صحيفة المثقف

النكتة .. وسيلة المكبوتين لقهر القهر! (3-4): تحليل سيكوسوسيولوجي

قاسم حسين صالحتقديم: يمهّد القسم الأول من هذه الدراسة الى التعريف بتعدد مفاهيم النكتة واستعراض نشوئها تاريخيا عبر الحضارات واختلاف صيغها ودلالاتها بين الشعوب وتبيان وظائف النكتة وأهدافها، ويستعرض القسم الثاني تفسير الفلاسفة وعلماء النفس للنكتة واصنافها واهداف كل صنف منها، ويركز القسم الثالث على النكت السياسية في العالم العربي ودور الناس والسلطة في الترويج لها، فيما يتناول القسم الرابع النكت الجنسية واستطلاع رأي العراقيين بدلالاتها .. في تحليل سيكوسوسيولوجي للباحث.

• النكت السياسية

النكتة السياسية هي نقد موجّه نحو شخصية سياسية او نظام حكم، تصاغ باسلوب ساخر او هجاء صريح او رسالة مشّفرة، يتناقلها الناس همسا او يتداولونها في المقاهي او تقال على خشبة مسرح .. تستهدف فضح الحاكم المستبد او المستفرد بالسلطة والثروة، وكشف نواياه العدوانية ضد الشعب، وقسوته في تعامله مع الخصوم وتناقض اقواله التي تأتي عكس افعاله.وتعمل ايضا على نبش ماضي هذا الحاكم والكشف عن دونيته والتشهير بأخلاقه .. بسخرية صريحة او مبطنة تبعا لسلطة الحاكم وقسوة بطشه، ونوع النظام ما اذا كان دكتاتوريا او ديمقراطيا، الهدف منها التحريض الذي يفضي الى تسقيطه سياسيا واعتباريا .. ما يعني أن طرفي النكتة السياسية هما الناس والحكّام وان مضمونها هو طبيعة العلاقة فيما بينهما، وان فضاءها هو الاماكن المفتوحة في النظام الديمقراطي والاماكن المغلقة في النظام الأستبدادي.

والنكتة السياسية ليست فقط سلاح الشعب في الاعتراض والاحتجاج ضد نظام حكم بل وسلاح الحكومة ايضا ضد الشعب من خلال مخابراتها واجهزتها الأمنية.ولأنها سلاح فعال في تسقيط الآخر، فان الحكومات تلجأ الى ترويج نكات عن المعارضين لها للنيل من هيبتهم واعتبارهم الاجتماعي، وهي حالة صارت شائعة في كل البلدان العربية بعد النجاح الذي حققته النكتة في زمن جمال عبد الناصر بتسقيط عبد الحكيم عامر واستخدامها مؤخرا في تسقيط محمد البرادعي وحمدين صباحي .. وما يحصل الآن في العراق بشكل خاص.بل ان السلطة او الحاكم يستخدمها للنيل من اعتبار قومية او طائفة او مكون اجتماعي كما فعل صدام حسين في ترويج نكات ضد الشعب الكردي وأخرى ضد اهل الدليم لأسباب سياسية معروفة .. فضلا عن ان النكتة السياسية تلعب دورا كبيرا في الحرب النفسية بين الدول كما حصل في الحرب العراقية الايرانية.

وتشير دراسات الى ان الحكام العرب روجوا نكاتا سياسية تستهدف الهاء الناس عن التفكير بوضعهم المعيشي المتردي وبؤسهم الحياتي، وللتنفيس عن المكبوت الذي يجري فيه تفريغ للعدوان ضد النظام.والمفارقة ان النكتة السياسية تلعب احيانا دور المهديء للناس واحيانا دورا دعائيا لصالح السلطة وأحيانا دورا نضاليا ضد السلطة.

وفي دراسته بعنوان (النكتة السياسية في العالم العربي وفي الجزائر)، يرى الدكتور عمار يزلي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة وهران الجزائرية، ان النكتة تُعتبر أحد أهم أشكال المقاومة الثقافية في مجتمع يعاني من الاحتقان والضغط بكل أشكاله، فيما يرى أستاذ التاريخ عاصم دسوقي ان النكتة السياسية تنتشر لعجز الرأي العام عن التعبير عن رفضه من خلال القنوات الرسمية أو من خلال المؤسسات السياسية.ويذكر عادل حمودة في كتابه "النكتة السياسية" أن النكات كثيراً ما ذكرت الحكّام بالاسم أحياناً وصوّرتهم في أوضاع غير لائقة، لأن الناس أرادوا أن يؤكدوا لأنفسهم أن هؤلاء الأقوياء ليسوا آلهة ولا أنصاف آلهة بل هم مثلهم يتعرّون وينهزمون ويتوجعون.

ونرى أن البداية التاريخية لدور النكتة السياسية الفعال في العالم العربي تعود الى خمسينيات القرن الماضي في زمن الرئيس المصري جمال عبد الناصر.فلقد انتشرت في زمنه نكات لتسقيط الخصوم، واخرى كانت ضد سوء ادارة نظامه في حياة المصريين، تلخصها نكتة انتشرت بين المصريين في (أزمة التموين): ان صيادا يعيش في البحر اصطاد سمكة وطلب من زوجته ان تقليها فقالت له: مافيش زيت، فقال:اشويها، قالت: مافيش حطب .. فرمى السمكة في البحر .. وهتفت: يعيش جمال عبد الناصر .. تقابلها في وجع السخرية نكتة اخرى تداولها المصريون بعد الأطاحة بنظام الرئيس حسني مبارك: (ارجع يريس .. احنا بنهزر)!

وفي المغرب هنالك نكتة تعبر عن انعدام حرية التعبير في العالم العربي، فلقد سئل احد الساخرين عن اكبر سد في المغرب فاجاب: "أكبر سد في المغرب هو سد فمك!".وفي العراق ولمناسبة سد اليسو التركي الذي حول دجلة الخير الى نهر يعبره الصبيان مشيا، تداول العراقيون نكتة عن السدود التي انشأت في العراق بعد 2003 بأن أعظمها كان سد الخضراء وسد الطرق .. وسد بواسير نائب رئيس البرلمان.ولم يسلم أحد من السياسيين في السلطة من نكات العراقيين التي تمتاز بالنقد اللاذع .. وتقال علنا وتنشر في مواقع التواصل الاجتماعي مصحوبة برسوم كاريكتورية .. فيما كانت النكت السياسية في زمن صدام يتم تداولها سرّا، وياويله ان كانت تخص رئيس النظام.فقد حكى لي احد السجناء حين كنت اجري دراسة علمية في سجن ابو غريب، ان احدهم حلم بصدام حسين ميتا، فوصل الخبر الى مدير السجن وتم استجوابه وتعذيبه:(اشلون تحلم بالسيد الرئيس ميت!)، ولم ينفعه تبريره (ان الذي يموت في الحلم يعني عمره طويل!).غير ان خال الرئيس صدام ووالد زوجته، الراحل (خير الله طلفاح) كان موضوع نكته عنوانها (أبو فرهود) حيث اشيع عنه انه استولي في بغداد على املاك تخص الدولة واغتصب املاكا تخص مواطنين.وواقع الحال ان بغداد الان تزدحم (بطلافيح!) وليس طلفاحا واحدا .. وهم موضوع نكت عند العراقيين ، يأخذون بها (حيفهم!) منهم بعد ان عجزت تظاهراتهم عبر خمس سنين عن اسقاط افسد حكومة في تاريخهم، فيما اسقطت تظاهرات الاردنيين حكومتهم، وبثلاثة ايام من حزيران 2018!، لأنها شرّعت قانونا لزيادة ضريبة الدخل.

وحكّام العرب بلا استثناء يخشون النكتة السياسية بدءا من جمال عبد الناصر الذي خاطب المصريين بالكف عن تداولها متهما اسرائيل بالترويج لها، مرورا بأنور السادات حيث كانت أجهزة الأمن تجمع النكات وتدرسها بحسب وزير الداخلية المصري الأسبق اللواء حسن أبو باشا، وصولا الى صدام حسين وانتهاءا بالحكام الجدد.وللتوثيق فان ديوان رئاسة الجمهورية طلب في تسعينيات القرن الماضي من قسم علم النفس في كلية الآداب بجامعة بغداد تحليل النكت السياسية التي تقال ضد الرئيس صدام حسين، وتم تكليف الدكتور موفق الحمداني وأنا بذلك. والمفارقة أن حكام العراق بعد 2003 ما عادوا يهتمون بالنكت السياسية التي تقال ضدهم علنا لسببين: سياسي كونهم ما عادوا يخافون من الشعب، وأخلاقي كونهم اعتادوا عليها وما عادوا يخجلون .. فضلا عن انهم كثرة!.

وهنالك فرق كبير في النكتة السياسية زمن النظام الملكي مقارنة بالانظمة الجمهورية الستة التي تلته، تلخصه هذه النكتة:

حصلت خصومة بين رئيس الوزراء توفيق السويدي والشاعر معروف الرصافي فبادر احد وجهاء بغداد للمصالحة في مأدبة عشاء.فسأل احدهم توفيق السويدي:

- باشا، شنو رأيك بالدنيا؟

اجابه السويدي:والله الدنيا مو خوش دنيا، بس شنسوي .. لازم الواحد يعمل معروف ويذبه بالشط .. ونطق كلمة معروف بايقاع خاص.

وتوجه احدهم بنفس السؤال الى معروف الرصافي ، فأجابه قائلا:

- والله الدنيا خوش دنيا .. بس توفيقنا طايح حظه!.

*

 

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم