صحيفة المثقف

ربيع التنومة: الانتفاضة (2)

قصي الشيخ عسكروراءه مطالب!

- الشراب يارجال على حسابي!

أم عباس الفراشة:

- أحلى شراب لعيني بطل القادسية!

لعنة الله عليكم.استلم الثمن حقق مصالح الغرب بحربه مع إيران وقبض الكويت ثمنها، فأين ذهب المغنون والمنشدون وكيف توارت في لحظات السلام الأميري أيامُ زمانٍ فانحشرتْ داخل فوهة بندقية.سيادته حقق حلم غازي وعبد الكريم قاسم فناما قريري االعيون ياجلالة الملك وسيادة الزعيم:

- لو فعل المصريون والسوريون مثلنا والله لن تبقى إسرائيل نصف ساعة!

وتؤكد أختي الصغرى بحماس:

- العرب جبناء خافوا أن يصدروا بيان إدانة مجرد إدانة!

- غلاسبي خدعته!

ابن أختي الصغير يردد كلمات لايعرفها:

- كحاب كداويد!!

سيدي الرئيس:ما أحرى بالمتنبي أن يولد في عصرك لا زمن سيف الدولة.شجاعة عليّ وعدل عمر.. نزار قباني لم يوفك حقك حين قال فيك وهو حالما خرج من حضرتك بعد لقاءٍ ساحرٍ إنك انت الرجل الوحيد في هذه الأمة.أمة لارجل فيها غيرك، ومازالت سعاد الصباح تشتَمّ صدرك حتى ظن أصحاب السوء أنها سلمتك الغالي والنفيس بعدها راحت تصرخ فيك..كنت تقاتل عنهم ياسيادة الرئيس، نام الكويتيون رغدا خلال ثماني سنوات وأبواب بيوتهم مشرعة..لا يخافون لصا يقدم من الشرق، يحلمون بالأمان..الخليج كله ينعم بالورود والعطور والسفر..ثم تلملم الأميرة أوراقها وتهرول إلى لندن..نحن حراس..حراس بوابات..حراس بساتين. لانملك أرضا ولاسماء.فقط حراسٌ لبابٍ كبيرٍ أطلق عليه إخواننا العرب بوابة الشرق.كلهم تبرّؤوا منك يافخامة الرئيس.أمة خصيان ومخانيث.فؤاد المهندس يضحك منك.يجعلك مسخرة في إذاعة مصر..أنت صاحب هواية غريبة عجيبة..هناك من يجمع الطوابع والصور، وهناك من يهتم بالبحث عن العملات، وأنت تجمِّع دولا..هواية تجميع الأراضي!عزت العلايلي لايدري أنك ستجيِّر شريط القادسية لغرض سياسي وإلا لما أصبح سعد بن أبي وقاص.ولاقام بتبديل وجهٍ أكله الجدري لخالد بن الوليد إلى طلعة بهية.الفرس إخوة لنا وما أحد من أبطال الشريط يعرف أنك دفعت ثمنه ليكون جسرك فيما بعد إلى إيران.كلمة واحدة من خامنئي يمكن أن تقلب الموازين.السندريلا مظلومة على المخرج أن يعيد اللقطة لخطأ فما حدث سهوا ولها أن تطالب أجراً مضاعف غير الأجر الأول..ليعد المخرج المشهد من جديد..ليلى طاهر أبدعت..أبو عوف يتنصل هو وأخواته الجميلات من وعدٍ قطعوه على أنفسهم أن يغنوا من دون ثمن إذا انتهت الحرب العراقية الإيرانية، والممثِّل الكويتي الأشقر يدعيّ بعد سنوات أنه أصبح نباتيا قَرَفَاً من كثرة اللحم الذي تناوله في أثناء تمثيل الشريط، فياترى أين الكويتي الرويشد وأغنياته بأمجاد القادسية؟ لم يبق معك ياسيادة الرئيس إلا مغنو العراق وفنانوه الغجر الذين منحتهم هويّة، والسود أصحاب الهيوة..وقد أرسلت لك التنومة مطربها الشاب يشدّ من أزرك بصوته الريفيّ العذب.لايهم..لامانع عنده أن يقف في دار الإذاعة من الفجر إلى منتصف الليل.نحن معك سيادة الرئيس فقد اكتشف العرب الأقحاح أنهم مخطؤون جدا، وشيخ الأزهر يلتفت أخيرا فيعرف أن سعدا من العشرة المبشرة، هؤلاء كل واحد منهم له خصية زائدة أكثر منا نحن البشر العاديين تمنع أي ممثل من أن يشخصهم، فلم يبق لنا من عالم السينما سوى الأيام الطويلة وكان لنا معه بدل القادسية ساحل طويل.ساحل امتد من الناصرية إلى نقطة بعيدة في الخليج، اذهب يا أنور السادات بعيدا عن سوق التنومة تَوارَ في مكان ما. البندورة تأتينا من الأردن.أسواقنا تزهو بالتفاح اللبنانيّ. والقمح من USA.. فماذا يزرع راشد؟ أمّال راشد بيزرع إيه، وفي بالي تطرأ فكرة جديدة هؤلاء الجنود العائدون المتعبون الجوعى بل هو الجيش الخامس الجرار..نعم أستطيع أن أستفيد منهم.فكرة حديثة لم يسبقني إليها أحد:طلبت من أختي وصهري أن يعجنوا.كنا نستفيد من سطح الدار حيث غرفتي وثمة مساحة تفيض عن الحاجة.في هذه الأثناء، خلال حصار البصرة، كان ابن جيراننا يقود شاحنته الصغيرة إلى عبادان.يتبضع من هناك الطحين وبعض الخضار والفاكهة ويعود يبيع السلع تلك إلى محلتنا.أصبح المجوس هم المنفذ الوحيد لنا.الرئة التي نتنفس بها، الخميني الدجال تغير إلى رجل صالح.فخامة الأخ رفسنجاني: عدنا إلى اتفافية الجزائر. نحن الآن نحارب فرعون.السياسة حقل عهر تنبت فيه بذرة الحلال والحرام.مومس لاتعرف صاحبا أو عدوا. المجوس..أبو حنيفة.. ابن حنبل ...البخاري مسلم... الطوسي... الطبرسي... أصحاب العمائم رفسنجاني ..الكرفس الخبز.اللحم البندورة..لايهم.المهم أن نعيش.البخاري يبيع لنا الفجل ومسلم يغلق كتابه مشغولا بالبندورة.فقط نعيش بأي ثمن كان.رحت أشتري الطحين والبقدونس. نعجن على السطح وأحمل الصينية إلى الفلكة حيث يمر الجنود المتعبون الخائرون:

- كباب سندويج دينار!

طازج تماما.قبل دقائق عملناه.

جنود جوعى يثيرون البوؤس يبدون كحال شارلي شابلن المترنح.أراهم فأتخيل أن شابلن يعود إلى التنومة بعد أن تلقى لكمات من كلاي العملاق.كباب kiss عرضك والصحفي الأجنبي يسأل:

- سيادة الرئيس من معك إنك وحدك!

- أبدا أنت مخطيء ألم تر المظاهرات المليونية في بنغلادش ومصر و...

- لكنهم فقراء لايملكون شيئا.

فقراء.ينامون في المقابر. عراة حفاة. الله يكون في عون مترجم الرئيس الذي يختار كلمات يدوخ منها اللغوي والأمي:

- فقراء نعم الله يحب الفقراء. الفقراء أحباب الله!

كباب أيها الأبطال.جزاكم الله خيرا. قاتلتم عن الرئيس خير قتال.راح الجنود يتهافتون على الكباب.بعضهم التهم من دون أن يدفع.حرامية لم يكفهم نهب الكويت.ابن الجيران رآى طريقتي مربحة فأتى بصينية كبيرة واستقر عند مدرج المرفأ من الطرف الآخر. كنت مشغولا. بالكباب والجنود منهمكون في الأكل أشبه بالعميان...والطيران الأمريكي يدك البنايات الحكومية ومناطق يأوي إليها الحزبيون وبعض قطعات الجيش.كنا نخاف أن يندس بعض المقاتلين بين البيوت فيطاردهم الطيران.ليس لعبا. هؤلاء تحالف..ليست هي إيران. التحالف..ثلاثون دولة وأنت ياخاصي الأسد ومضرط الحجارة.. في كل مكان ضربات موتٍ قانٍ لايوقفه بريجينيف أحمر ولا خميني أسود.لقد أكِلتُ يومَ أكِلَ الثور الأبيض..داء يستشري كالسرطان القاتل.لاعلاج له إلا النسيان أو التجاهل.مع ذلك تجاهلنا الموت..وفي غمرة انهماكي مع الكباب وغفلتي عن الموت المحيط بالبصرة جاء صهري يهرع إليّ ..يحمل خبرا سيئا عن أمي. كانت ترقد على سريرها فاستفزها صوت قوي تخيلته في بيت الجيران فنطت من السرير وسقطت على الأرض.أين الطبيب، وما أبعد المستشفى.الصوت الذي أسقط أمي سمعته نفسه في الداكير ورفعت بصري إلى المرفأ في الضفة الأخرى للشط فرأيت خيط دخان كثيف يتصاعد إلى السماء. أمي في خطر. الموت من دون حرب، ومن لي بسيارة أجرة تنقلها إلى مستشفى الخورة.بل أين هو البترول كي تتحرك السيارات.. أختاي تعوِلان. القصف من حولنا.وأمي أقرب إلى الموت منها إلى الحياة.ليت التحالف لايقدم على تدمير جسر التنومة حتى أنقل والدتي إلى مستشفى الخورة. ليكن بعد ذلك الطوفان.ليبق الجسر بأي ثمن. أرجوك ياشوارسكوف.. هي نفوسنا الأولى بالنجاة وليكن مايكون.ربما انطلقت لحظتها من غمرة يأس وآثرت نفسي لكنه أقرب إلى يوم المحشر وكل نفس تسعى إلى نجاتها قبل غيرها.نسيت أبطال الأفلام وعصابات الكابوي وقصف المدفعية الإيرانية..هذه هي الحرب الحقيقية.إيران مثل شخص يقطع يدك، وهؤلاء كأي وحش يمزقك إربا إربا.رحت أهرول نحو بيت الجيران صاحب الشاحنة الصغيرة.كنا أهل حارة واحدة وهو أساسا يرجع من حيث النسب إلى قرابة بعيدة لوالدتي. لم يمانع الرجل فتنفست الصعداء.أدركت أن بقية من الخير مازالت عالقة في صدور العراقيين على الرغم من المآسي التي مروا بها.كدت من قبل أظن أن طيبة أهل البصرة تبخرت.لينهب الناس سيارة هرب عنها من القصف سائقها، وليسرق اللصوص أيّ بيت تركه أهله... تلك هي البصرة التي تجردت من عفتها في حرب الثماني سنوات.. لتلتقي من باب المعقول أو المصادفة حربا أخرى أشدّ ضراوة وعنفا.

موت ثانٍ وخراب وسرقة وقتل!

في حرب العراق وإيران القادسية المزعومة فرت التنومة بعد ثلاث سنوات إلى العشار وها هو الأمان يحدق بقبضته علينا فيفكر الآخرون بالعبور إلينا وكانت الدعة ذاتها بوجهها القديم ولباسها الزاهي الجديد أبشع صورة من الخوف المحدق بالعشار، ففي التنومة الساكنة الهادئة العائدة للحياة من جديد تسقط أمي مشلولة من الخوف!!

ما أشد المفارقات حضورا في زمن الرعب !

هناك في العشار لا يموت أحد تحت القصف وفي التنومة تموت أمي على السرير!

بقيت أختي الكبرى معها في المستشفى.وأوصتنا أن نجلب معنا – حين نجد فرصة ما للمجيء – فانوسا قد تحتاجه، فالمشفى في حال الحرب يشغل مولد الكهرباء من أجل غرفة العمليات فقط.لم أخرج في اليوم التالي إلى الفلكة ولم نعجن.زارنا بعض الجيران يطمئنون على الوالدة وكان من بين الزائرين كامل الرامي نفسه.لم يكن الجو وقتها جو مرح ونكتة.بل بدت مأساة والدتي المشلولة تلقي بظلالها عليه كيوم رأيته بوفاة والده فمن يمنع الرامي من الضحك والنكتة والسخرية وافتعال الأزمات غير الموت ومواسم الحزن التي ماتنفك تلتصق بنا:

أين كنت فهذا هو اليوم الثلاثون من القصف!

في النجف

معقول؟

أمس رجعت!

خطرت لي فكرة أن أزور قبر أبي !

آخر خبر، كل الأمور تغيرت، هل سقطت نظرياته..نزل عن حذف سورة الكوثر مقابل أن يصبح مؤمنا.. ولم يعد يرى الصلاة مثلثا من رياضة ورقصا وعبادة، لا أعجب أن ينقلب القومي إلى شاذ والشيوعي إلى بعثي، ألم يثر الرامي في بداية تهتكه ويتمرد، ويغادر بيت والده الذي قال له أمام الملأ : الم تقرأ ياكامل في كتاب الله لا تقل لهما أفٍّ، فردّ عليه بسخرية وصوت أقرب إلى العفطة :لأنه ليس له أم أوأب ولو كان له حقا لقال لهما تفٍ، أيّ انقلاب ياأستاذ كامل هذا؟رحم الله والدك، كان أبي يلومك على سلوكك الاهوج.أنت معلم قدوة..ابني عبد الله تلميذك..جيراننا الطيبون يحبون ك على مافيك من عبث وكفر..قبل يومين من وفاته عاتبك أبي وإمام الجامع على طلاق زوجتك ابنة عمك كوثر، وسكرك المتواصل، ولم يكن هناك أمامك من وسيلة لتتخلص من الإحراج سوى أن ترتجل نظرية جديدة : سأترك العرق فاصلي وأصوم إذا حذفتم سورة الكوثر من القرآن..لافائدة منك كما يقول أبي، والآن ينقلب كلّ شيء رأسا على عقب، هل تظنون ايها الرفاق في مقر الفرقة أني أكره الخميني..الإسلام رائع عظيم لو لا أنه حرّم الخمرة، ولو يملك الخميني الشجاعة الكافية ويفتي بِحِلِّها لكنت أوّل من يؤيده علنا وبقدرة قادر تحوَّلت سخريتك إلى حكمة جديدة..اختفى محل طلية والعرق الفاخر والبيرة المثلجة وبدأ نادي موظفي شط العرب يبيع الشاي والباقلاء والخيار واللبن من دون خمر، السكارى صاحون طوال اليوم لايجد الرامي مسكرا فيظنه الرفاق يهذي.ممكن أن تصنع العرق في البيت..لكن لا أحد يصدق أنك هناك حيث الموت يمتد أمامك فتكاد تظن القبور لا تنتهي، وتشعر أن الأرض مغطاة برماد الموتى..وأنها ستضيق بهم يوما ما عند ذاك تفكر أن الدنيا فانية فيصبح الموت صديقك وأنك تظلمه حين تتجاهله ولاتفكِّر به إلا لحادث ما أو وفاة شخص!

مفاجأة غير متوقعة.كامل الرامي يفكر بالحياة والموت، ويهجر الحياة الفانية.ينسى الكحول ويترك الخمر..أجمل الأوقات عنده ساعة الفجر يجلس وعلى المنضدة قنينة عرق يستمع إلى الشيخ عبد الباسط وبعده فيروز..نحن في عصر الغرائب مثل المفاجأة التي حدثت ثاني يوم لوجود أمي في المشفى.سمعنا ضربتين من جهة الخورة كادتا لشدتهما ترفعان التنومة إلى عمق السماء وتهبطان بها ثانية إلى الأرض.راقبت من على السطح خيط دخانٍ يتعالى من خلف المستشفى وصرخت:

الضربة في الخورة.

وهتف صهري غاضبا بحشرجة:

الكلاب يلوذون بالمؤسسات المدنية فيجعلونها هدفا للطيران!

دروع بشرية!

حملت فانوسا وخطوت خارجا همت أختي الصغرى أن تتبعني فدفعتها بعنف صارخا:

ابقي مع زوجك وابنك فمن الأفضل إن حدث مكروه إن يموت واحد منا.

هرولت وأنا أحمل الفانوس باتجاه الجسر.الصخب والضجيج والطيران والحمم والنار المتلاسنة من بعيد أنستني حكاية سمعتها من والدي والرامي ومعلمين آخرين عن فيلسوف كان يحمل فانوسا في النهار. أحيانا أنسى السخرية من نفسي وآخرين وأتجاهل أصدقائي القدامي كاري كوبر وترنتي أصدقاء تلهيت بهم عن قدمي المشوهة يوم كنت صبيا..

وسط الصخب وعرجي تهاديت بمصباح نحو الخورة..

كان علي أن أقطع المسافة إلى الضفة غير آبهٍ بما يجري حولي كأن قوَّةً جامحةً اعترتني من جديد. لم أخف قط.كنت على يقين أني لن أجد أية سيارة أجرة.ليس هناك من محطة وقود تعمل.وكان من المفترض أن نطبخ – نحن أهل التنومة – مثل العشار على الحطب لولا تلك الشاحنات التي تنقل إلينا الغاز من إيران.ولم يساورني خوف من الطيران الذي حفظت ضرباته عن ظهر قلب.كان يدمر منشآت البترول والمحطات ولا يقصد مؤسسات الدولة إلا حين يلجأ إليها الرفاق. وكُلّ همي أن أصل إلى مستشفى الخورة فأعرف هل تعرضتْ لقصف.كنت أمشي وأهرول أحياناً. وربما عجبت من نفسي حين وجدتني في حديقة المستشفى وجها لوجه مع أختي:

- ما الخبر؟

استلمت مني الفانوس قائلة:

- ملحق المستشفى الخلفي تعرض لضربة طيران!

كان المشهد مأساويا حقا.بعض المرضى من نزلاء الطابق الأسفل تكدسوا في الحديقة وهم يتراجفون من البرد.ورأيت مريضا ممسكا بخاصرته والممرضات في هرج يتسابقن لنقل المرضى:

- اين أمي؟

- في الطابق الثالث!

- كيف حالها؟

- لاتقلق إنها بخير.

وَهَتَفَ صوتٌ من جانب الحديقة شغلت عن صاحبه بالنظر نحو مرضى تكدس بعضهم فوق بعض:

- المسلحون دخلوا الملحق فحدثت المأساة!

البناء الذي يضم مولد الكهرباء وخزان الماء دُمِّر وما على المرضى إلا أن يرحلوا جميعهم إلى المستشفى الجمهوري في باب الزبير. عدد كبير من سيارات الإسعاف معطل.لاسيارات أجرة إلا من تطوع من أهل الخير..هل أعود إلى التنومة وأرجو جارنا مرة أخرى؟ لم يكن الظلام قد خيم بعد وكان بإمكاننا الصعود من دون فانوس إلى الطابق الثالث ومن ثم نقل والدتي إلى الحديقة.كنا في طريقنا إلى الدرج حين اعترضتنا ممرضة تلهث من التعب والخوف:

- أيمكن لو سمحتما أن استعير الفانوس؟

وأردفت قبل أن تسألها أختي:

- في غرفة العمليات هناك الطبيب بحاجة إليه لإجراء عملية مهمة لمريض!

في الطابق الثالث كانت والدتي في حال يرثى لها.وحين أجلستها أختي رأيت آثاراً ما وشممت بعض رائحة.يبدو أنها لم تتحمل هول الصوت القوي فكانت بقايا تلك الآثار تتناثر على ظهرها. هرولت أبحث عن ممرضة تساعد أختي في تنظيفها. وبعد دقائق كنا نحملها فننزل الدرج من الطابق الثالث.لاأدري من اين حصلت أختي على تلك القوة، وكيف تغلبت على رقة وضعف فيها فتحملت معي العبء.وكم مرة اصطدمنا بآخرين يصعدون وينزلون..ربما هي المآسي تزرع فينا من المقدرة أضعاف مانعرفه في أنفسنا.أستاذي السابق في مرحلة الابتدائية اكتشف بعد سنين طويلة قوة كامنة فيه كان يحتقرها. رآى الموت في الحرب العراقية الإيرانية وشاهد جثثا تسقط من الشظايا فكره الموت وكفر بالله ثم بوقفة قصيرة أمام قبر يلفه السكون والإهمال منذ سنوات صادق الموت وآمن بالله، نزل عن عبثه وبقي لا يرغب في عودة زوجته..وانا الآن أكره كل نكتة أمام الموت.أكره كاري كوبر وترنتي ولا أعجب ببطل يقتل الآخرين وهو يدخن السيجار ويعوج فمه ساخرا من موت رأيته على الشاشة فَرِحا فكرهته الآن وبطل صفقت له وهو يقتل قفز أمامي بشحمه ولحمه، كنت اعود أدراجي إلى التنومة وصوت أختي يحثني:

انتبه لنفسك أحضر لها بطانية البرد شديد !

بدا المشوار هائلا من الخورة إلى التنومة. أن تجد سيارة أجرة كمن يبحث عن جرة في بحر.كما لوأنني أقطع مئات الأميال فتنبثق من على جوانبها أشلاء ومبانٍ مهدَّمَةٌ.جنينا من حرب إيران الجنون إذ كل الأسرى الذين عادوا من إيران وفيهم بعض المسِّ، وفي هذا الجو المشحون بالجنون أتظاهر أني العاقل الوحيد لكي لايحسدني الناس، فماذا نقطف من حرب التحالف؟ ربما يصبح معتوهو الحرب العراقية الإيرانية عقلاء فأصبح معتوها !

لكني كنت بعد ساعات أقف في حديقة مستشفى الخورة حاملا بطانية ولم أر أمي. نصف المرضى اختفوا فهل أصلحوا محول الكهرباء وخزان الماء والأجهزة الأخرى أم ماذا..؟الممرضة التي استعارت مني الفانوس قطعت عليَّ تساؤلي:

جاءت سيارات إسعاف من المستشفى الجمهوري وسيارات محسنين نقلت المرضى!

مشوار طويل آخر.انتظار آخر.جارنا صاحب الشاحنة أقلني بباب المشفى ورجع. رائع منه أن يصحبني مرتين في مثل هذه الظروف.والظلام نفسه بدأ يهبط.أختي الصغرى وابنها وصهري في التنومة. أنا في الخورة. أختي مع أمي في المستشفى الجمهوري، فهل أقطع تلك المسافة الطويلة على قدمي؟ ليس من المعقول أن أعود إلى التنومة.ولأتشبث بأي شيء كان شاحنة...عربة...دراجة. الطيران يطل فوق رأسي فهل أمشي كل تلك المسافة ؟رجلي العرجاء والطيران في السماء .. مجنون أدعي أني عاقل هربا من الحسد، والمسافة إلى المشفى الجمهوري تابى أن تتقلّص.. تلتمّ..لعل عربات الإسعاف تعود ثانية من المشفى الجمهوري لتنقل مابقي من مرضى مشفى الخورة فأندس بينها.لذت بالممرضة التي استعارت الفانوس من أختي .قالت بابتسامة طردت القلق عني:

لا بأس سأجعلك تصعد مع أية سيارة إسعاف!

هل يقبلونها هناك؟

لاأدري قد يتوفر مكان ما أم لا.

بعد أكثر من ساعة وصلت سيارات إسعاف عائدة من المشفى الجمهوري.كنت أندس في واحدة منها.ظلام يعيقني عن رؤية مايجري في الخارج.لا أميِّز الوجوه ولا أسمع سوى بعض الأنين كأن المرضى الباقين يخشون من أن تسمعهم طيور السماء أو كأنهم تعبوا من الصراخ والخوف والبرد ففقدوا طاقتهم على الأنين.ولم يكن وصولي إلى المشفى ليغير شيئا في حال أمي.كانت ملتفة في حضن أختي ببطانية قديمة. وكان المرضى يتكدسون في المدخل بين البوابة والاستعلامات منتظرين أمر تصريح بالدخول.غطيتها بالبطانية الأخرى.كانَ وجهها أصفر وحالها يبعث على القلق.بدت يداها باردتين واجتاحت رجفة بين حين وآخر كتفيها.تطلعت بعينيها وسط العتمة لعلني أستشف شيئا ما. وكانت الانفجارات تأتي وتغيب.الغربان التي استهزأ بها مذيع بغداد والبلاغ العسكري الذي حفظناه عن ظهر قلب.تلك الغربان تنعب فوق رؤوسنا وعيوننا تتعلق بموظَّفٍ ذي صدارٍ أبيضَ يطل علينا من غرفة الاستقبال:

لابأس عليكم أن تبقوا هنا بضع ساعات حالما يتم ترتيب المكان!

يهم الموظف بالدخول ثانية فيعترضه صوت هستيري:

هذه جريمة جريمة والله!

ينزل درجة أسفل المدخل ويقول منبها:

مشفانا ممتليء. لدينا ألف سرير،، هذه إمكاناتنا وأنتم ماشاء الله، أنتظروا قليلا ريثما نهيء لمرضاكم أماكن أخرى وإلا سوف يتدخل الحرس!

كان يحذر من أية أعمال شغب.. تهديد..ولم يكن لدينا بدّ من القبول والانتظار. بلعنا حنقنا وزادت المخاوف من أن يظننا طيار مغامر بعض المقاتلين الهاربين إلى المشفى فيستهدفنا.في هذه اللحظة أخذت رأس أمي في حضني كأني ألوذ بها من هواجس تجتاحني. هواجس غريبة لايمنعني عنها الظلام ولا تدركها قذائف التنوير المكتظة بها سماء البصرة.مرت أكثر من ساعة، ووخزات البرد أخذت تقسو وتزداد حدة.

فجأة...

كما لو أنه خدر يدبّ في حضني...

اهتزت أمي هزات خلتها من الحمى فتسمرت عيناي في عينيها المحدقتين تارة بوجهي وتارة بوجه أختي حتى استقرت على أفق غير محدد كأنها تتطلع إلى مدار بعيد وصرخت أختي :

ماتت! ماتت!

في هذه اللحظة فرقع صوت من بعيد! شد انتباه ذوي المرضى المزدحمين بمدخل المشفى الجمهوري، وتراقصت في فجوات الظلام أنات بعض المتعبين.وربما سقط انبوب مُغَذٍ من ذراع مريض وتدحرج صاحب عملية على حافة صخرة قريبة.كانت صرخات اختي تتردد في الباحة فيعقبها صوت انفجار قوي من جهة الشرق.. يعقبه آخر .. صوت هائل ثالث يتبعه رابع.. بركان قذف حممه، وصاح صوت وسط العتمة:

ياساتر أظنها في التنومة!

في التنومة أم غيرها إنه الموت يطاردنا أينما نحل، هل اصطاد الطيران مسلحون اختبأووا في مدرسة أم محطة البريد وأختي المنحنية على جثة أمي لاتعي أي تخرص وأظن تهويمتها على الجثة استلبتها حسها فلم تنتبه إلى الضربة التي ابتلعت صراخها أما أنا فهو القدر نفسه الذي جعلني من حيث لاأدري أن أرفع جثة أمي التي لفظت أنفاسها من البرد والرعب في اللحظة التي ذاتها التي دك فيها الطيران جسر التنومة العسكري وكان يقطع مابين الضفتين!

لقد ضاعت جنازة أمي وسط القصف والخراب والموت اليومي الهائل، المتواصل، فالأحزان مهما كانت أصيلة إلا أنها تضيع في مفزعات الحوادث الكبرى وبعد أربعين يوما من الضربات الجوية أي عشرين يوما على وفاة أمي بدء الهجوم البري. لو كنا في ظرف طبيعيّ لأعرضنا عن رؤية التلفاز وسماع المذياع لكنها الظروف الراهنة وحالة الحرب.لا أغالي إن الجو العام خفف من وقع مصيبتنا. ومثلما حدث موت أبي خلال الحرب مع إيران ماتت أمي في منتصف الحرب الثانية، والناس مشغولون بأمر آخر.ومن الطبيعي أن تهوِّن المصائب الكبيرة والكوارث من مصائبنا الصغيرة. مات رحمه الله.قتل مات.. في وفاة أبي راح الغجر يغنون لانتصارات جيشنا..الجميع مشغولون بالحرب والغناء، وفي موت أمي تزأر السماء، ولعلي شعرت بفراغ كبير لفراقها أكثر من غيري لم يهونه عليّ إلا ماكنت أعيشه وأحسه من أحداث كثيرة تدور حولي.

كنا نسمع عن اندحار الجيش وهزيمته من إلإذاعات العربية. هل يعقل أننا آخر من نعلم.سمعت في الليل من المذياع خبر احتلال الكويت ثم الساعة العاشرة انطلقت في الدائرة حيث أعمل زغرودة تبشر باستعادة المحافظة السابعة عشرة. القضاء السليب.حينذاك كنا سبعة ملايين. واحد وعشرون مليونا والله العظيم نأكلهم كما يقول شاعرنا الكبير:نأكلهم..نأكلهم سيدي الكويتون ياسيادة الرئيس ليسوا شجعانا مثلنا. دبابات فيها مكيفات تبريد وأدوات موسيقى. تلفونات. سرير نوم. رمان.. تفاح.. عنب قناني ماء.. أهذه دبابات أم أسواق متنقلة؟ أي حرب هذه. نأكلهم والله، أما هؤلاء الأمريكان فهم أجبن خلق الله.كل يوم يدَّعون البدء بالهجوم ولم يهجموا بعد..جبناء..جاؤوا يحمون لوطية مثلهم.لو كانت عند أبي جميل فراش دائرتنا ألف بنت وجاء كويتي يخطبها لما زوجّها. إنهم لايرتاحون إلا إذا مارسوا من الخلف.على طريقة أبي خالد.رقم خمسة الشهير الذي فلسف به كامل الرامي العالم..جبناء ولوطية.مرت أربعون يوما على عدوانهم الجوي ولم يأتوا، والرئيس بوش في اليوم الثالث لبدء الهجوم البري يعلن بيانه الشهير.لدى الجنود العراقيين مهلة لأن يتركوا أسلحتهم في مكانها ويرجعوا من حيث أتوا من الساعة الثامنة صباحا إلى الثامنة مساء. حصرونا في 12 ساعة، وحاصرونا في البصرة. الإذاعات كلها تعلن أن الجيش اندحر في جبهة البصرة والدبابات تذوب مثل الوسخ في الصابون وبلاغ بغداد يعترض. غربان العدو في السماء.مضاداتنا تطاردهم.جيشنا يتصدى. هل نكذب العالم كله.جيش حمورابي العظيم. قائد السبي البابلي.. حفيد القعقاع.. القادسية..أسد بابل..سعاد حسني..حضارتنا..كلّ شيء لدينا حشره الرئيس بوش في 12 ساعة فقط. إما أن ينسحب الجيش الرابع أو الخامس لاأدري أو يفنى عن بكرة أبيه!

كنا نتطلع إلى الضفة الأخرى والقلق يراودنا على الرغم من عزل التنومة عن العشار.وقتها كان الجيش ينصاع لبيان الرئيس بوش.ويبدو أنهم ظنوا الحرب نكتة كما فعلوا خلال ثماني سنوات مع إيران.هذه هي الحرب الحقيقية.الأمريكان في صفوان والجيش إما يباد أو يعود أدراجه داخل مدينة البصرة!

وقد جاءت البشائر من العشار!

بالضبط كما يقولون من ساحة سعد!

مفاجأة وليست مفاجأة..

هاهم الجنود يختارون طريق السلامة فمازالت هناك في الأذهان صورة الجندي العراقي في أول يوم للهجوم البري يركع على بسطال الجندي الأمريكي:

- عمي لاتقتلني!

على الرغم من الحزن فقد ضحكت. شبعت ضحكا.كيف يفهم الأمريكي عمي لاتقتلني!.. عمي... أين هو المترجم.زوج أختي يقول بسخرية:

- هل تذكرون التونسي الذي قبل حذاء أم كلثوم على المسرح!

فترد أختي الكبرى وهي تقطب حاجبيها:

- والله العظيم ذاك أشرف!

- على فكرة الشيء بالشيء يذكر والحذاء يجر الحذاء.

- على الأقل شخص معجب بالفن لاالقتل عمل ذلك عن قناعة ولا عن رغبة أوخوف!

وما بين اليوم الأول – يوم تقبيل الحذاء – واليوم الثالث انجلى الأمر.

الصور والتماثيل تتهاوى. والوجوه تكشف عن أقنعتها.صورة واحدة ظلت عالقة بالأذهان لجندي عراقي يهوي على حذاء جندي أمريكي. عمي الله يخيلك لاتقتلني! هذا هو تمثال الرئيس وتلك هي صورته.لم يكد الفجر يطل حتى غازلت ضفاف التنومة المعزولة عن العشار نداءات متباينة من مكبرات الصوت:

الله أكبر!

يا أهالي البصرة الله أكبر!

الطاغية سقط.

بشرى الطاغية يسقط!

لم يعد هناك طيران في الجو. ولاأي صخب كنا نسمع الأصوات الهابة من العشار نقية صافية لاشك فيها. شيء ما.. أمر أبعد من أن يصدق . حدث غير عادي. تاريخ يسجل نفسه من جديد، وجميع أهل شط العرب ينصتون إلى مكبرات العشار:

إنها الثورة!العراق كله يلتهب! اسمعوا..لا تخافوا..

الحكومة فقدت سيطرتها !المحافظات كلها تلتهب.تعلن العصيان.. لانريدحاكما يجرنا إلى هزائم!

دولة من دون جيش!بل هو الجيش الذي عادمنكسرا من الكويت رجع يزحف على بغداد..لا تخافوا!أية دولة هذه!لا وسائل اتصال سوى مكبرات الصوت من المساجد والحسينيات وفوق البيوت تعلن التمرد والعصيان..

زعقت كمجنون:

إنها انتفاضة!! انتفاضة

 

د. قصي الشيخ عسكر

......................

فصل من رواية: ربيع التنومة

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم