صحيفة المثقف

امرأة الثلج

فتحي مهذبكلما تساقطت الثلوج سارع الأرمل الى جمع قوالب ذات نتواءت وأشكال بدائية ثم يشرع في نحت تمثال على هيأة زوجته الراحلة..

يتفنن في تشذيب ملامح وجهها كما لو أن روح فان غوغ قد حلت داخل جسده المنذور للفجيعة والنسيان.. ينظر اليها نظرة الأرض المتشوفة الى ساعي بريد المطر بعد جفوة عميقة وفي قلبه تشتعل جمره النوستالجيا..

يصعد سلم الهذيان الخشبي بمخيلة جريحة وقدمين يسوعيتين نالت منهما الكدمات والتشققات يسر اليها بايقاع قس في مأتم ملكي ساردا لها ما اعتوره من نيازك يتم وزلازل فقد وشدائد

لا يتحملها آدمي..

في تلك السنوات العجاف ..

سنوات سبع تبدو كزمرة من السعادين الراقصة على حبل المتناقضات..

أطفالك صعدوا مثل شلال من الكلمات المنكسرة الى عتمة الهامش..

قبعتك السوداء المعلقة على مشجب مكسو بطبقة شفيفة من الغبار..

صارت ملجأ آمنا لعصابة من العناكب المفترسة..

معطفك الجلدي الفخم استحال تابوتا ترقد داخله جثة عيد ميلادك الأخير..

جزمتك المائلة الى دكنة خفيفة استولت عليه جنية شقراء غالبا ما يصدر طقطقة تشبه ايقاع راقصة الباليه..

النوافذ تتدلى ستائرها المتهدلة مثل ألسنة شياطين نافقة..

سريرك الخشبي الضرير ينثر عواءه

الليلي تحت الوسادة المتكهربة..

الخزانة مثل فقمة تبادلني تهمة الفراغ الهائل..

الباب تطرطق مفاصله مثل صندوق الموتي على عربة في منحدر عدمي.

ظل الأرمل يطارد غزالة مخيلته المذعورة بأصابع مصطفقة ماسحا

دموع زوجته المتبجسة من عينيها الثلجيتين محاولة السير على قدميها الشفافتين ولكن لم تفلح..

عبثا تحاول أن ترسم ابتسامة حلوة على شفتيها الناعمتين الباردتين اللتين تعجان بالتخاريم

وعلائم العجز الوجودي..

تفر قطعان الغيوم كأطفال يترسمون خطى قوس قزح في مرتفعات الفرح الطفولي البكر..

تندلع جمرات شديدة الحمرة من مدفأة الشمس..

تشرع امرأة الثلج -منحوتة الأرمل

المقدودة من قوالب الثلج على ضوء مخيلة أسيانة هشة- في الذوبان ..

تتحول بدراماتيكية موجعة الى بركة دموع صغيرة مندفعة باتجاه مجرى الماء الوسيع..

بدت تطفو صورة زوجته الفقيدة

على سطح المحسوسات الغائمة آخذة في الذبول الفيزيقي والاندياح التدريجي ..

منتقلة من أسيقة الوجود بالفعل الى مرتبة الوجود بالقوة ..

ها هي تتحول الى وهم يعشش في عمائق مخيلته الجريحة والمثقلة بالكوابيس والأهوال..

طفق الأرمل ينكمش مثل دودة القز في شرنقة اللامعقول منتظرا

مجيئ قطار مزدحم بقطع الثلج القطبية ليصنع قافلة من النساء الجميلات .. لملء فراغات عزلته اليومية الفظيعة بحضورهن وجمالهن الباذخ .

 

فتحي مهذب

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم