صحيفة المثقف

ربيع التنومة: الرعب

قصي الشيخ عسكرالانتفاضة اندحرت.فأين المفر؟

انتهى الحلم الجميل!

وماهو إلا سواد الليل والجيش على الابواب!

في هذه الاثناء احتشدت سيارات قادمة من جهة الشرق، وجاء من يسحب الدروع والشاحنات الجاثمة.كلّ ما هوجاثم على الأرض يمكن أن يتحرك باتجاه الحدود.قبل حلول الظلام بقليل عرض علي بعض الشباب وعوائل محلتنا اللجوء معهم إلى إيران!

الهرب بعيدا خلف الحدود إلى حيث الأمان..

عشرات العوائل ممن شاركت في العنف أو لم تشارك استعدت للرحيل.

الفيلسوف المجنون الذي يدعي أنّه عاقل خوفا من الحسد ذهب هذه المرة بإرادته إلى الحدود الشرقية!

طاعون جارف يربض أمام الضفة الشرقية بين الساحل ولجنة التمور وتمثال السياب..مثلما احتشدت الصور من قبل راحت الدبابات تتكاثر..آليات تهرب من التنومة وأخرى تجتاز الشطّ إليها..حشود قادمة من عمق العشار..الليلة أو غدا ينطُّ غول من أعماق الظلام فيقضم بأنيابه الحادة كلّ مايجده في طريقه.ليلة من الرعب والكوابيس والموت المنتظر. نحن أمام عرض مغرٍ.هل نختار الموت.وهؤلاء الرفاق المختفون ماذا يفعلون بعائلتنا حين يخرجون من جحورهم.كم منهم بقي حَيّا. بعد مصرع ابن المزروع أثبتت التنومة أنها لاترحم نخيلها وماءها أو أيا من أبنائها .العين بالعين والسن بالسن والباديء أظلم.صحيح أن عائلتنا أعلنت من الجامع أول شرارة للتمرد لكننا لم نقتل أحدا فأين نذهب ومالنا وإيران.من يعرفنا هناك، وكيف نعيش :

لمست ليونة عند صهري وأختي أما أختي الكبرى فقد حسمت الأمر بقولها:

لاأبدا لن نغادر!

جاء قرارها مفاجئا للجميع. هل اختارت الموت؟أعرفها عنيدة.صعب علي حقا أن أكسر كلامها فهي الآن بمثابة أمٍّ لي.حكمت على نفسي بالموت أمامها، فقلت:

الرأي رأيك!

وإذ سمع صهري جوابي التفت إلى زوجته:

أنا أسألها أتحب أن تبقى؟

فردت بإصرار ممزوج بالخوف والقلق والرعب:

لنبق هنا!

أين ذهب بقية الرجال؟هل حقا فرت معظم العوائل إلى إيران؟ ومن نحن حتى نقف بوجه تيار جارف من الموت والجنون.الجميع غادر من شارك في الانتفاضة ومن وقف متفرجا.مكبرات صوت صاحت : أيها الناس فروا من الطاعون.في الجو طائرات الهيليكوبتر، وعند الضفة شرق النهر دبابات تتأهب للانقضاض.الحابل يختلط بالنابل.أناس تستغل وجود شاحنات الجيش المركونة في البساتين فتنطلق بها نحو الشرق.لايمكن أن يصدق أحد أن المشهد يمكن أن ينقلب إلى فاجعة كبرى تجتث الناس من مدينتهم وهناك عوائل مثلنا تغامر وتبقى في مكانها بانتظار الموت أو الحياة.

مغامرة محفوفة بالخطر إن بقينا.

ومغامرة حين نرحل!

وأنا مخير بين الموت أو الفرار، مالم يكن مألوفا من قبل أصبح مقبولا، فيستفزني صوت أختي الكبرى:

أنتم أحرار إذا أردتم الذهاب أما أنا فسأبقى هنا!

هذا قراركم الأخير؟

اندفع صهري:

أنا أظل مع مثنى وأمه، إما إذا أردت أنت الرحيل فلا أحد يعترضك!

استسلمت أخيرا:

إذاً سنبقى الخير فيما اختاره الله!

لم ننم تلك الليلة.أول ردة فعل قمت بها أني حلقت على ضوء الفانوس ذقني الطويلة.كذلك فعل صبيح.كنت أحاول أن أبعد أية شبهة عني، وربما بدا صهري خلال فترة الانتفاضة أكثر حكمة مني. جمع ما معنامن بنادق وخطرت له فكرة التخلص منها في البالوعة، ولم يكثر التجوال في الأزقة والطرقات مثلما كنت أفعل.

وما أن انبلج الفجر حتى حلت الكارثة....

مشهد أبعد من أن تدركه حدود العقل..أين كانت طائرات الهليكوبتر.من أين حلّقت؟. أسراب تسد نافذة الفضاءكالنمل..أية طائرة فاتكة هذه.. يعاسيب كبيرة تحدق بنا من السماء..مضى زمن الطفولة أيام كنا نطارد اليعاسيب الشبيهة بطائرات الموت..تبعناها في الحقول والبساتين. للهو فقط أو نصطادها غرض أن نجعلها طعما للسمك.حشرات حديد تراقب الأرض، ولم يعد ترنتي يركب حصانه وينفذ حكم الموت من مسدسه بالهنود الحمر وهو يصرخ:

Kiss Kiss

وليس هناك من طفل شرس مثل باسم سلام يمسك اليعسوب فيضع في مؤخرته قشة طويلة ثم يطلقه متلذذا بمراقبته وهو يواصل الطيران :

حرام ياولد حرام

إذا رأيتك تفعل ذلك مرة أخرى كسرت رأسك!

لكن الهيليكوبتر لاتعرف الحرام.كانت تقف في الهواء على مؤخراتها أو رؤوسها ولا تكف عن الهدير..وهذه الدبابات والمدرعات التي تحاصر المدينة وتتجول في شوارعها.الموت يصل مع الصباح بأشكال مختلفة.بعض الثائرين رفضوا الهرب إلى إيران أو الاستسلام فدخلوا المعركة خاسرين والنتيجة بقيت جثثهم ملقاة في الشوارع والحارات الضيقة.التنومة قبر كئيب فيه الأحياء والأموات.منطقة حرب.طائرات..مدرعات..قادة عسكريون، ولما تزل ملصقة على الجدران صور الصدر والخميني والخوئي.تلك المدينة حفرت قبرها بيديها فهناك ألف شاهد وشاهد على إدانتها.الغوغاء.الهمج الرعاع..الفوضويون.راحت فصائل الجيش تقتحم البيوت بيتا بيتا..يوقفون النساء والشباب ثم يتوجهون بنا نحو مقر الفرقة الحزبية. إعدام...لانشك في النهاية المحتومة..ألم يكن الأجدر بنا أن نهرب إلى إيران.ربما تحاشيت النظر في عيني أختي الكبرى. تكدسنا أمام مقر الفرقة الحزبية، فأدركت - على الرغم من كثرتنا – أن معظم العوائل هربت وأن التنومة الآن في هذه اللحظة بالذات – لحظة المواجهة- أصبحت خاوية من أحشائها. تقدم ضابط صارم الملامح حاد النظرات نحو صهري وصرخ:

أنت من الغوغاء قف هنا!

سيدي أنا كنت في الجيش أقاتل إيران ست سنوات!

اسكت غوغاء..إعدام كلكم إعدام!

كانت الفوضى تجثم بشكلها الغريب على المكان فترسم له ملامح متوحشة مخيفة: مئات الجنود يحيطون بعوائل مرعوبة.صبيان يصرخون.مرضعات يدعين أن أطفالهن جوعى.نحيب عجائز..اختلطت الشرطة بالجيش والقوات الخاصة مع المخابرات ولعلني لمحت عائلة المزروع تقف مع العائلة التي حمتها وتنفست الصعداء حين نادى مناد من المقر على الضابط الشرس فدلف إلى الداخل عندئذ اغتنم صهري فرصة غياب الضابط فتحرك من مكانه واندس بين النساء والأطفال ثم متسللا بعد لحظات إلى مجموعتنا.

أكثر من ثلاث ساعات لاكلام..لاأوامر... لانعلم ماذا نفعل سوى صراخ الأطفال من الخوف أو الجوع ورجاء نسوة ذهب عبثا ونحيب عجائز سيق بهن قسرا إلى المكان.إن كنا نحن مجرمين فما ذنب هؤلاء النسوة والعجائز.. قد تكون إحداهن أم أحد الحزبيين العائدين من أوكارهم لكن الشجاعة لاتواتي أحدا منهم في أن يرجو القادة العسكريين الذين أصبح مصيرنا بأيديهم وحدهم بعد إعلان حالة الطواريء ..

الموت أو النجاة..

وهناك حبل آخر للنجاة يجعلنا نتنفس الحياة من جديد خلال لحظة هربت من الزمن الساكن العنيف الذي ارتسم على وجوه الضابط والجنود، تلك الدقائق رحت أتمعن بوجه مثنى الصغير وهو يقبض علىثوب أمه ويلصق رأسه بجسدها، وكأننا مُنحنا لحظات أخرى للعيش.كانت حشود الجيش تتجه بنا إلى الدور مرة أخرى..الأمر العسكري ألزمنا بعدم المغادرة..حظر التجول..ابقوا في بيوتكم ولا يغادرنَّ أحد، ولعلني ابصرت كغيري جثة على الرصيف لأي إنسان ما فتغيب الجرأة عني أن أسأل من هو كي لاتلحقني شبهة التمرد فلا أدري أكان القتيل من بقايا المقاومة أم نفذ فيه حكم الإعدام خلال لَمِّ الحشد الباقي من العوائل بعد سقوط التنومة!

أطلقوا سراحنا في بيوتنا..

حالة تشف وتعذيب مثلما يتلذذ قط حين يترك الفأر طليقا بضع لحظات. كنا نسمع بين حين وآخر أصوات إطلاق نار فنشك أنها إعدامات مرتجلة أو نظنها مقاومة تقاتل حد اليأس بين بقايا النخيل والبساتين إلى آخر طلقة.

والجيش كذئب جريح مسعور.

بقينا ليلتنا الثانية مرعوبين، توقعت أن يداهمنا جنود أو عناصر مخابرات في أية لحظة. أعرض النوم عن عيني.كنا خائفين من أن نشعل أي مصباح زيتي فنتعرض لرصد طائرات الهيليكوبتر التي بقيت تحوم في سماء التنومة طوال الليل.وفي مايشبه الإغفاءة هوَّمت عليَّ صورة أبي.ركضت خلفه.صحت به أن ينتظر فأذهب معه.أعرض عن طلبي.رمى منشورات إليّ فالتقطت واحدا منها.لم تكن القراءة في بالي لحظتها إذ حاولت أن أجمع من الأوراق ماأستطيع حمله فعجزت.صحت به:

ألم تزجرونا حين كنا نضع العصي في أدبار اليعاسيب وهاهي تقف الآن في الهواء على أدبارها وتتطلع فينا بغضب.

لم يجبني عندئذ صرخت:

هات يدك سأجيء معك.

فالتفت إليَّ وقال دون أن يتوقف:

إرجع إلى أخواتك.

فصحوت وفي نفسي شيء من الرعب وبعض الانشراح.وفي تهويمة أخرى رأيت أمي بهالة وثياب بيضاء.عقبات كثيرة بيني وبينها.جبال غابات... أشجار... نخيل... وحوض سباحة ينبع من بيتنا القديم. كنت في حوض سباحة يصل إلى وسطي:

أين نحن ياأمي!

في نهر جاسم.

قريتنا الصغيرة انقطعت عني منذ بداية الحرب العراقية الإيرانية.شحب لونها..تلاشت وتناثرت..النهر المالح طمسته الدبابات والعجلات وانقلبت القرية في ساعات إلى صحراء واسعة تشخص فوقها جذوع النخل كأيَّةٍ من جنيات متوحشات:

هات يدك.هات يدك!

مدت يدها إلي انتشلتني من البركة وأفلتت يدها من يدي:

كلا إبق مع أخواتك!

آت معك.؟ أين أنت ذاهبة؟

إلى أبيك..

كان معي هنا قبل قليل!

كانت أمي تتحول إلى واحدة من حكايات كثيرة قصتها عليَّ.كان يا ما كان..الملك فلان..الأمير الفلاني..بنت السلطان..أبطال من دون أسماء. كلنا سوف نصبح ذات يوم في خبر كان مثلهم نكون قصصا تروى لمن جاء بعدنا.فهل جاءت من إحدى الحكايات؟وكيف عادت إليها ذاكرة افترستها الشيخوخة قبل الأوان.وجدتها تتذكّر كل القصص والحوادث.. في الصباح أوَّلت أختي حلمي . قالت والجدّ يلوح على محياها:

ستعيش مادام أبي أعطاك ولو أخذ منك شيئا لجاء ذلك بكارثة.

وعقبت أختي الصغرى بانشراح:

أمي وأبي جاءا يطمئنان علينا، فالموتى يقدِّمون البشارة حين يعطون والحزن حين يأخذون!

علق زوجها مؤكدا تأويل الحلم :

الموتى معنا الرحمة لهم والباقي على الله.

ثم عادت أختي للكلام:

ألف حمد لك يارب على عطائك!

فقلت ولما تزل آثار الحلمين تلوحان على وجهي:

لم أغف سوى تهويمة زارني فيها الموتى!!

قالت أختي الكبيرة:

كيف ننام وصوت البارود من حولنا وفرقعة السلاح والطيران!

التفت لابن أختي:

هل نمت؟

تجاهل جوابي فردّ أبوه:

كان في سابع حلم!

هل نطرد الموت بتأويل الأحلام وهذا الصبح يهبط علينا كالنسور العطشى للجثث، وربما نتحفظ في كلامنا أمام طفل قد يفلت لسانه بكلمة تصدر عنا فلا نفعل إلا التغامز بيننا:

لاأدري لم جاءت أمي إلى البحيرة أخرجتني منها وتركتني!

أختي الصغرى:

بحر دم نجاك الله منه ولم ترد أن تأخذك معها إلى عالم الموتى فتركتك وذهبت!

وماكادت تتم عبارتها حتى اهتزت بوابة البيت لركلات مسعورة. عادت الذئاب من جديد.ضابط يقف عند البوابة. مجموعة..أربعة جنود ورائد.تجمعنا في غرفة الضيافة.عبث الرائد بمكتبة أخي، وسألني بلهجة احتقار:

ماهذه الكتب؟

كتب فيزياء منذ سنوات الجامعة تعود لأخي الأستاذ في إحدى الجامعات الألمانية!

فبرم شفتيه متأملا:

لم شاركتم مع الغوغاء!

رجوته: لم نخرج قط.

أختي الكبرى: كنا خائفين.

بقي صهري ساكتا، وقالت أختي:

لايخرج في ذاك الظرف إلا مجنون!

وأنت؟أنت؟ " قالها موجها كلامه لصهري" أخوه؟

أنا صهره؟

ماذا تفعل؟

أنا أنهيت خدمة العلم في القادسية وأسكن معهم الآن حالما أجد عملا وبيتا.

إنه زوجي!

أسكتي أنت وإلا قطعت لسانك!

أصدر أوامره إلى الجنود:فتشوا البيت " والتفت إلينا ":

أي دليل يثبت تورطكم مع الغوغاء يمنحني الحق في أن أعدمكم!

بقينا في غرفة الضيوف مع أحد الجنود.راح يعبث بالمكتبة، ويتصفح بعض الأوراق. لمحت الضابط الواقف عند البوابة يلتفت بين الحين والآخر إلى الغرفة المطلة على الشارع الفرعي ثم يتطلع إلى الشارع العام بعد لحظات عاد الجنود وفي يد أحدهم حزمة من ظروف فارغة لرشاشة كلاشنكوف. قال الجندي بلهجة غريبة:

سيدي هذا دليل على أن العائلة مع الغوغاء!

في هذه اللحظة انطلقت أختي الصغرى متحمسة مثل لبوة جريحة ترد الوحوش عن صغارها:

أهذا عقلكهوالذي دلّك مثل هذا؟ الدولة حملتك مسؤولية أرواح ناس.

فقال الرائد مقاطعا:

وماهذه الظروف الفارغة ؟إليست دليلا؟

هذا الطفل جمعها ليلعب بها.طفل محروم من الألعاب بسبب الحصار.يا أخي أنت صاحب أطفال الله يستر عائلتك.ماذا يفعل الطفل وليس لديه لعبة؟ رأى ظروف إطلاقات فارغة من أيام القادسية وقد تكون من مخلفات الجيش الشعبي فجمعها يلعب بها!

هز الضابط رأسه شبه مقتنع عندئذٍ تنفست الصعداء. كدنا نذهب في داهية سوداء بسبب سهو صهري الذي أطلق النار من على السطح، وحمدت الله على أن أختي اندفعت تحمي العائلة بحجتها الدامغة..نحن أمام محاكمات عسكرية فورية من صلاحيات الضابط فيها أن يحكم بالإعدام من غير أن يُسأل عما فعل.كانت هناك في بعض الأزقة والشارع العام جثثت جديدة غير التي رأيتها البارحة لشباب حاولوا التسلل إلى العشار.إنه الموت بعينه. لم أنتبه إلى قدوم الضابط الذي كان يرابط عند البوابة.دخل غرفة الضيافة وأدى التحية العسكرية.ويبدو أن الرائد اختصر عذابا كان يمكن أن يمتد ساعات وساعات:

التنومة منطقة عسكرية، لاأحد يدخلها إلا بعد رفع الحظر لديكم اربع وعشرون ساعة تنتهي مساء الغد أي كائن مهما كان طفل... عجوز .. رجل ... امرأة..يعدم من غير سؤال!

وعض على شفتيه مؤكدا:

سوف يعدم مهما كان!

يومان فقط! ومن حسن الحظ أن أختي ابتاعت بيتا في الحي الجامعي بباب الزبير.لما يكتمل بعد لكنه كان يكفينا ولاأظن أن إقامتنا فيه سوف تكون مؤقتة بل أدركنا نحن الثلاثة أن لنا بيتا في التنومة لاتشدنا إليه سوى ذكريات تثير الشجون والمرارة ولا نستبعد أن يأتي يوم نبيعه فيه فلا نقدم إلى شط العرب إلا خلال المناسبات!

سنكون ضيوفا على حارتنا لبضع ساعات!

نحضر فقط مهنئين بعرس أو معزين بوفاة..

هكذا تختصر التنومة بمناسبتين بعد كل تلك السنين الطويلة والمعاناة..

زغرودة وصرخة.. وليس ببينهما أوبعدهماإلا فراغ هائل يبتلع الناس.

ذلك اليوم نصحتنا أختي الكبيرة أن نغادر جميعا فتبقى هي في البيت تبحث عن شاحنة تنقل الأثاث عبر جسر المعقل إلى منطقة حي الجامعة.

هل نتركك وحدك؟

قد تعدمان إذا بقيتما؟

هل أبقى معك؟

سألت أختي الصغرى.

لا طفلك أحق بك!

امتعضت قليلا فها هي أمامها أكداس من الأثاث والمستلزمات والكتب كنت أقول لأمي وأختيّ أن هذه الكتب تجاوزها الزمن..يمكن أن نتخلص منها..لكن والدتي ظنت أنها تفيد أخي حين يعود وازدادت يقينا أنها تنفعه حين أوغلت ذاكرتها في عالم النسيان لكن بقاءنا نحن – الرجال- يثير الفضول والنقمة على البيت.لورجعت فلول المخابرات والأمن والبعثيين الفارين لزاد الأمر سوءا..لنغادر بأي أسوب كان.الوصول إلى الضفة الأخرى لم يك سهلا.الجسر العسكري الجاثم بين التنومة والعشار خُصِصَ للجيش، وكم حاولت أختي أن تتخذ من الصغير حجة فتجعل قلوب الحراس تلين ليسمحوا للنساء بالمرور وفعلت مثلها نسوة أخريات.كان علينا أن ننتظر ساعات وساعات على الساحل.لا أكثر من ثلاثة زوارق تنقل أهالي التنومة إلى العشار.وبين حين وآخر نسمع صوت إطلاق نار، فندرك أن هناك بعض جيوبٍ للمقاومة مازالت تكمن في الأحراج وبساتين النخيل.مشاهد مرعبة لايتخيلها إلا من عايشها، وقبل أن نستقل إحدى الزوارق بدقائق شاهدنا سيارة جيب تتوقف عند الجسر فيترجل منها جندي ويقول لصاحبه المرابط عند الجسر بصوت عال:

طاردناهم..الكلاب..قتلناهم قبل أن يفرّوا خارج الحدود!

كم كانوا!

خمسة عشر من عملاء إيران!

ربما لم يكن الخبر صحيحا.قد ينوي إشاعة الرعب في نفوسنا.أطلقت إحدى النساء زغرودة، وصاحت:

الله ينصركم!

نفاق أم هزيمة أم ضعف؟التنومة في تلك اللحظة – لحظة الهجرة- تآكلت.التهمت نفسها. رأيت فقط الفيلسوف.وصاحب الشاحنة وبعضا ممن أتذكر أو ممن لاأعرف أسماءهم .كان كامل الرامي، مع الغائبين، ولعله يحاجج الضابط أو إذا اضطر يعود إلى سكره.أما الخوف نفسه والقرف فقد جعلاني لا آبه لشوارع قطعتها سيارة الأجرة..أيّ شارع ياترى انطلق منه صوت جعلني أهب هائجا إلى الجامع.. مقام الأمير.. الكورنيش.. تمثال السياب..من اي مكان جاء ت تلك الأصوات. لم ينج منها شارع الوطن ولا ساحلا شط البصرة أو دوار المحافظة.. لزمنا جميعا الصمت.السائق بدا أشبه بتمثال خلف المحرك..تخذت مكاني جنبه، وزاغ بصري عن مشاهد فارقتها الحياة..آثار رصاص على بعض الحيطان وخراب لا يدرك أحد أهو من ضربات التحالف أم حرب الشوارع، ..بدت المدينة التي انقطعت عنها خلال ايام المحنة الأربعين جثّة مشوهة تفوح منها رائحة كريهة، وينشق عن بطنها دود يتلوّىويحط على وجه معفّر بالدم كدس من الذباب المسعور، وربما انتشلني توقف السيارة عند حاجز ما فارى جنودا يحدقون بنا ..كلما قابلنا حاجز، اجتاحتنا هواجس..فيخيّل إلينا أن الرحلة تطول وقد لا تنتهي بيوم أو يومين.ومن حسن الحظ أن الحظ أن حراس الحواجز الجنود لم يبالغوا في تفتيش العابرين النازحين إلى المدينة، فوق ذلك كانت رجلي تشفع لي فلا أحد يصدق أن ذ العاهة يحمل ذات يوم بندقية لا يعرف كيف يصوبها.

وصلنا متعبين إلى منزلنا في الحي الجامعي، استفدنا من بعض الأثاث البسيط الذي جلبناه معنا.كان الخوف ينسينا التعب والإرهاق، وبدا الصغير مثنى عازفا عن الكلام كحاب كداويد، وأبوه يقول لي لا تعلمه الكلام البذيء غير أنه مازال هادئا منذ أن حشرنا الضباط أمام مقر الفرقة، لا تثيره كلمات محظورة لا يفقه معناها..علامات الرضا تلاشت من وجهه..فلزم الصمت ثم غط في سبات عميق.

لم يكن البيت مكتملا.غرفتان ومشتمل واسع ينقصه الأثاث..المكان بارد في الليل ..مازلنا في الربيع ..صحراء الزبير والرمل ينثان صقيعا يكاد يكون أقرب إلى لسع الدبابير.وقتها لم تكن المنطقة اكتظت بالبيوت بعد.. لاحت مفتوحة لبرد الليل النازل على العظام كالسكاكين.وتطلعت من النافذة باتجاه الحديقة الأمامية فتراءتت لي حية تدب من جهة البوابة وتخيلت أني رأيت عقربا أسفل الجدار يرفع زبانته.ليل عقارب وأفاع.أرض رمل وجدت فيها الزواحف والحشرات مأواها.أخفيت الأمر عن أختي. بيت شبه مهجور لم يكتمل وسوف تزيد معاناتنا إلى أن نبيع بيتنا في التنومة فنتمكن من أتمام بنائه. كنا نجد صعوبة في الحصول على ماء الشرب وليس لدينا سوى حفنة من الرز وخبز جلبناه معنا.وكانت أختي تجمع الحطب للطبخ. كل شيء معطل. لاماء.. لاكهرباء، ونحن خائفون أن نخرج في الحارة لكي لانثير الشبهات.كانت البصرة هادئة والجيش يحكم قبضته على الحارات والأزقة وظلت الطائرات السمتية تحوم في السماء.لم نعد نسمع أي صوت لإطلاق النار كما اعتدنا عليه في التنومة. الجنود هادؤون بوجوه مألوفة وقسمات ليست فظة حتى فكرت أن أطلب من طاقم مدرعة ترابط في مدخل شارعنا بعض الخبز أو الماء إذا ما أعيتني الحيلة.والحق لم نكن لنخاف من الجيش قدر خشيتنا من المخابرات والجيش الشعبي والأمن.عصر ذلك اليوم وصلت أختي بشاحنة يقودها رجل في الستين من عمره. كان معها بعض الأثاث.حقا تنفسنا الصعداء إذ رأيناها أمامنا دون أن يأخذ منها التعب والإرهاق.أنا نفسي عجبت كيف حلت بجسدها قوة هائلة فتمكنت بمساعدة ذلك الشيخ السائق من حمل أثاث ثقيل. مكتبة أخي سرير نوم فراش. بعض الماء. رز..سكر.. اباريق ..أقداح... أكثر من نصف الأثاث.. وحالما انتهينا من تفريغ الشاحنة عادت من جديد وهي تؤكد أنها سترجع قبل المساء مع بقية الأثاث. كانت ترد على أم مثنى التي اندفعت لترافقها هذه المرة تاركة ابنها معنا فتؤكد أنها تستطيع أن تفعل وحدها مالا يقدر عليه الكثير من الرجال!

لم تكن مهمة الانتقال بالهينة قط. عشرات الحواجز في الطريق توقف الشاحنة. حواجز جيش في التنومة.جسر المعقل.. العشار.. طريق الجمهورية...كل لحظة يمثل فيها الموت بشكل ما. كان على أختي أن تصل بالوجبة الثانية قبل حلول الظلام وحظر التجول. أكثر ماواجهناه من إزعاج ولولة أختي الصغرى ولومها لنا.هل نحن رجال؟ وصرخت بهستيرية:

إن لم تعد أختي تركت مثنى عندكم وخرجت!

فاندفعت لزجرها:

أسْكِت زوجتك وإلا كتمت أنفاسها!

فقال بأعصاب هادئة:

أين تخرجين وحواجز الجيش تملأ الطرقات وحظر التجول ساري المفعول في الليل.قد يطلقون عليك النار!

فعدت أطمئنها كأني متأكد من صحة ادعائي:

أختك ذكية أظنها أدركت أن الوقت ضايقها فقررت أن تبيت في التنومة هذه الليلة ثم تعود غدا مع الأثاث!

لم تنقطع عن العويل أو اللوم.كانت قلقة من حدوث مكروه فلذت أخيرا بالسكوت والتجاهل.زادني راحة أن حواجز التفتيش الكثيرة تتبع للجيش ودور المخابرات لما يأت بعد.حقا كان بعض الجنود يتحدثون لهجات غريبة عن لهجة الجنوب غير أنهم لايبدون أي انتقام.ولايضمرون شرا للمدنيين. كيف لنا أن نعرف أن أختي الكبرى وصلت التنومة وقت العصر، وخاف سائق الشاحنة من الحواجز فاقترح عليها أن يذهب إلى بيته على أن يعود إليها في اليوم.كان عند وعده فبعد الظهر حضرت الشاحنة ومعها بقية الاثاث..

أخيرا تنفسنا الصعداء...

كمن ولد من جديد!

أختي وصلت سالمة مع أثاث البيت!!

إنها لحظات الخيبة واليأس تأتي دائما متأخرة فتدفعنا لأن نسأل أنفسنا سؤالا أقرب إلى الإدانة:

لِمَ جرى كل ذلك؟

إذا كانت التنومة واجهت القدر مرغمة في حرب الخليج الأولى فلم فعلنا ذلك؟

لأية غاية خرجنا؟

أنا ذهبت إلى المسجد..ولولم يكن المسجد مجاورا لبيتنا لما خرجت..ولعل شخصا آخر غيري يفعل ذلك فيذيع نداء شبيها بندائي.يجعل لواء مشاة يترك موقعه، ويحفز مجموعة على أن تداهم مركز الشرطة، وفريقا يقتحم دائرة السجل المدنيّ رابعا..وجماعة تدخل مقر الفرقة الحزبية وحشودا تطارد بعثيين قتلة.كنت أرى في نفسي رجل التنومة الحق.ولاأغالي حين أعمم شعوري على الآخرين فلا أخص بذلك نفسي وحدي فكل واحد منا نحن الذين انتفضنا وجد في نفسه الرجل الأول ورجل التنومة المنقذ.في لحظة الغشاوة تلك غاب عن أعيننا أن نرسم صورة للمستقبل.جل تفكيرنا أن الطاغية انتهى، وحزب البعث مات، شرب السم على الحدود مع إيران وانتحر في الكويت!

أصبح فأرا داخل مصيدة..

في حين أن العقلاء والمجانين يدركون أنها معركة للملاكمة بين عملاق قوي ضخم ورجل أعمى. شخص لايدري أين يقف ولايعلم أن هناك طائرات تترصده ودبابات تركها سوف يأتي إليها جيش منهزم يوجهها صوبه!

هل غاب عن ذهني أن الرئيس بوش ومارغريت تاتشر وشوارسكوف وجميع قادة الغرب كانوا يخدعوننا؟

المهم ألا يقع العراق فريسة لإيران بأي ثمن كان!

كل شيء محتمل لكني آخر المطاف رحلت عن التنومة خائفا أتوقع أن يلقى القبض علي في أية ساعة..ثم..أكل هؤلاء الذين انتفضوا هربوا؟ هل يعترف أحدهم؟ أية لحظة يمكن أن يشهد بعثي هارب نجا من الموت أنك كنت مع الغوغاء فينفذ فيك حكم الإعدام وسط الشارع.الجيش عاد وهم لايعرفوننا والحزبيون مازالوا يتقاطرون من أوكارهم، والغرباء الذين جاؤوا وغادروا، ومن دونوا أسماء بحجة توزيع المعونات ألم يكن من بينهم عملاء.كنا نلتفت إلى أنفسنا خوفا من موت محدق بنا.فيما بعد التفتنا إلى العالم فأدركنا أن اللعنة ظلت تلاحقنا، فاقترفت جرائم نحن براء منها. رأينا مجرما اعترف أنه اغتصب إحدى الفتيات.وكان هناك الكيمياوي يقيد شبابا منهكين فيهوى عليهم ركلا وجلدا.غرائب جرت في أثناء هياجنا لم تكن لنا فيها يد.من اغتصب النساء؟ من لصق الصور على الحيطان؟من سرق البيوت ونهب الدوائر؟ حين ينتهي الجيش من مهمته سوف تفتح ملفات وتستدعى أسماء وتُتَّهم شخصيات فتباشر الفرق عملها وتستفيق المخابرات من غشيتها.كل شيء محتمل. لقد ابتعدنا خطوة عن الموت القريب منا أو لأكن دقيقا فأقول إن الموت نفسه ابتعد عنا.تجاهلنا بعض الوقت ولم يغفل عنا فنحن أنفسنا اخترنا أن نقرع بابه ذات يوم بجنون غير عالمين بما يحمله لنا القدر من مفاجآت والحق إننا كنا مثل مشاهدي فلم سينمائي يصفقون جميعهم عن غير وعي في وقت واحد ويكفون عن التصفيق خلال لحظة واحدة.

هكذا انتفضنا ثم انتهينا..

لكن كيف تكون التنومة في ليلتها التالية فها نحن نفارقها ونعيش في محلة جديدة لنفرض أننا لم نكن نملك بيتا؟ أين المصير في بيت مؤجر أم ننصب خيمة؟ نكون لاجئين في وطننا.قد أشعر بالغربة لكني مادمت في حي الجامعة أحس أني قريب من شط العرب.سوف تكبر هذه البيوتات وتصبح ذات يوم محلة عامرة بشوارعها ومدارسها ودكاكينها وأسواقها فنجد جيرانا جددا نحبهم ونتآلف معهم كما تآلفنا وأحببنا جيراننا في التنومة والأقرب إلينا أستاذي في المدرسة الابتدائيةكامل الرامي الذي صحا ولا أحد يصدق ذلك عنه.لم يبق لنا أي شيء هناك سوى ذكريات حلوة ومرة... ذكريات سوف أجدها هينة جدا إذا ماقورنت بما تحمله الأيام القادمة من محن ونكبات!

The end of part one

 

د. قصي الشيخ عسكر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم