صحيفة المثقف

مظاهر تحول الخط العربي مع الوزير ابن مقلة

محمد البندوريلقد شكل الاهتمام بضوابط الكتابة وجمالياتها أحد أهم الأسس التي صنعت اللبنات الأولى للتحول إلى البلاغة البصرية، وقد أدى هذا الاهتمام إلى ظهور تصورات وآراء وأعمالا ذات قيمة كبيرة. منها ما جاء به أبو علي ابن مقلة المتوفى سنة 328هـ - حسب ما تواتر في كتب الأولين- فجود الخط حتى تميز بالحسن والجودة حيث أدخل عليه تحسينات رائقة، حملته إلى الشكل الجميل الذي انتهى إليه، ثم فتح من خلال مشروعه الجمالي باب الإبداع ونهج الدقة في التجويد وبسط الأساليب الجمالية التي أخضعها لمقاييس محددة. وبذلك كان ابن مقلة منطلقا فاصلا بين ما سبق وبين العهد الجديد للخط، حيث كانت فلسفته الخطية قائمة على أسس عقلية ومنطقية ومعرفية ومنهجية وعلمية وهندسية، " ثم انتهت جودة الخط وتحريره على رأس الثلاثمائة إلى الوزير أبي علي محمد بن مقلة وعن ابن مقلة انتشر الخط في مشارق الأرض ومغاربها." لكن صاحب التحفة أورد رأيا مخالفا لذلك، فيقول:" قال بعضهم: وكثير يزعمون أن الوزير أبا علي ابن مقلة هو أول من ابتدع ذلك، وهذا غلط، فقد وجد من الكتب بخط الأولين فيما قبل المائتين ما ليس على صورة الكوفي، بل يتغير عنه إلى بعض هذه الأوضاع المستقرة الآن."

وقد تنوع الخط العربي بعد ذلك إلى عـدة أقلام مختلفة ذكر منها ابن الصايغ :" الطومار والجليل والمجموع والرياشي والثلثين والنصف والثلث والحولجي وخفيف الثلث واللؤلؤ والديباج ، والتوقيع والرقاع والمحقق والغبار وهو أدقها. ومنها قلم السجلات والقصص ومنها أيضا: "الثلث المعتاد والجليل وجليل الثلث وقلم المصاحف والمسلسل والمنثور والنسخ والمنثور وجليل المحقق والريحاني والرياسي والمرصع والحواشي والأشعار والمقترن ." واللؤلؤي وخفيف الثلث وفضاح النسخ والعهود. ومنها كذلك: ماهو محقق ومعلق ومخفف ومبسوط ومقور وممزوج ومعماة. ومنها المفتاح والمنسوب والموزون والمدجن والمدمج والمدور والمرسل والمسلسل.

وقد اختصر ابن مقلة أنواع الخطوط العربية في ستة من خلال رسالته في علم الخط والقلم وهي:

" الثلث والنسخ والتعليق والريحان والمحقق والرقاع. ونجده يجعلها اثنا عشر خطا في رسالته في علم الكتابة.

ومن الخطوط أيضا: الخط الديواني والخط المغربي وخط الطغراء .

ومن مظاهر الابتكار في الأقلام في ارتباطها بالشعر العمودي وبجمالية الخط العربي، تم تخصيص قلم خاص لكتابة الشعر يوافق نمط القصيدة العمودية التي يتكرر نفس الحرف في قافيتها مما يتطلب تصفيفا محكما، فظهر القلم المدور الصغير، ثم القلم المؤنق.

لقد استطاع ابن مقلة أن يبسط رؤاه الفنية بنظرة تكاملية بجملة من الآليات المستقاة من فلسفته الخطية التي رامت التنسيق والتنظيم وفق إنجازات تطبيقية إجرائية في منطلقاتها وفي طبيعتها وفي كل مراحلها، فهي راوحت بين النظرية والتطبيق مما سهل عملية التطبيق، وجعل رؤاه النقدية ترقى في مدارج الابتكار وتحقق إنجازا فنيا كبيرا.

وبذلك أسهمت تجربة ابن مقلة الإبداعية وتصوراته النقدية وتصميماته الهندسية في معالجة كل عمليات الخط من منظور هندسي مغاير لامس جوهر الخط، وساهم في التطور الجمالي للخط العربي، حيث كان للأقلام المحدثة وتنوعها فضل في إبداع أشكال من الحروف الجديدة التي ولدت جماليات تجلى بريقها في مختلف النصوص الأدبية، واستوطنت الجماليات التي اكتسبتها أشكال الحروف الجديدة من خلال رسمها كل التراث العربي الإسلامي في المشرق العربي، في نطاق ممارسة نقدية بلورت العمل الإبداعي للخط العربي بشكل منسجم ومتكامل وفي نطاق منظومة من العلاقات ضمها التراث العربي الإسلامي.

 

د. محمد البندوري

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم