه، كنوع من تحد أكبر لهذا الخلل الصامت الذي يتجلى في طريقة فمه المطبق وكأنه بشكله الآني وملبسه الأبيض المحايد (والملبس هنا هو نقطة الضوء الوحيد في إطارية الصورة ككل) يتحدى الصمت بصمته.

إن المشهدية العرفانية لصورة الشرقاوي، قد فككت فضاءاتها العامة بالمشاهدة القلبية، ولم تتحيز للمكون الطبيعي أو البشري، بل جاءت راصدة لحالة الونس والألفة الكونية بين المكونين. وبالتالي تعطلت وظيفة اللون المراوغ هنا في الصورة التي لم تنحز في توزيع الكتل البيضاء والسوداء حسبما طبيعة الفراغ المفروض على المشهد ككل. وهذا قد برز جمالية التصوير بالأبيض والأسود ومنح المصداقية للمشهد الذي اتسم بالواقعية.

 

د. محمد طلعت الجندي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم