صحيفة المثقف

احتجاجاتنا واحتجاجات الأوادم !

تعالت منذ الأمس، نغمة جديدة قديمة . نغمة معروفة ومألوفة تاريخيا، فحيثما آلت الازمة الاجتماعية الى طريق مسدود وبانت نذر هياج اجتماعي عنيف، جراء الضغط والاستهتار والتجاهل، وفي كل مكان من عالمنا العربي والإسلامي، لجأت الطبقات الفاسدة المتسلطة وممثلوها السياسيون والامنيون والإعلاميون الى استعارة ذات اللغة فوصفت التحركات او الاحتجاجات او الدعوات التي تصدر بهذا الشأن بانها أفعال جهلة او دعوات تخريب ومخربين او عصيانات حمقى وحرامية او، ربما، مؤامرات من وراء الحدود !

انها ردة فعل تعبر عن امعان في الصلف والتجاهل وهروب الى امام او دفن للرأس في الرمال بدلا من مواجهة المشكل وتفهمه ومحاولة، على الأقل محاولة، معالجته ولا نقول حله، وغالبا ما تسببت، ومن خلال معظم الأمثلة التاريخية، في تعميق السخط الاجتماعي المكبوت ومراكمته باتجاه انفجارات مستقبلية لا يعلم احد مداها !

أتذكر كيف سمّى السادات انتفاضة المصريين عام 1977 بانتفاضة الحرامية، وكيف سمّى صدام حسين انتفاضة العراقيين عام 1991 بتمرد الغوغاء قبل ان تصبح صفحة " الغدر والخيانة " لانها ارجعت الى غدر من دولة مجاورة هي ايران وخيانة من الشعب الناكر للجميل !

ان الطغاة والفاسدين يرون، كما هو ديدن من سبقهم، ان " دار السيد مامونه " واننا ما نزال بعيدين بعدا مناسبا عن مثل هذه التوقعات لكنهم يحتاطون، من جهة أخرى، للنذر والصواعق الصغيرة التي يمكن ان تتطور الى حرائق، خصوصا في أجواء ملتهبة كل ما فيها يساعد على الاشتعال فيتصدون بالفعل واللغة لما يجري، دون ادنى تفكير بتفكيكه وحله حلا عادلا ومفيدا .

وكجزء من هذه المواجهة، يرد البعض، على مظاهر الاحتجاج القائمة : "لا اعتراض لدينا على التعبير عن الاحتجاج والتظاهر لكن وسائل احتجاجنا وتظاهراتنا غالبا ما لا تلتزم أساليب التعبير الحضارية ويتجاوز المتظاهرون، أحيانا، تعليمات واومر الجهات الأمنية، وهاك صورهم وهم يحملون العصي، هل هذه مظاهر ديمقراطية؟ اين هذه من مظاهرات الاوادم في بلدان العالم المتمدن حيث التعبير الصامت عبر اللافتات والمسير الهاديء المنظم عبر شوارع محددة، والانفضاض في الوقت المحدد بعد أداء الغرض وتبليغ الرسالة . ان مواطنينا لا يعرفون التصرف بعقلانية إزاء الحرية ولذلك فاننا نحتاج الى المزيد من الشدة والعنف لا التسامح والتراخي ! "

وفي الإجابة على هذه " الأفكار العظيمة " لابد من القول :

1- الالتزام بالاساليب " الحضارية " يعكس ثقافة مجتمع، فكيف نكون، تكون طرائق احتجاجنا وأساليب رفضنا .فما هي ثقافة المجتمع التي عملتم على تأسيسها واشاعتها وترسيخها عبر 15 عاما ؟ اليست هي ثقافة العنف واللانظام والفوضى والتغالب والبداوة وغير ذلك مما سينعكس على أساليب الناس في التعامل ؟؟ ثم الاّ يرى المواطن ويلمس في كل مطلب وحاجة ان لا احد يسمع اليه ولا رسالة يمكن ان تصل الاّ عبر القوة والتهديد بها وان احتجاجه وصراخه لا يجد اذنا صاغية في معظم الأحوال؟ الاّ يلمس من خلال تجربته اليومية ان الدولة لا تحترم وتسلم بحقوق الاّ من ملك القوة ولوح بها، من السياسيين اللصوص الى الإرهابيين القتلة الذين يُمنحون الفرصة تلو الفرصة بل وغالبا ما تسقط عنهم جرائمهم ويدعون الى المشاركة السياسية لا لسبب الاّ ابتزاز القوة الذي يتقنونه؟

2- ان الكثير من مظاهرات او احتجاجات الغرب، سواء تلك التي تتعلق بقضايا حيوية تمس مستوى المعيشة او الحريات، مثل التي تتعلق بالأجور او التوظيف او رفض إجراءات التقشف، او التظاهرات ذات الطابع السياسي كرفض الحرب او التدخل، كثيرا ما تتطور الى معارك شوارع حقيقية وغالبا ما تشهد تبادل اللكم والضربات بين المحتجين وقوات البوليس وحفظ النظام التي لا يمكنها، اطلاقا، تجاوز مواجهة ذلك العنف بأكثر من الغاز المسيل للدموع او الهراوات المطاطية في اقصى الحالات، ولم يحصل ان استخدمت الأسلحة ابدا !

3- ان المواطن في دول العالم المتطور لا يخرج للتظاهر من اجل ضرورات وجودية محضة، مثل عدم توفر الكهرباء مع ان مبالغ اسطورية وتكفي لاعمار دول صُرفت عليها او عدم توفر مياه الشرب اوتجاوز حدود ملوحتها كل المستويات بحيث لا تصلح للغسل ويشهد بلدانا مجاورة كانت صحارى قاحلة تتمنى ما لديه من انهار وهي تبيعه اليوم ماء الشرب ! او انه لا يجد فرصة عمل له الاّ بعد ان يدفع رشوة تعدل أجور عمل عامين او اكثر (استعباد وسخرة لا يختلف، جوهريا، عن حق الاسياد في عمل العبيد " ! او انه، رغم ذلك، يذهب الى المستشفى فيجد أجهزتها عاطلة ودواءها نافذ ! او يتسرب أولاده من المدرسة بعد ان تحول التعليم الى وزر ثقيل، ناهيك عن انه كان وما يزال يعيش حياة رثة، مخربة، تفتقر، على الدوام الى ادنى شروط التحضر والمدنية فكيف نتوقع منه سلوكا مدنيا راقيا ؟!

اكاد اجزم ان المواطن الياباني او الإنكليزي او الأمريكي كان سيرتكب ما لا يمكن تصوره من العنف والتدمير لو انه واجه فقط جزءا، فقط، من هذه المحن، خصوصا حينما تبدو في دائرة مفرغة ومتفاقمة تعيد انتاج نفسها ولا يبدو ثمة أية بارقة امل بالخلاص منها!

ولذلك، فعلى العكس، تماما من هذه الدعوات، أرى ان المواطن العراقي، اليوم، هو الأكثر مسالمة وانقيادا، وان مظاهراته وطرق احتجاجه، ماتزال هي الاكثر سلمية ومسكنه وهي التي لم تزد في اوج عنفها عن التجمع في ساحة التحرير والهتاف بأقل القليل من المطالب مما يتوفر لمواطن دولة فقيرة بلا إمكانيات وليتفرق بعد ذلك وهو مرتاح لانه تمكن من الهتاف وسيعاود الكرة بعد أسبوع، في ممارسة روتينية لم تعد تثير الكثير من المخاوف لدى طبقة تنعم بكل شيء بطريقة لصوصية سافرة على حساب حرمان هذه الملايين الساكته مقابل فتات يبقيها في حال من العبودية المقنعة .

ان كل مطالب العراقيين ما تزال في اطار الضرورات الوجودية القصوى واسس الحياة الإنسانية والمدنية التي لا يستقيم امر المجتمع مع عدم توفرها، وهي تتوفر حتى في مجتمعات مجاورة محدودة الموارد، لكنها تتحول لدى العراقي الى أحلام بعيدة المنال، بل مستحيلة . حتى ان المواطن في دول مشرقية مجاورة، كتركيا مثلا، تجاوز هذا الامر بقرن او اكثر ولم تعد امنيات او مطالب يتظاهر او يحتج من اجلها وانما ارتفع سقف مطالبه الى افق آخر .

4- ان المواطن يرى ويلمس بالأمثلة الحية، شخوص هذه الطبقة التي يراها سببا في خراب حياته وتهديد امنه ومستقبله واغلاق كل منافذ وامكانيات التقدم نحو الاحسن امامه، ولا يجد فيهم الاّ امثلة منحطة عن الوصولية والتكالب واللصوصية والجهل والتبعية للأجنبي والاستماته في سبيل المصالح الشخصية والفساد الذي لم يسبق ان رأى اشكاله وعرف صوره على هذا النحو، فمن الطبيعي، جدا ان لا يأمل منهم حلا ولا يرتجي منهم اصلاحا ويختزن ضدهم قدرا هائلا من الرفض والاحتقار، قد لا يستطيع التعبير عنه سوى بالكلام او النقد الجارح، في مجالسه الخاصة، اليوم، لكنه قد يتحول الى ممارسات ثأرية مؤسفة، اذا استجدت ظروف تسمح بذلك، بحقهم وبحق الدولة ككل، والتي ستكون بمثابة ملك مشاع مغصوب بنظره، ولدينا في تاريخنا القريب جدا، امثلة طرية يجب ان تكون درسا لكل عاقل، الأولى في " فرهدة الدولة " ابان الغزو الأمريكي والثانية في دخول الجمهور الى المنطقة الخضراء وكيف ان البعض امسك بنواب قد لا يكونوا سيئين الى تلك الدرجة واشبعهم رعبا واهانة !

5- ان القوات الأمنية، ما تزال، في تعاملها مع المواطن، تحمل الكثير من حسها ونظرتها وسلوكها ازاءه وإزاء حقوقه مما تربت عليه طوال العقود السابقة، وما يزال الكثيرون من منتسبيها ينظرون الى مظاهر حرية التعبير او التجمع او التظاهر على انها " دلال " زائد وفسحة مبالغ فيها لا يحسن ترك الحبل فيها على الغارب للمواطن، ولذلك فانهم يبدون نافذي الصبر ويتعاملون بتعال وتجبر مع المواطن في مثل هذه المناسبات ويتوقعون انصياعا كاملا لهم فيما يصدرون من أوامر ولذلك ترى ان بعضهم يستسهل اطلاق الرصاص الحي اتجاه المحتجين دون ان يقيده تحريم قانوني عميق وعرف د يمقراطي راسخ .

وأخيرا، فجدير بمن يلقي اللوم على الجماهير وممارساتها " غير الحضارية " واللاعقلانية ان يتحلى هو بقدر من التحضر والعقلانية والحصافة فيرى ان السلطة مسؤولية لا غنيمة وان الإدارة تكليف لا تشريف وان ينثني عن غيّه ويلتفت الى واقعه وارهاصاته قبل فوات الأوان !

 

عارف معروف

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم