صحيفة المثقف

ربيع التنّومة: الانتفاضة (1)

قصي الشيخ عسكر"حيث تلتبس الحياة بالموت"

السندباد اختفى.

هكذا ورد في الأخبار.

يقال توارى في مكان ما بعيد عن النار .. منذ اليوم الأول فرَّ من البحر إلى كهفٍ مجهول، وفي ذلك الصباح الحزين كان الجنود يعودون متعبين يبدون بملابسهم ذات اللون الخاكي مثل أوراق خريف صفراء شتتها الرياح. حقا نحن العراقيين لم يبق لنا صاحب في هذه الدنيا فكل بلاد المعمورة تناصبنا العداء .. لدينا كلّ شيء، يقول شيوخنا كبار السنّ ويضيفون، أجل كلّ شيء، الماء والزرع والنفط .. لغنانا وخيراتنا يبغضنا الآخرون. قدْ أقتنعُ بما أسمع .. لست نائما ولم أكن سكران مثل الرامي معلمي في المدرسة الابتدائية. وأقسم بالله العلي العظيم أني لم أره منذ اليوم الأول من أيام المحنة الأربعين تلك .. ساعة اختفى السندباد. لكني رأيت أو خُيِّلَ إليَّ أني أسمع ثورا أسود يصرخ لقد أكلت يوم أكل الثور الأبيض. كامل الرامي معلم درس العلوم أصبح في العام الجديد معلم القراءة، وكنا نعيش معه أيام السندباد إلى درجة أننا ظنناه حقيقة لاشك فيها حتى تلاشى البحَّار وعاد الجنود المتعبون. لم تنته الحرب. في آب عام 1988 انتهت حربٌ، وفي آب عام 1990 قامت حرب أخرى. لم يصبر العراق طويلا على سكون الموت. العالم يكرهنا .. يريد لنا الخراب .. نحن ندخل معركة أخرى نحسمها بست ساعات. صدام حسين يضم الكويت بست ساعات. ملخص لحرب دامت ثماني سنوات. بروفة .. . ساندوج .. الكويت ساندوج صغير .. مقدمة كتاب اسمه تحرير فلسطين. بلد مساحته أكبر ثلاث مرات من لبنان ضمه القعقاع بست ساعات. الأمر سيَّان .. هي حكمة الله وقضاؤه وقدره. يهدي القوة لمن يشاء والضعف لمن يشاء. خلق أضعف الرجال ويستخلف أقواهم. وأنا مازلت أفتقِدُكَ ياجارنا معلمي كامل الرامي فمن عاشرك يكتشف فيك شيئا جديدا كلَّ يوم. في هذه اللحظة وأنا أتابع مسيرة الجنود المتعبين القادمين من العشار إلى شط العرب حيث عند التنومة يلتمسون الطريق الأكثر أمانا نحو بغداد أتذكرك. جنود منهكون حفاة عراة. شعث الرؤوس. ممزقو الثياب جائعون. هل كنت أنت السندباد حقا أم أنا؟ نظريتك في الحرب سقطت، كنت تقول سِرّاً أو علنا لن تقف الحرب حتى نرى مذيع التلفزيون رشدي عبد الصاحب أصلع ذا لحية بيضاء يذيع بلاغا عن جنديين عراقي وإيراني بقيا يتقاتلان عند الحدود .. ونظريتك حول السندباد مازالت قائمة. كنت الوحيد من بين المعلمين لا ترى البحر يمدّ نفسه من الخليج إلى البصرة .. هل يعقل أيها الجغرافيون .. أيها المؤرخون .. العلماء .. لا أحد يصدق أن دجلة والفرات يحملان مليارات الأطنان من الصخر والتراب ليسدَّا بحرا عميقا يتمدد من البصرة إلى الصحراء حيث الكويت .. . لو كان ذلك حقا لأصبحت تركيا أولى بنا .. أين هي نظرية التوازن .. أنا لا أعرفها والتلاميذ يجهلونها لكنّ الأستاذ كاملا الرامي، قبل ان يدمن السكر ليل نهار، يقول مهما جرف دجلة والفرات من تراب إلى الخليج فلن تنقص الجبال ولا تنطمر المستنقعات أو البحار، هراء، أما نحن فسنظلّ مغرمين بالبحر ولن نشبع حتى نجد حربا أخرى، انتهت الحرب مع إيران ولم تنته فها هي تشِبُّ داخل الكويت. تنشطر إلى ذرات أصغر .. يومها أحضر مدرس التاريخ القديم خريطة للعراق. كنت في الصف الأول المتوسط. قال انظروا كان البحر يغطي الناصرية ويقف عند النجف. نحن أهل التنومة كنا إذن بحرا. ومن قريب كان دجلة والفرات يلتقيان في القرنة. الله لقد صدَّقتُ الحكاية برمّتها .. حكاية كذبة البحر والطمي سمعناها من المعلم كامل نفسه .. لم نعد تلاميذ صغارا بل في المرحلة المتوسطة ولم يعد من يعلمنا معلما بل مدرسا أما كامل الرامي فقد قال هذا مدرس حمار. يحمل البكلوريوس لكنه بهيمة .. إنه الشعور بالنقص. نحن نشعر بالنقص، فنتخيل أنفسنا على بحر ونصطنع السندباد. بل نجعله يصارع الموج فيصبح الناجي الوحيد .. إسمعوا ليست هناك من حقيقة علمية تثبت أن البحر امتد في عمق العراق. وجدنا أنفسنا قادة العالم زمن هارون الرشيد، امبراطورية عظمى ولا بحر، لا ساحل لنا فاخترعنا السندباد قاهر البحار والأمواج ثم عانقْنا عصر النور فلم نجد بدا من أن نجعل البحر إلينا يسعى في العمق وبعد أن يئسنا صفقنا للملك غازي وهو يعلن تبعية الكويت لنا وباركنا عبد الكريم قاسم حين عين الشيخ الصباح قائمقام لقضاء الكويت. بحثنا طويلا فوجدنا أن المنفذ يمكن أن يكون المحمرة أخفقنا فتوجهنا نحو القضاء السليب. الله كم هي طويلة تلك الرحلة. هي عقدة النقص قلا يغرنَّك يا عبد الله كلام ذلك المدرس الحمار!

مامعنى عقدة نقص!

في كل منا عقدة نقص .. حين تكبرون تستوعبون معناها .. السندباد نفسه عقدة نقص .. قصة المدرسة الابتدائية تغزو الذاكرة من جديد. الثور الأسود أيُّ ثور هو. أكلتنا أمريكا يوم أُكِلَ الاتحاد السوفيتي. يوم أُكِلَ الشيوعيون عام 1963 ويوم أكِلَ عبد الناصر 1967 ويوم أُكِلَت إيران بحرب الثمان سنوات. آخر المطاف نحن الثور الأبيض .. لاأدري أيُّ لون كان هذا الثور يحمل. بقي تائها في الصحراء يبحث عن منفذ ما في البحر. والماء مثل خيط من المطاط يمكن أن نمدَّه كيف نشاء ولا ينقطع .. من زمن هارون الرشيد نبحث عن منفذ بحري. مررنا بتجارب كثيرة. مططنا البحر وهاجمنا دولا:عرب المحيسن .. بني كعب .. بني أسد .. جاءت قواتنا تحرركم. يا أهل المحمَّرة هاهم جنودنا بينكم .. المحمَّرة عراقية. أنتم العرب الخلصاء. هؤلاء مجوس .. نحن عرب وهم فرس. سنة نحن وهم شيعة. البحث مازال مستمرا عن أبي لؤلؤة المنثوري. القوات العراقية فتشت الشوش .. سيف سعد .. قوس الزين .. قصر شيرين أين أختفى الفاتك الشرير الذي تعلقت به أدران المجرمين من عهد قابيل. الجنود العراقيون أبناء الماجدات يواصلون بحثهم. لعل الوقت فاته أن يلتحق ببلاد فارس لا أظنه في كردستان فأنا كنت صغيرا ووقفت شاهدا مع أبي وأخي عام 1958. جاء الملا مصطفى البارزاني بالبارجة من منفاه، فتدافع أهل البصرة نحوه. من يريد أن يشمه ومن يريد أن يقبله. غرق زورق، ولم يحزنوا. خرجنا نصيح: يامصطفى أهلا بك. صافحه وجهاء التنومة باسم أهل شطّ العرب تدافعوا إليه، وأُقسِمُ بالله العلِّيِّ العظيم أني لم أر معه أيِّ قاتل، لا أبا لؤلؤة المجوسي ولاقارون ولا أَيَّاً من الذين تبحث عنهم الحكومة ويصور أشكالهم المقيتة خيال صلاح أبي سيف الخصب. من يعرف أن وجه خالد بن الوليد أكله الجدري ووجه العلايلي جميل وسيم يدرك عقدة النقص تلك التي أدركتها حين كبرت في رجلي العرجاء والتي حدثنا من قبل عنها معلمنا كامل الرامي ونحن طلاب في السنة الأولى المتوسطة وهو يشِّبه مدرس التاريخ القديم بالحمار لأنه قال إن البصرة كانت على بحر كذلك يدعي أن وجه خالد بن الوليد مجدور، والآن بعد أن رجعنا من إيران وأقسم السادات أن القاتل الفاتك ليس في مصر ظنناه مختبئا في الكويت في مكان ما .. الحمراء .. الفحيحيل .. الجهراء، مجرد شك .. وأنا مازلت على ضفاف شط العرب أبحث عن السندباد الهارب، لم أكن لأظن شأن غيري أن هناك حربا بعد القادسية فقد بدأت التنومة تتنفس وتعود إلى هدوئها السابق. أكثر من خمس سنوات وأهلها بعيدون عنها. فارقوها ولم نفارقها .. خرجنا منها بأمر عسكري ورجعنا إليه بأمر. هكذا شاءت أصوات المدافع والطائرات .. أعراس وحفلات. أفراح دعا لها بالدوام البدوي راجي المزروع الذي كاد الفرح يقتله منذ زار شط العرب الرئيس خلال الحرب وقصد بيته. عَمَار أيتها التنومة دائما أنت في عزٍّ وأفراح ومباركة لك خطوة ضيفك الكبير، السلام يخيم على شاطئك الهارف القوام فتستعيدين أيتها اللاهثة عن رحلة شاقة طويلة أنفاسك .. تسترجعين أحشاءك التي لفظتِها ذات يوم .. لست الوحيدة في هذا العالم فكل ماحولك من مدن وقرى وجبال وسهول وبحار تتقاسم الفناء الهائل .. الدنيا كلها تتناسخ في صورنا .. الكواسج في شط العرب تنقض على الأسماك .. والطيور تبتلع الدود من طين الأنهار .. دود القزِّ يفتك بأوراق اليوكالبتوس .. والعناكب تستدرج الحشرات إلى بيوتها الواهنة .. فمن لا يتصوّر أن الأفاعي لا تبتلع الضفادع والجرذان، والكواسر تهوي من السماء لاتخطف الأرانب في البرّ، وكم أُعجِبَ أهلُكِ بمنظر التماسيح في قرى بعيدة عنك وهي تلتفُّ على الغزلان العطشى الهائمة إلى موارد المياه .. فلم لا تكون هناك في شط العرب تماسيح كما في أعالي النيل أو استراليا وأمريكا؟ العالم مجنون يفتك بعضه ببعض .. يتقاتل كلُّ من فيه وماعليه حتى الريح تتعارك والشجر ظنناكِ تعيشين بسلامٍ أبد الآبدين .. حرب العراق وإيران آخر الحروب فهؤلاء الغجر انطلقوا في الشوارع يغنون من المغرب إلى الفجر .. في كل مكان يغنون .. في الإذاعةيغنون، والطرقات، كذبة نيسان .. مفاجأة .. بعد كلّ هذا الدمار المهول والخراب والقتل كلّ يعود إلى مكانه .. وكالات أنباء العالم تتناقل الخبر ونحن لانصدق نشك في أن تكون لعبة ما .. لا نثق إلا بمحطة لندن ولن تُخيِّب لنا أمل قطّ فقد سمعنا منها الخبر رأس كل ساعة حالما تتلاشى دقاتها العنيفة القوية التي يداعب رنينها الصافي الذائب بهسيس المذياع آذاننا:إيران وافقت! آية الله خميني يتجرع السّم!العراق مزهو بحلة من الفرح والانتصار الكبير!العراق قبل العرض .. رضي وقف الحرب شرط أن يطلق هو آخر صاروخ!موت أم لعبة أطفال .. أنت الأول .. أنت بدأت أنا من يختم، مع ذلك فقد انطلق مارد الغجر من مكمنه. سيظل يغني في كل مكان إلىماشاء الله إلى أن جاءت الحرب الثانية. لنعلم عندها أننا لسنا استثناء من هذا الفناء المخيف فنحن مثل غيرنا بعضٌ من هذا العالم السادر في الهلاك والنزاع اللذين اندلعا من زمن آدم وحواء:

- كباب رائع بدينار!

- الآن عملناه .. طازج .. جديد!

- مازال ساخنا .. .

من قبل جعلت من السطح هوايتي المفضلة. إرسال الطائرات الورقية إلى الفضاء. قبل أن تأتينا تلك الحشرات المعدنية التي تشبه اليعاسيب. أمدّ لطائرتي الخيط .. أنتظر الهواء بفارغ الصبر، فما أحرى بالطيارين أن يعودوا إلى لعبة الطفولة ليحافظوا على لياقتهم. وفي ليالي الصيف حين ينزل الندى نستلقي على الأفرشة نرى النجوم الساطعة. عادة ألفناها قبل اندلاع حرب الخليج الأولى وقبل أن ينحدر العالم إلى هاوية الحر فيلغي الناس نومة السطوح .. أروح من على فراشي أعد النجوم فأضيع في أوائلها قبل أن أبدأ في آخرها!تيمورلنك يعد النجوم .. يظنّ أن هناك في السماء مملكة أخرى يضمّها إلى مملكته .. إعجني يا أم مثنى .. اعجنوا لنعمل كبابا أبيعه للجنود المتسكعين الجائعين، فأين السطح من أيام زمان، والعائدون من قبضة الموت يخرجون عن نطاق الحصر والعد! إعجني يا عزيزتي .. المكان نفسه تعجن فيه أختاي وتقليان الكباب، لكنه مكان نظيف لم أدنسه قط بأية حماقة. لاأدعي الاختراع .. سمعت جليل منصور مراقب الصف يتحدث عن ابتكاره الجديد. حدث هذا بعد أن أطلقت طائرتي الورقية إلى السماء .. مصيدة الفئران يضع عليها قليلا من الشعير فيأتيها الحمام وهممت أن أفعل مثله فقد تقبض المصيدة على رجل الحمامة .. سأكمن وبيدي سكين .. حالما أجد عنق الحمامة في المصيدة أسارع إليها قبل أن تموت عندئذ صرخت بي أمي في المكان ذاته:

والله سوف نقرف الأكل بسببك يا أعرج ياتيمورلنك الشؤم ستجعلنا نكره أكل اللحم .. ونعاف الطعام. سأذبحك والله العظيم يا أعرج وليسمع أبوك الذي يمد لك حبل الصبر فلا تخشى العقاب!

- جربّه ياسيدي. كباب طازج .. خذ واحدة دون مقابل!

- هذا التلفزيون إنه من الكويت.

الجيش يلوذ بالفرار وأنا على السطح أحاول صيد حمامة بفخ جرذ فياللسماء وياللقرف:

- أموالنا رجعت لنا.

أيّام زمان كان الكويتي يأتي إلى البصرة يتمتع بمتنزهاتها مخلفا وراءه الرمال .. . لاشيء سوى البترول .. هو النفط الذي تحولت معه الرمال والغبار إلى جنة صرنا نحسدهم وهذه بضاعتنا رُدّت إلينا أما نحن هذه المرة فقد ذهبنا إلى الكويت ولم يعرف أهلها بقدومنا لنعود بأسلاب حرب كثيرة :

- البدلة بنصف الثمن من سوق واجف .. أنظرها محلاتنا لاتبيع مثل هذه العلامات التجارية.

جيش أم لصوص؟ ذهبنا إلى إيران نبحث عن أبي لؤلؤة المجوسي فرجعنا بسلب كبير من الأهواز وعبادان. تلفزيونات. أغنام. أقراط ذهبية. ودخلنا الكويت نلقي القبض على الفرعون قارون صاحب الذهب والمال:

- حذاء إيطالي سعره عشرة خذه بربع! ربع دينار فقط .. .

- ليس معك نقود؟ خذه مجانا ..

ورجل على رصيف شارع دينار يستعرض مجموعة من النعال:

- هذا زايد. هذا أطلقناعليه اسم فهد. هذا جابر!

- يا سيدي قارون هنا بكل ماله وملياراته يباع بربع دينار!

لم تعد الكويت دولة كاملة اختفت من الوجود، حذفتها الخرائط فدخلت التاريخ أصبحت مرة، قبل عقود، قضاء وها هي مثل التنومة تتمدد فتصبح إحدى المحافظات، أما أنا فأجد أني اشتريت مصيدة جديدة لا أصيد بها الفئران بل الحمام والعصافير غير أن غضب أمي العارم عليّ وعلى صاحبي جليل منصور مكتشف الطريقة الجديدة أودى بكلّ شيء، وتساءلت مع ذلك هل تستسيغ نفسي حقا حماما يقع في مصيدة فأر:

- ماهو مقاسك فهد أم جابر!

هي علامة قديمة. أبعد مما يراها أبناء الشوارع اللصوص الذين نهبوا الكويت وجاؤوا يعرضون السَلَبَ في شارع دينار. العراق والكويت والماضي البعيد. بالأمس أُعْدِمَ عقيد هرّب ذهبا إلى البصرة. وكان هناك من الجيش من يسوق قطيع أغنام نهبه من بساتين الأهواز، ورأيت – أناالأعرج ذو القدم المشوهة- بأمِّ عينيَّ - خلال مظاهرة مؤيدة للجزائر صحبت فيها أخي الأكبر – الذي اختارته ألمانيا- شخصا يحمل محفظة سوداء ويصيح:رحم الله من فقد محفظة نقود ليأت وليأخذها ولا أحد يتقدم، وقد كثرت أحلامي هذه الأيام فما تذكرت لحظة احتلال لأي مكان إلا أجد نفسي أمام تظاهرة خرج فيها الملوك والرؤساء العرب. كانوا صامتين لايتكلمون. فقط وحده الرئيس الصومالي محمد زياد بري يصيح رحم الله من أضاع خصية، فكأني لم أسمع شيئا ..

- معطف .. عشرين ..

- سروال .. قميص .. . حرير.

أشياء محرومون منها. خيراتنا كثيرة ونحن نعيش الحرمان أين كانت هذه السلع عن عيوننا. رحم الله من أضاع خصية .. نداء الرئيس الصومالي يختلط بأصوات الباعة الذين جلبوا سلعا من الكويت فتتفتح شهية جاائع لرائحة شواء تملأ رئتيه عن بعد وشخص معنا في الدائرة لم تعرف طفلته شكل الموز همس خشية من عقاب ربّاني لاراد له:

- لايجوز حرام حرام.

أختي الكبيرة حذرتني من أن أشتري أي شيء. حرام. كنت أذهب إلى العشار. بخاصة بعدماكبرت وعرفت أن السندباد ذو عقدة نقص مثلي .. قد لاتكون ظاهرة في جسده .. أباشر الدوام في عملي، فأرى صور المنتصرين تتجسد في باعة سرقوا مخازن الكويت ومستودعاتها. أبناء شوارع وموظفون .. معلمون وأساتذة جامعات. عمال وفلاحون. كل يسرق حسب طريقته .. الكويت مفتوحة مشرعة الأبواب وهناك من يصرخ في أعماقه بصوت خافت خشية من أن يسمعه أحد فتقع الطامة الكبرى على رأسه:

- ياعالم يابشر افهموا هذه أموال ناس مثلكم .. تجار وكسبة .. محلات .. ليست بخزائن الدولة ولا أموال الشيوخ من آل الصباح والله حرام! حرام!

أين السندباد من السراق في هذه اللحظة. وعلاء الدين ذو المصباح الذي يكشف الأسرار ببريقه .. تبخروا. جميعهم تواروا .. ضربات في الزبير تهز التنومة. هو الموت الذي أوعدتكم به العجوز الشمطاء تاتشر .. ستعيدنا إلى القرون الوسطى .. نشرب من ماء النهر ونطبخ على الحطب .. من قبل كنا نفكر كيف نموت .. هل أكثر من أن يتوفى الله كبار السنّ أو يبتلع شط العرب وأبناؤه الأنهر الصغار أحد الصبيان .. يتفنن بحادث سيارة .. صعقة كهرباء .. قضاء الله وقدرههو .. يومه انتهى رحمه الله .. الآن تاتشر جاءت إلينا بفناء جديد .. يقول أبي عن أبيه وأمي عن جدتها إن الانكليزعام 1914 جربوا كل المزروعات في العراق القطن والموز .. نجح الموز في شط العرب .. واستعصى القطن .. ويرد على لسان معلمي الرامي ان الحكومة أرسلت إلى براغ أبا الفيصل رئيس الجمعيات الفلاحية الذي يوقع فقط ولا يقرؤ بتوقيع له شكل دائرة صغيرة، هناك في (كسج)(لوفاكيا) وفق ما ينطقه لسانه العربي الأصيل الذي لا يجيد صياغة الغريب رآى موزا وقطنا أحمر لكنه أكل قشر الموز ورمى لبّاً ظنّه نواة، هذه المرة بعد قرن .. جرَّب الإنكليز بدلا من النباتات مختلف الأسلحة .. لن يجرؤ الأمريكان بعد عقدة فيتنام على خوض معركة أخرى لكن العجوز الشمطاء الدّاهية انفردت ساعة واحدة بالسيد بوش فتغير كل شيء .. انقلب العالم وجاء شوارسكوف .. كأن الحمم تنفجر في آذننا وليس هناك بعيدا عند الحدود. أختي تلوذ بي وابن أختي الصغير مثنّى يلوذ بأمه وأبيه. البصرة تغلي على نار. نار في السماء ونار من تحت الأرض يالها من مياه ساخنة فورة تنبع من الأرض فتشق جليد سيبيريا. وبحيرة تغلي في مدينة بشمال الأرض لم يعلق اسمها بذاكرتي .. علاء الدين يطفيء مصباحه قبل أن تقنصه طائرة شبح .. تعتيم .. ظلام دامس .. هكذا هي الحرب الحقيقية. لا .. نحن نريد الرجوع إلى الحرب الإيرانية. مهما يكن فهي أرحم بكثير من هذا الجحيم الذي لا نعرف من أين يأتي وعلى من يقع .. موت أرحم من موت .. كانت المدفعية الإيرانية أكثر دفئا وحنانا. ولم نر فيها جنديا يقبِّل حذاء جندي أجنبي متذللا ألا يقتله:

ألم تقولوا انتهت الحرب فما هذا الصخب؟

كانت أمي في أحسن حال بعد توقف الحرب العراقية الإيرانية، ربما استعادت بعض ذاكرتها التائهة في البحث عن أخي "أحمد" الذي غادر قبل الحرب العراقية الإيرانية في بعثة إلى ألمانيا ولم يرجع. عادت لها الحياة مع خطوط الهاتف التي استردت بعض عافيتها ففاجأنا أخي ذات يوم من بون. يوم أشبه بالعيد .. كنت في العمل وفي نية السيد القاضي أن يكلفني بحمل أوراق إلى بغداد. لكن أختي الصغرى تحدثت مع أخي قالت له إنها هي وأختي الكبرى اشترتا قطعتي أرض في الحي الجامعي فوعدهما أن يرسل لهما بعض المال .. بعد رجوعي من العمل وجدت والدتي في أبهى حلة قرأت على وجهها ووجنتيها بصمة من حياة وإشراقة فرح يكاد لا ينتهي .. بشرتني أنها تحدثت مع أخي وصلت ركعتي شكر لله. لم تحدث أختي الغائب البعيد بخبر وفاة أبي خلال الحرب أكدت له أنه في العمرة، فمتى يعود الغائبان والحرب العراقية الإيرانية اندلعت من جديد:

- لا يا أمي لم تكن تلك حربا إنه طيران !

- هل زحفت القوات الإيرانية من جديد .. ماذا يريدون؟

- لا ليست إيران!

كأن ذاكرتها سطعت في إحدى لحظات الماضي فلم تستطع كبح جماحها:

- لماذا يحاربون الخميني كان عهد الشاه عهد فساد والآن تلفزيون إيران تغير ليس هناك من مذيعة تظهر عارية!

إنهم إخوة. حدودنا مفتوحة أمامهم. وأمي التي تصارع خرف الشيخوخة تعدّها حربا مستمرة بين مذيعتين واحدة عارية والأخرى محجبة وتتساءل كيف يعود أخي. أين أنت يابريجنيف؟خروشوف هل متّ؟ أين هو الاتحاد السوفيتي. الثور الأحمر الثور الاسود .. . هل يجرؤون على ضربنا لو كان برجينيف موجودا لكنه هذا الجبان غورباتشوف. اللعنة لم يبق لنا صاحب. سببنا الاتحاد السوفيتي حتى النخاع أولئك مسقوفيون كفرة .. أنجاس .. لايؤمنون بالله .. وهؤلاء الجيران فرس مجوس يعبدون النار .. فخامة الرئيس رفسنجاني. رجعنا إلى اتفاقية الجزائر والتزمنا بها وفق مارأيتم. انتهت العقدة .. إيران معنا. الرئيس رفسنجاني أصبح أخا ولم يعد الخميني دجَّالا، والفرس عنصر آري يطلب الغرب ثأرا قديما. فتوى حاسمة تزلزلالأرض وتجعل إيران تهب هبة رجل واحد، متى يفتون بالجهاد؟ فليدخل الزوار إلى النجف وكربلاء وليزوروا العتبات المقدسة وقتما يشاؤون ..

لم يتوقع أحد أن نقع في هذا الفخ الذي يظل يفرّخ الموت كل يوم .. . حمامة غبية تدخل مصيدة فأر .. مازلنا نأكل ونشرب ونحيا بسلام والرحمة لمن ماتوا ، ولعلني كنت في أفضل حال. بعض الأحيان يكلِّفني القاضي وبعض المراجعين بحمل طلبات إلى بغداد فأحصل على أجور كثيرة. أحيانا يتصل أخي في البيت فتلوح على وجه أمي سعادة من دونما حدود. وكلما نجح في الاتصال بعد جهدٍ، أرى العجوز تعود طفلة لا تعرف الحزن والشقاء فلا تتذكر إلا "أحمد" وعودة أبي من العمرة. لاأنكر أن هناك بعض المنغصات فقد كنت أنا أو أيُّ موظف تربطه علاقة بمهاجرٍ في الخارج عرضةً للسؤال من قبل ضابط أمن الدائرة، ياسيدي أخي ذهب في بعثة قبل الحرب .. السفارة الالمانية دعت لمسابقة علمية تخص الفيزياء ، فاجتازالامتحان من بين العشرات .. هل اتصل بكم؟أنت تعرف أن الخطوط بدأت تعمل!ألم يتصل من قبل؟كيف والتنومة منطقة حرب ونحن عدنا إليها بعد بلاغ بالرحيل !رسائل؟ أبدا فقط اتصال عبر الهاتف .. تفضل وقع!

الاسئلة ذاتها تعيد نفسها كلّ شهر!

وفي أقل من ساعات يتغير كلّ شيء. لاملفات لاتوقيع . لاسؤال عن مهاجر في الخارج، وأنا لم أعد أناور في الدائرة يائسا مرةً، ومتفائلا مرةً أخرى أمام موظف يسألني ويقدم لي أوراقا أوقع عليها بين حين وآخر فتطلّ علينا من حيث نتوقع ولا نتوقع زغرودة تهز المكان وتجلجل الغرف وتختلط بنشوة الموظفين وأصوات السيارات العابرة وفرقعة الصخب المحموم:

- العراق استعاد الكويت!

- حقنا رجع إلينا.

- متى؟

- اليوم قبل قليل!

- فعل البطل مالم يجرؤ عليه غازي وقاسم!

- رجل والله من ظهر رجل!

الرئيس ذكي يعرف متى يهادن ومتى يقاتل!

- مسألة الكويت يا إخوان حقّ اتفق عليه الجميع .. الملك غازي .. نوري السعيد .. عبد الكريم ثم جاء الرئيس أطال الله عمره فأنجز ما عجز عنه غيره!

- حلم تحقق!

إذاً هي الحرب .. ونحن نعمل والحياة تجري شأنها كل يوم .. ولا أحد يفكر بحرب جديدة .. بعد ستة أشهر مرت من الجوع والحصار يطل الرئيس عبر شاشة التلفزيون يعد العالم بغدٍ أفضل: سوف ندحر أمريكا والغرب بأمّ المعارك. قاتلنا بالقعقاع فهزمنا الفرس المجوس، واليوم من جديد في الكويت يحتشد عنترة والمهلهل وحمورابي وعلي وخالد ذو الوجه الصبوح، والقعقاع وصلاح الدين وعبد الناصر كلّ هؤلاء يقودهم السيد الرئيس في جبهة الكويت:

أنظروا ياعرب رئيسنا مع الجنود وأميرهم هارب .. هارب مثل الدجاجة .. لن تنفعك أموالك ياقارونّ

- سيدي سوف نأكلهم !

- ماذا تغديتم اليوم!

- السمك الزبيدي سيدي.

- سوف نأكلهم ونمصّ عظامهم مثلما نأكل السمك الزبيدي!

- لاتخافوا أيها الأبطال فأنتم الصواريخ وأنتم الطيران افعلوا بهم ماتشاؤون.

ايها العرب. أيها المسلمون. هاهي الكويت تستباح. القوات العراقية تقترب. المذيع الكويتي يصرخ. يستغيث بالعرب والمسلمين. يظل يستحث الضمائر إلى أن يتلاشى صوته، ولايطالعنا بعد انقطاع المذياع إلا صدى من أشْهُرٍ كأنها سكاكين ترقص شفراتها على بلاغات معادة لايختلف أولها عن الآخر .. غربان. طيرانهم غربان. صواريخهم لاتؤذي. بلاغ صادر عن وزارة الدفاع .. اخترقت مجالنا الجوي مجموعة من الغربان فتصدت مقاوماتنا وأجبرتها على الفرار. مظاهرات من المحيط إلى الخليج هذه الملايين معنا. شعب الصومال يتضامن معنا. ربما هو تفسير حلمي السابق عن ضياع الخصية، الباكستان .. الناس في بنغلادش معنا لاتقولوا إنهم فقراء يشحذون اللقمة .. الفقراء أحباب الله وكل ماتبثه وسائل الإعلام العربية ماهو إلا إشاعات وأضغاث أحلام. كل مايفعله طيران العدو وصواريخه يشبه في أحسن الأحوال وخزات دبوس تافه.

لو يصبح ذلك حلما بغيضا يستعصي على الذاكرة .. لاأحد كان يتوقع اجتياح الكويت. آخر كابوس مزعج كنا نراهن عليه. حزب البعث هو الذي اعترف بدولة الكويت عام 1963 الرئيس قال عدة مرات إنه في خندق مع الاتحاد السوفيتي ياعرب نحن أصدقاء السوفيت .. أما بنادقنا فيمكن أن تستدير نحوهم بيسر حين يفكرون بمهاجمتكم .. . قاتلنا ثماني سنوات إيران من أجل الجزر الثلاث ولم تكن الكويت شيعية ولا فارسية، ألا تثقوا بنا .. الرئيس مبارك طمأنكم . الرئيس أكد له لن يهاجمكم فلتناموا ملء جفونكم رغدا. مايقال يشيع البهجة في نفوسنا. المهمة انتهت عند البوابة الشرقية والخطوة التالية إسرائيل. رئيسنا يعانق صاحب السمو يهديه بندقية:

- ستجدني عندك في الكويت قريبا!

مناورة .. . ابتزاز لا أقل ولا أكثر ربما يؤدي إلى احتلال بعض آبار البترول. هناك ألف دليل على أن الأمر زوبعة في فنجان. من يحمي العرب إذا سقط الرئيس. عجول الخليج حقا إنهم عجول .. كامل الرامي يبتسم ويدعي أننا جميعنا عجول .. ألم نشرب حليب البقرة .. العجل أخونا ثم نذبح أمنا بالرضاعة .. . الهندوس أشرف من الجميع على الأقل لايذبحون أمتاهم اللائي يرضعنهم لكن كيف يهين الكويتي العجل .. . الماجدة العراقية. يريدونها مثل الروسية تمنح نفسها مقابل علك تافه .. . تقف على رصيف بشارع في دبي تجتذب الزبائن .. . أراد الفرس أن يتزوجوا بناتنا زواج متعة وهؤلاء البدو تُسَوِّل لهم أنفسهم الدنيئة مضاجعة العراقيات. حرسنا لهم البوابة الشرقية فأهانوا شرف نسائنا. ولعل جميع الأدلة – رغم ماقيل ومايقال - تشير إلى أن الأمور لاتسير نحو الأسوأ. حسن النية جعلني أسهر إلى ساعة متأخرة. سماعة المذياع في أذني وكل الشواهد في أعماقي تنفي وقوع الكارثة. حتى آخر لحظة كنت مطمئنا إلى تصريح الرئيس المصري وَوَعْدٍ قطعه له فارس القادسية. كانت غرفتي في الطابق العلوي على السطح في حين رقدت أمي وأختي الكبرى في غرفة وأختي الصغرى وزوجها وابنها في الغرفة الأخرى. هدوء تام وليس هناك أصدق لهجة من الرئيس مبارك. العراق أبعد من أن يحتل الكويت .. غلاسبي تلمِّح ولن نُخدّع بمعسول الكلام .. وأنا أغفو مطمئنا بعد سهر طويل. عند تمثال السياب لاح لي مبارك، وفي وسط الفلكة يقف الرئيس. ضفة العشار وضفة شط العرب:

- الراقصة!

قال الثاني على الفور:

- ابن .. . عرس .. .

كلمات مشوشة. لهجة غريبة . التفت فلم أر الرجلين لكني أحسست أن خدرا دب بقدمي المشوَّهة فأيقظني من النوم فاكتشفت أنها لم تكن ضحكة عادية. كانت هناك حشرجة ما تصدر عن المذياع. لم أفهم شيئا. أدرت المؤشر على إذاعة بغداد، فكانت تبث أناشيد من التي اعتدنا سماعها كل يوم. استعذت بالله من اضغاث أحلام تبدي في النوم الفرح وتتغذى في اليقظة على الكوارث والأحزان. هناك هاجس ما يلعب بي بين النكتة والمأساة منذ زمن بعيد، وبحركة لاأرادية أدرت المؤشر على محطة الكويت فسمعت الكارثة. كان المذيع يستغيث بالعرب والمسلمين. أين أنتم ياعرب ها هي الكويت تستباح. هاهم الكويتيون يُقتلون تُسفَك دماؤهم تُنتَهب أموالهم وَتُسْتَبَاح حرماتهم. الموت يحدق بنا .. الطاعون .. غلاسبي لمّحت وخدعنا .. أين مصر وسوريا .. أين الجزائر .. هل ماتت الضمائر .. تيقَّنْتُ أنَّ حوادث غريبة أبعد من الخيال وقعت وشلالاً جديداً من الدم تدفق فلايكون بإمكان أيِّ انسان إيقافه، وفي الصباح عند العاشرة في الدائرة حيث أعمل ولما أنطق بعد مع أي كان انطلقت زغرودة الفراشة التي جلجلت المكان:

- أرضنا رجعت لنا!

 

د. قصي الشيخ عسكر

.....................

جزء من رواية: ربيع التنّومة

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم