صحيفة المثقف

حرب الهويات في العراق جدلية عقيمة

صالح الطائيالهوية هي إحساس فرد أو جماعة بالذات. إنها نتيجة وعي الذات وفهمها. والهوية كما عبر عنها مجموعة من الباحثين تشير إلى صور الفردية والتمييز ـ الذاتية ـ يحملها ويخططها ممثل، ويشكلها ويعدلها مع مرور الزمن عبر العلاقات الاجتماعية البينية مع الآخرين.

ميزة العرب عن غيرهم من الأمم الأخرى أنهم عرفوا الهوية وقدسوها، ربما بسبب طبيعتهم القاسية وعيشهم في مكمن الخطر طوال تاريخهم مما استوجب عليهم أن يشعروا بالانتماء ليشعروا من خلاله بالأمانن وميزة العراقيين عن باقي العرب انهم امتلكوا وعيا مبكرا لمفهوم الهوية منذ آلاف السنين. وعندما جاء الإسلام أصبحت الهوية الدينية هي ما يجمع المكونات مع بعضها في مضمار واحدن لا ولاء فيه إلا للعقيدة.

ثم امتلكنا نحن العراقيين وعيا مبكرا آخر، أعطانا هوية أخرى حدودها وحجمها ومكونها اصغر كثيرا من الهوية الأولى، ولكنها تبدو واقعا نسخة مستنسخة من تلك، وهذا يعني امتلاكنا قابلية الفرز بين الهويات أيضا، وممارسته فعليا منذ الأيام الأولى لوعينا الأول.

هذا الفرز المبكر حددته مجموعة عوامل قد يكون أهمها وأكثرها أثرا الخلط الذي حدث بين الذروتين الدينية والمدنية في مراحل الصراع الأولى التي أججها الخلاف السياسي الأول بعد وفاة النبي الأكرم مباشرة لكسب الشرعية العقائدية، إذ لا ينكر أن كل أنواع السلطة التي ظهرت في الاستلام منذ 11هج -632م بعد موت النبي قد لجات إلى الخلط بين الذروتين الدينية والمدنية لكي تكتسب الشرعية (1) حيث ولدت من الهوية الكبرى هويات اصغر منها مساحة وحجما، ولكنها ليست بعيدة عنها؛ بل إن الاعتقاد السائد كان ينكر ادعاء وجود هويات أخرى، لأن جميع السلطات السياسية التي ظهرت في ارض الاستلام منذ 632م كانت قد نسبت نفسها إلى تعاليم القرآن والنبي، وادعت المسؤولية العليا في حماية هذه التعاليم. وذلك أدى إلى تشكيل نظرية إجبارية (قسرية) تقول بان الاستلام هو دين الدولة(2). بمعنى أن هنالك فصلا قد وقع بين المفاهيم في الممارسة والتطبيق، فصلا للذروتين، ولكن لم يعلن عنه رسميا، وتم التكتم عليه لأسباب سياسية لا دينية.

واعتقد أن الفصل كان طبيعيا وحتميا ومفروضا، بل كان من تداعيات المرحلة المعاشة والتبدلات التي وقعت فيها، فالمدة الأولى التي يحصرها محمد اركون بالسنوات 610-661 تمثل الحقبة الزمنية من بداية البعثة وحتى عام 41هجرية؛ وهو التاريخ الذي انتهى فيه عصر الخلافة الراشدة، وهي تمثلُ واقعا حقبة تطور دولة الحضارة الإسلامية الإلهية، حيث مناهج عملها الخاصة وهويتها الخاصة.

بعد هذا التاريخ لم تعد لمناهج الدولة الإسلامية وهويتها قدرة الاستجابة لمتطلبات التغيير، ولاسيما بعد أن تحول نظام الحكم الخلافي بكل صيغه المعدلة إلى نظام حكم وراثي، وتطورت منظومتي عقل الدولة على حساب عقل العقيدة. وهذا التحول بحد ذاته يفرض الاعتراف بولادة الهويات الجديدة، وهو ما أثبته السجال السياسي والفكري والعقائدي لهذه المرحلة علنا، بل اجد انه لم يكن من بديل عن تعريف النفس بهويتها الجديدة في العلاقة مع الآخر بشكل ظاهر للعيان، ترجمه الانحياز عن الآخر بهدف الحصول على المكاسب النسبية في المقارنات التي كانت تهدف إلى احترام الذات وتأكيدها. ومنبع ذلك كما يقول هنتنغتن: "إن حاجة الأفراد لاحترام الذات؛ هي التي تقود للاعتقاد أن مجموعتهم افضل المجموعات(3). وللأسف أرى أن هذا التماهي وهذا الشعور بالأفضلية، أسهم من جانب آخر في إيقاع الأذى على من يشتركون معنا في الهوية الدينية الكبرى، ولا يشتركون في الهوية الخاصة، وعليه امتدت المعاناة على طول تاريخنا، وتركت آثارها ومآسيها على جميع صفحاته.

أما و "أن العالم يتغير الآن بأفكار وآليات وفاعليات جديدة ، يعاد معها ترتيب العلاقة بين عناصر القوة الثلاثة: المعرفة، الثروة، السلطة، وعلى نحو يتجاوز عصر الصناعة والحداثة والعقلانية والكلاسيكية"(4) فاجد أننا نحتاج اكثر من أي وقت مضى إلى تفكيك آليات التفكير الفئوية التي تدخل في بنيوية هوياتنا، ومن ثم إعادة بنائها بما يوائم معطيات التحضر الكوني, ولا يمكن لذلك أن يتحقق إلا بالخروج من عصمة وقدسية الأصول المتوارثة التي بقينا جامدين عندها تاريخيا. والخروج من عصمة الأصول لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تجديد ثقافاتنا، وإثرائها معرفيا خارج أطر الموروث بما يجدد فينا روح المواصلة مع الذات ومع الثقافات الأخرى. ولا يتم هذا عادة إلا بادراك المعنى الحقيقي لهويتنا الدينية، وهويتنا الفرعية، فبدون هذا الإدراك لن تنمو روح التواصل في المجتمع، ولن يقوى البناء العام للامة.

إن هذا الإدراك يعني انه لا باس أن يفتخر كل منا بهويتهن حيث يفتخر السني بهويته، والشيعي بهويته، والكردي بهويته والمسيحي بهويته، واليهودي بهويته، والايزيدي بهويته، والشبكي بهويته، والصابئي بهويته، مادام في ذلك الفخر تقوية للبناء العام لمكونات الأمة ضمن إطار وكينونة الهوية الجامعةن وعلى كل مكون ان يقبل بهذا الفخر بالهوية. إذ لا يمكن لأي من هؤلاء أن يفتخر بهويته إلا اذا وجد قبولا ومشاركة وترحيبا من حملة الهوية المشتركة الكبرى فالمعروف عقلا مثلما يرى هنتنغتن "أن الناس يستطيعون أن يطمحوا إلى هوية ما، ولكن لا يمكنهم تحقيقها إلا اذا رحب بهم هؤلاء الذين يملكونها بالأصل"(5).

واذا كان تأكيد الهوية مرحب به، وهدفه دعم البناء العام فسوف سيسهم بشكل فاعل في تعزيز مكانة الهوية الوطنية التي تجتمع الهويات الفرعية الأخرى حولها كالفسائل التي تحيط بالنخلة. فهذه الفسائل لا يمكن أن تنمو في ظروف بيئية مختلفة عن بيئتها الأم، واذا صادف وتمكنت من العيش فهي إما أن تكون عقيمة بلا ثمر، أو يكون ثمرها (دقلا) رديئا غير صالح للأكل. وبالمناسبة قال الدكتور الصلابي في هامش له على أحد كتبه عن (الدقل) "إنه التمر الرديء"، بينما المعروف عنه في الوسط العراقي انه من أرقى أنواع التمور الممتازة، وان سبب جودته في العراق ورداءته في البلدان الأخرى انه لا يزرع بعيدا عن نهر دجلة، فهو ودجلة قرينان ومرتبطان روحيا وجسديا، فاذا أُبعد عنها، جفت طراوته، وتقلص حجمه، وفقد حلاوته(6).

لكن مع كل هذا الافتخار التاريخي، وهذه الأسبقية الحضارية في ادراك الهوية وبروز ملامحها بالشكل المثالي، نجد أن مجاميع مهاجرة لا تملك أي ارث تاريخي مشترك أو روابط إثنية أو عرقية أو هويات مشتركة، نجحت بتكوين هوية وطنية من هويات غير واضحة المعالم، ولا يربط بينها رابط، وأسست أكبر وأعظم قوة في التاريخ المعاصر، هي أمريكا، في وقت لم ننجح فيه بتأكيد هوياتنا!.

فهل من مهازل قدرنا أننا نملك هوية تمتد جذورها إلى عمق التاريخ الإنساني. هوية كانت قبل أن تكون هنالك أي هوية معروفة أخرى في الكون، ومع ذلك نسعى جاهدين خلف المنافع النسبية على حساب المنافع العامة المطلقة تحت دوافع الولاء الفئوي والعصبية التاريخية، غير آبهين للتفكك والضعف الذي نسببه لهويتنا ولأنفسنا؟ أم أن من حسنات قدرنا أن هيا لنا ثلاث هويات تتسامى بالعظمة وتتفاضل بالأصالة وهي :

هويتنا الدينية الأولى التي تكونت في السنين الأولى للبعثة وتجوهرت منذ 36 هجرية فصاعدا.

وهويتنا المذهبية التي تفرعت عن الهوية الأولى في القرن الهجري الثاني، يوم ولدت المذاهب والفرق الدينية في ربوع بلادنا.

وهويتنا الوطنية التي أنشأت أول الحضارات الإنسانية، وعلمت البشرية أسس العلوم ومعنى التمدن في أول تجربة إنسانية لبناء بلد في الكون.

وهذا يعطينا فرصا مضافة ممكن إذا ما فشلت واحدة منها أن تنجح الأخرى في جمعنا ولو على مضض!.

برأيي يعني هذا أننا مهما تعرضنا إلى الهزات والرجات والهزائم والمؤامرات لا يمكن انم ننهار كليا، ولابد وأن ننهض من جديد، لنعيد بناء ما تهدم، واننا مهما فعلنا، وباي شكل تصرفنا ولأي فئة أو عصبية انحزنا، لابد أن تأتي الساعة التي ننتبه بها، ويعود لنا وعينا، ولربما نجد في ذلك عذرا لمن يدعي أن العراقيين يختلفون عن باقي العرب وعن الأمم الأخرى.

 

صالح الطائي

...................

الهوامش

(1) اركون، محمد؛ الفكر الإسلامي قراءة علمية، ص28.

(2) اركون؛ المصدر نفسه، ص145.

(3) هنتنغتن، صموئيل، من نحن المناظرة الكبرى حول أمريكا، ص37.

(4) حرب، علي؛ حديث النهايات فتوحات العولمة ومازق الهوية، ص52.

(5) هنتنغتن؛ مصدر سابق، ص39.

(6) العلوي، حسن؛ عمر والتشيع ثنائية القطيعة والمشاركة، ص100.  

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم