صحيفة المثقف

الأسرة المفككة والمجتمع

سارة طالب السهيلالأنانية وغلبة مزاجية الطاووس على النفس البشرية تدمر أسمى ما في العلاقات الإنسانية من وشائج وميثاق غليظ خاصة في العلاقات الزوجية التي تنهار بفعل انانية أحد طرفي معادلتها وشراكتها وانتصارأ لهوى النفس ورغبتها في ان تكون لها الغلبة والسيطرة على حساب سلامة الأسرة وأمنها الاجتماعي والنفسي والنتيجة الحتمية هي التفكك الاسري.

ان زماننا المعاصر يشهد ارتفاعا غير مسبوق في نسب الطلاق - الغير مبرر- في الدول العربية وما يستتبعه من كوارث التفكك الاسري وتدمير الصغار او تشردهم. نسبة ٧٠٪ طلاق تستدعي التساؤل عن الأسباب هل اصبح ٧٠٪ من الناس سيئين ولا يُطاق العيش معهم ام اصبح ٧٠٪ من الناس قليلي الصبر والتحمل سريعي الانفعال واتخاذ القرارات، ام ان طرق الزواج واختيار الشريكين لبعضهم البعض اختلف عما قبل عندما كان الاختيار مبني على الود والرحمه والتفاهم، بينما حاليا يتم الاختيار وفقا لمصالح مشتركة ومعايير مادية واحيانا تعصب وعنصرية تفرض الزواج من الاقارب او جنسية معينه حتى لو لم يتم التفاهم والتواد والتوافق بين الزوجين

كل ما ذكرت من اسباب أدت للطلاق هي بالأساس باب من أبواب التفكك الاسري لدي قناعة بأنه ليس بالضرورة المسئولية تقع على الرجل -كما تدعي بعض النساء- فهناك ايضا سيدات صعبات المراس كئيبات المزاج، غير لطيفات المعشر يعشقن النكد والتسلط والشك ويمارسن هواياتهم بالقال والقيل ويظلمن الزوج واهله فيصبح الطلاق هنا حل مشروع للفرار، بعد محاولات إيجاد حلول وتواصل وتفاهم باءت بالفشل .

وأرى انه كما الطلاق سيء، فان الحياة مع هكذا نماذج اسوء، لان الأضرار بالنفس وتعذيبها حرام والحياة لا تقف عند غلطة يمكن تصحيحها، فأنا ضد الطلاق لاسباب ليست جوهرية، وضد الاستمرار في الحياة الزوجية رغم عمق المشاكل، فالزواج يجب ان يقوم على روابط قوية من ضمنها السعادة والعيش بكرامة .

ان المجتمعات العربية في الأزمنة السابقة، تمسكت بالمؤسسة الزوجية حفاظا على سلامة الاسرة والمجتمع ككل من التشظي والانقسام، وان كانت هذه المحافظة تحققت على حساب حقوق المرأة وحريتها وكرامتها وعزتها، وعندما نالت المرأة في العصر الحديث حظا اكبر من التعلم واكتسبت المزيد من خبرات الحياة وفهم معطيات وتحديات حاضرها، فانها لم تعد قادرة على تحمل ما كانت تتحمله اسلافها في الماضي من صبر على انانية الزوج واهتمامه بنفسه على حساب مسئوليات أسرته.

كما ان بعض الرجال مازالوا عند محطات اسلافه القدامى لم يغادروها متصورين ان كل ما يفعله من باب ان الذكر يحق له كل شيء سيكون كما كان بالسابق مقبولا بالاكراه لدى بعض النساء اللواتي لم يحظين بفرص التعليم والوظيفه والاعتماد على النفس او على الأقل الاعتماد على أسرة تحترم كرامة المراة وتستقبل بناتها عند اللزوم.

والخلاصة انه في حالات عدم تفاهم الازواج وتوافقهم فان طرفي المعادلة داخل المؤسسة الزوجية لا ينظر الا لهواه الشخصي وحقوقه ومكتسباته الشخصية بمعزل عن حقوق الطرف الاخر وايضاً الأبناء في حياة مستقرة آمنة تحت جناحي الأبوين او تفريق باحسان وبالتراضي بين الأطراف على طرق رعاية الصغار وتوفير رعاية كاملة لهم في بيت الام او بيت الجدات في بيئة حاضنة آمنة ومستقرة نسبيا تعوضهم فقدان مظلة الأبوين.

غير ان الأبناء ضحية انفصال الابوين في ألفيتنا الثالثة يعانون الأمرين لان مفهوم الجدة الحاضنة قد تقلص بشكل كبير، فقد تكون الجدة في محافظة بعيدة عن عمل الام او الاب، بينما الأم تتولى رعاية أبنائها في الوقت الذي هي فيه مشغولة بعملها في الخارج، او العكس عندما تؤول حضانة الصغار للأب فانه يكون مشغول بعمله كما لم يعتاد الرجل في مجتماعاتنا الاهتمام بالاطفال سواء عمدا او دون قصد، فالأطفال الضحايا حيث يفتقدون لحقوقهم في الحاجة للاحتضان والرعاية النفسية الكافية لتنشئتهم اجتماعيا بشكل سوي.

وقد يتعرض هؤلاء الصغار لصنوف عديدة من العنف الابوي او المجتمعي فيتحولون مع الوقت الى قنابل اجتماعية موقوتة تنفجر في وجه المجتمع بأسره في شكل سلوك اجرامي عنيف كنتيجة حتمية لما لاقوه من قسوة وتصدع اسري، خاصة عندما يحاول الأب الانتقام من الأم او العكس او يسعى احدهم لحرمان الاطفال من الام او الاب فتتحول حياة الصغار الى جحيم.

عوامل أخرى للتفكك

غير ان التفكك الاسري في زماننا المعاصر قد ساهم في انتشاره وتوسعه عوامل عديدة ومنها هجرة الاب للعمل خارج وطنه فيفقد الأبناء الإحساس بالأمان والاستقرار، ومنها انتشار الحروب في منطقتنا العربية وفقدان الأب بالموت خلال هذه الحروب او اثناء التهجير، ومنها انشغال الابوين اما بالعمل او الاصدقاء والتحرر بعيدا عن مؤسسة الاسرة الحاكم بضوابطها الاجتماعية، ناهيك عن انتشار الازمات المالية التي تهدم الكثير من الاسر نتيجة عدم التوصل لحلول عملية لها في ظل اختناق المنطقة اقتصاديا بفعل الحروب وعدم الاستقرار الاقتصادي.

ويلعب صراع الأدوار بين الابوين ولمن تكن له السطوة على المؤسسة الاسرية دورا كبيرا في تفشي ظاهرة التفكك الاسري، حيث يتنافس كلا الابوين على قيادة السفينه وما يولده ذلك من مشكلات تولد غضبا جما وعصبية وتوتر تؤثر سلبا على الأبناء، وهذا ما يدخل في نطاق التفكك الأسري المعنوي، حيث ينطبق على الأسر التي تعيش تحت سقف واحد، لكن أفرادها يعانون من غياب جسور التواصل فيما بينهم .

ولاشك أيضا ان ثورة تكنولوجيا الاتصال والعالم الافتراضي الذي صنعه لنا الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي قد جعلت الافراد داخل المؤسسة الاسرية بعيدون عن بعضهم نفسيا وروحيا في ظل انشغالهم لساعات طويلة ينسى كل واحد فيهم مسؤولياته وواجباته تجاه الاسرة.

آثار وخيمة

لاشك ان الجو العائلي المشحون بالتفكك الأسري سواء بالطلاق او التقصير او الهجرة او الخلافات الاسرية وغيرها تسبب في آثار اجتماعية ونفسية وخيمة على فلذات الاكباد الصغار الذين يتقلص شعورهم بالأمان والاستقرار داخل الأسرة والمجتمع معا، وقد يؤدي ذلك أيضا الى تراجع منظومة القيم الأخلاقية لديهم ليصبح أي سلوك اجرامي أمرا مشروعا من وجهة نظرهم.

كما يؤدي انعدام شعور هؤلاء الأطفال بالأمان الى اصابتهم باضطراب وقلق دائمين ونزوعهم للعنف والعدوان نتيجة غياب احد الأبوين، او المشاكل المتكرره بين الأبوين وقد يتحولون بسهولة الى أطفال شوارع، وهو ما أكدته الدراسات العلمية المتخصصة في هذا الشأن، حيث أثبتت هذه الدراسات وجود علاقة وثيقة بين تشرد الأطفال والتفكك الأسري، وأوضحت أن أغلب الأطفال الذين كان مصيرهم الشارع، كانوا في الأساس يعانون من التفكك الأُسري.

فالتفكك الأسري يصيب افرادها بالإحباط واليأس، مما يخلق لديهم شعور بالنقمة على المجتمع ويطلق مدافع انتقاده وسهام اللوم الجارح بحق المجتمع، بل ان الازمة تتطور لديهم بالتمرد على كل القيم الاجتماعية من حب ومودة واحترام وتعاون ومساعدة للآخرين .

الوعي والانقاذ

ان التفكك الاسري بمثابة خنجرا مسموما في قلب المجتمعات فهو سلاح فتاك لتدمير المجتمع التي تشكل الأسرة احدى نواتها الأساسية، ولذلك فان المجتمع لابد وان يعي خطورة هذا الخنجر المسموم ويسعى لاستخراجه وبحث سبل العلاج من امراضه.

وفي تصوري ان الوعي الثقافي والمجتمعي يشكل ركيزة أساسية لتجنب وقوع هذه الظاهرة المؤسفة، وهذا الوعي لابد وان يتشكل لدى الابوين قبل إتمام زفافهما وتكوينهما لعش الزوجية، فكلاهما لابد وان يتسلح بثقافة الاسرة المستقرة ومقومات نجاحها وبقائها وهذا في تقديري أيضا مرهون بتخلي اطراف المؤسسة الزوجية عن العناد والانانية والتشبه بإبليس في غواية النفس والانتصار لرغبتها الجامحة في السيطرة والقهر، وعليهم بالتخلي عن الانانية والتمسك بقيم الصبر واعلاء شأن الحوار والتفاهم من اجل الحفاظ على المؤسسة الأسرية.

واتصور اننا بحاجة لاعلاء قيمنا الروحية والدينية التي تنتصر لمؤسسة الاسرة وضرورة الحفاظ عليها من الانهيار من خلال تعلم فنون التعامل بالحسنى، والتغاضي عن عيوب الاخر وسعي الابوين بإخلاص لتقوية العلاقة بينهما بعيدا عن العنف، والتواصل مع الأبناء والحوار معهم واسباغ الحنان عليهم وحل مشاكلهم.

وتقع على المجتمع بمؤسساته التثقيفية والتعليمية والتربوية والإعلامية والدينية مسئوليات كبيرة في التوعية بأهمية الاسرة في حياتنا والحفاظ عليها حفاظا على العقد الاجتماعي الثمين حتي لا تنفرط حبات لآئلئه الثمينة هباء في الأرض.

وانني أدعو الاعلام بكل وسائطه ان يقوم بالدور الأكبر في مهمة تثقيف الأسرة والمجتمع عبر البرامج التربوية والاجتماعية والدينية، كما ان الاعلام مطالب بالقيام بدور فاعل لنشر الوعي بضرورة الترابط الأسري والتربية الصحيحة من خلال الدورات المجانية والبرامج التلفزيونية.

 

سارة السهيل

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم