صحيفة المثقف

السفر الثاني

قصي الشيخ عسكرالسجن.. حيث يلتبس الموت بالحياة

أنا عبد الله بن عبد الرحيم أمي تفيدة وأبي عبد المعطي.

نعم تغيرت الأسماء والصفات ويجب من الآن أن تبدّل كلّها إلى معانٍ أخرى.قد يبدو الأمر غريبا لأيِّ شخص يسمع حديثي.نحن في عصر المعقول واللامعقول.وماعليَّ إلا أن أسجل انطباعا جديدا حول اسمي خلال لحظات من دون أن أتململ فضلا عن أن أعترض.قبل أسبوع من هذا اليوم بالضبط كان أبي عبد الرحيم وأمي جميلة."بيبي ثميلة" كما ينطق اسمها الصغير مثنى،لقد حدثَ ذلكَ يومَ حضر أربعة غرباء إلى المحكمة حيث أعمل.كانت بيدي وثائق كثيرة وطلبات عديدة ومستمسكات يمكن أن أصحبها معي فأسافر إلى بغداد مساء اليوم ذاته.هي المرة الأولى التي تكلفني فيها الدائرة بمثل هذا العمل.أناس كثيرون طلبوا مني أن أضمَّ وثائقهم مع كتب الدائرة إلى بغداد حيث المحكمة المركزية هناك.

كنت رأيت بغداد من قبل حين صحبني أخي الأكبر ذات يوم لكنها هي المرة الأولى التي يكلفني بها مسؤولو العمل في السفر ومتابعة معاملات المراجعين فأحصل على أجور عمل إضافية وعلى بعض المكافآت من أصحاب الطلبات تنفعني في وقتٍ بدأ الحصار يكشر عن أنيابه فيه!

في اليوم السابع تغير كل شيء تماما.

لايهم أيَّ يوم قد يكون ثلاثاء أو أربعاء فمادام اسم أبي وأمي خاضعين للتغيير فربما لاتعنيني أسماء الأيام والشهور بعد.المهم أني بدأت أميل إلى الهدوء بعد ستة أيام من القلق والصراع،وحين عدت إلى عملي ظننت أن الأمر انتهى فلم أقتل أحدا ولم أتابع أحدا من الرفاق ومن الطبيعي أن يميل مزاجي بمرور الوقت إلى الهدوء شيئا فشيئا..رجلي العرجاء أبعدت الشبهات عنّي حتى جاءني الآذن وأسر إليَّ همسا أن هناك أشخاصا ينتظرونني أمام باب المحكمة.سألته هل يعرفهم، فتطلع في عينيَّ والتفت حوله كمن لايرغب أن يذيع سِرَّا :

يقولون إنهم من الأمن!

سألته وعلامات الدهشة مع بعض القلق يبن على قسماتي:

كم عددهم؟

اثنان

أمتأكد أنت أنهم من الأمن؟

هم قالوا ذلك.

ألم يخبروك لِمَ استدعوني؟

فهز كتفيه غير مبال:

أنت تعرف الأمن!

يا ألطاف الله لم يدخلوا غرفتي ولم يرغبوا أن يظهروا معي في الدائرة.هناك أمر خطير إذن،وفي بالي أسوأ الاحتمالات.كيف تذكروني ومن وشى بي.خلال الأيام القليلة الماضية تحاشيت اللقاء بمن بقي من أهل التنومة،ولم يأت أحد منهم لمتابعة معاملة أو طلب أمر.كنت أعود من الدائرة في البصرة مباشرة إلى البيت أتجنب لقاء الآخرين.بعد لحظات معدودة يشيع خبر اعتقالي على ألسنة مجموعة من الموظفين ذوي الكروش الضخمة الفارغة التي تبتلع الطعام والكلام ثم تجتره كما يفعل البقر.مخلوقات تعيش لتأكل وتتكلم. لاتشبع قط..دجالون..منافقون وقوادون همهم الوحيد الثرثرة ولاشيء غير الكلام. ليس بالضرورة أن يكون معقولا.منهم من يجعلني خائنا وآخر يجدني فاتكاً أعدمت بعملي الغوغائي عددا من الرفاق.هناك من يلصق بي تهمة اغتصاب،وسوف تدخل وتخرج من غرفةٍ إلى غرفةٍ فراشة وزعت العصير يوم احتل جيش الرئيس الكويت وهي تؤكد للموظفين بأغلظ الأيمان أني عميل وخائن ومشبوه.

أساطير كثيرة سوف تلحق بي وأنا في السجن!

وقصص مختلقة تنطلق من مكاتب الموظفين..

وأكاذيب لاأساس لها من الصحة،وربما هو عرجي الذي دلّ عليّ بين كثيرين خرجوا ودَمَّروا أو سرقوا ونهبوا ثم قتلوا غير انهم لم يتركوا أثرا مثلي على الرغم من أني لم اقترف أفعالا مثل أفعالهم!

مثلما وثقت برجلي، أصبحت أشكّ فيها.

هؤلاء الموظفون أعرفهم يذكرونني بين الفينة والأخرى بأخي الغائب البعيد.كيف هو؟ هل ينوي العودة؟أين في المانيا أم السويد. كأن تقاريرمسؤول الأمن في الدائرة وحدها لاتكفي،أما حدسي الآن فيذهب بعيدا.كان مسؤول الأمن يخبرني – شأنه كل مرة- أن أذهب إلى دائرة الأمن كلما خطر ببال أحدهم السؤال عن أخي ولعلهم يكتفون بتحقيق سريع روتيني معي كل ثلاثة أشهر أو أربعة ويقتنعون بالمعلومات التي أدلي بها في الاستمارة الرسمية وأذيلها بتوقيعي!

وبالطريقة نفسها يحقق المسؤول مع أختي في محل عملها...

أما هذه المرَّة فالتحقيق أخذ بُعدا آخر!!

موظفون من دائرة الأمن حضروا لاصطحابي...

أربعة رجال على مايبدو اثنان دخلا الدائرة يبحثان عني وانتظر الآخران على الرصيف المقابل عند سيارة بيجو سوداء.خلال دقائق كانت أمي تفيدة وأبي عبد المعطي. لم أر وجوههم من قبل لا في التنومة ولا في أي مكان آخر.كلهم عمالقة حتى يخيل لمن يراهم أنهم توائِم في السحنة والشكل والطول:

تفضل معنا!!

هل هناك من أمر؟

ستعرف فيما بعد.

أشكال توحي بالريبة قسمات صارمة ووجوه تدل على الشر.رافقوني إلى أمن شط العرب.بقيت هناك نصف ساعة.فتشوني وكان في جيبي بعض الدنانير أعرضوا عنها ثم عصبوا عيني وشدوا وثاقي من الخلف..نقلوني بسيارة أجرة إلى أمن البصرة.تشبت بأمل واهٍ في أن تطول المسافة قبل أن نصل ومن اللحظات الأولى تيقنت أنَّ هناك من وشى بي أو اعترف عليَّ.في دائرة الأمن ألقوا بي في غرفة تعج بالسجناء.حين قذف بي الحارس راح يضربني ويضرب الآخرين خبط عشواء على أرجلنا ورؤوسنا وهو يزعق:

هنا أيها الخائن!يا أعرج الشؤم،هنا مكانك مع الخونة!

وبعد أن غادر وأغلِقَتْ أبواب عرفت أنها ثلاثة بدأ الحاضرون يطمأنونني في أن أرخي العصابة عن عينيَّ.ربما رأيت أشباحا،ولعل هناك من قدم لي جرعة ماء قطرات فقط ننتظر ونتحدث همسا يلفنا الخفوت،ونورمبهم انفلق من ضباب وظلام فكان أكثر قسوة منهما،أين تبخرت الحقول،وهل اختفت المراعي والبنايات والأسواق فجأة ثم كيف تسع زنزانة ضيقة مئات المساجين ؟لاشك أنه عالم عجيب أقرب للحلم من المحتمل أن أكون سمعت عن شبيه له في قصص ألف ليلة وليلة.سحر مزعج مخيف لاهو بالمظلم ولا بالمنير فكيف أميز فيه الأشياء لكني لابد أن استسلم للعجب فيبدو لي المكان الصغير ذو العتمة وهو يلتهم الضوء الساطع في الخارج مثل جرثومة لها القابلية على أن تلتهم ملايين البشر وتقضي على الناس والحيوان.

هكذا بدا لي ذلك المكان المعتم الذي رأيته ولم أره،وعلى بعد منا كنا نسمع صوت استغاثة وضرب.بريء..أنا بريء..استغاثة وضرب..يعقبه توسل..صراخ..ثم فاجأنا بعد ساعة أو أكثر أول الأبواب بصريره الحاد فسارع الآخرون إلى عصاباتهم والتحمت عصابة على عيني مع الظلام والنور الخافت الضحل وحالما انتهى أزيز الباب الثالث الجاثم عند زنزانتنا حتى سمعت صوتا ينادي على اسم مامن الحاضرين ثم صاح :

عبد الله عبد الرحيم!

شد شخص ما وثاقي ودفعتني يدان إلى مكان ما.أنا هو إذن ولست غيره، وإن كنت فيما بعد سمعت اسما آخر.كنت أتحاشى أن أتعثر أو أسقط فأتعرض للضرب وقد وجدت صعوبة ما في حفظ توازني وأنا موثوق اليدين من الظهر ومعصوب العينين،وثقل جسدي كلّه يميل نحو قدمي السليمة:

- عبد الله عبد الرحيم

- نعم أنا

إنهم ينتظرون مني زلة لسان ليقذفوا بي في أعماق ذلك الوحش الرهيب:

- أمك تفيدة وأبوك عبد المعطي؟

-كلا ليس هذا .

فاجأتني ضربات من جميع الجهات.رشقات قاسية بأنابيب من البلاستك والعصي. انهالت فجأة وتوقفت فجأة،وانقطعت الحركة بضع دقائق فلم أسمع إلا همهمة تصدر عن بعدٍ صعب علي تحديده وعاد الشخص ذاته يسأل:

- عبد الله بن عبد الرحيم!

- نعم

من أهل التنومة بيتكم يجاور الجامع.أمك تفيدة وأبوك عبد المعطي وأنت أعرج وأعور سأجعلك أعور أيضا هل تظنني ألعب معك؟

نعم لا أنكر..ربما شاءت المصادفة أن أصبح تيمولنك وموشي ديان معا ..تيمورلنك أمه تفيدة وليست" ثميلة"وأبوه عبد المعطي حكمة الله وقدره الذي لا راد له:  

- نعم

صفق الحاضرون واقترب مني أحدهم قائلا:

فهمت ماذا نريد؟

نعم!

قل لي ماذا فهمت؟

أن أقول الصدق من غير لف ولادوران!

مااسمك إذن؟

أمي تفيدة وأبي عبد المعطي وأنا أعرج ولست أعور.كانت أمي تخاطبني حين ألح عليها في إزعاجي بعاهتي فلا أغضب بل أزداد مشاكسة،أما أنت فلا بأس عليك قال لي الأستاذ الرامي ذلك، ليس بالضرورة أن يشعر كل ذي عاهة بعقدة..تيمور لنك الأعرج احتل العالم وموشي ديان ناك اخوات مائة وخمسين مليون عربي في ستة أيام حسوما،فما بالك بي وقد جعلت لواء مدرعا يفرّ،الآن جمعت الاثنين!

وجاني صوت من جهة أخرى غير الأول الذي كان يسألني عن قرب:

حسنا ها أنت تتقدم نحو الأحسن.

إذن اعترف ّ"وواصل قبل أن يسمع مني أي رد"اعترف أفضل لك سوف توفر علينا الوقت وعليك الجهد.

عماذا أعترف.

أنت خائن؟

ماعلي إلا أن أواجهه بالإنكار:

لست خائنا.

اعترافك منذ البداية يوفر لنا والوقت والجهد ويخلصك من عذاب ويخفف عنك حكم الموت فإن كنت برجل واحدة فلاتغامر بعين ويد وأذن قبل ان تسلب روحك.

وعاد صاحب الصوت عن بعد يعقب:

اسمع كلنا نخطيء والخطأ ليس عيبا لكن الجريمة الكبرى حين ننكر الخطأ وهو الأمر الذي يؤدي بنا إلى التهلكة وإلا فهناك عدد من الخونة الذين تابوا ونعموا بالعفو فكانوا بعد ذلك مواطنيين صالحين!

الاعتراف يعني الموت أم هناك من أدلى بمعلومات عنيّ..لاأشك في معلمي كامل الرامي قط، هو الذي اندفع متحسما فوجد لي شغلا عن طريق معارفه في دائرة العدل،وهو من كان يسخر من الدولة أمامنا في سكره الدائم، فمن رآني أعبر الشارع خلال يوم الغليان أو أحرض .حقا حملت أول يوم للتمرد بندقية فارغة من أية إطلاقة غير أني لم أحضر من مراسم القتل سوى مصرع راجي المزروع،قد يكون هناك من ميَّز صوتي وأنا أذيع مرسوما من سماعة الجامع يدعو الجند إلى الاستسلام ومن هن هؤلاء النسوة التسع اللائي يذكر المحقق أنهن كتبن عني التقرير.في البدء خشيت أن تكون هناك وشاية أخرى صدرت من شخص ما بحق صهري وسوف تكون تلك كارثة لو جاء خبر مدسوس من أحد يخص أختي فتتعرض مثلي أو أكثر إلى تعذيب جنوني وهتك عرض.هي كذبة من المحقق..طُعْم فذهني مشغول عن ذكر الرجال ضعاف النفوس ممن ينهارون تحت التعذيب فضلا عن النساء. لاأشك أنه استدراج..فخ:

لكن ليس عندي شيء أقوله!

علقوه !

انتشلني من وقفتي رجلان رفعاني إلى أعلى فوق طبلة نحو حافة باب يبدو أنه كان مفتوحا.ماعلي إلا أن أراه بهذه الصورة وأتخيل رجلي على طبلة أو منضدة صغيرة، فلو كان سقفا لأدركته من خلال الفراغ خلف ظهري، الرَّجُلانِ علقاني على حافة الباب فالتمست فقراتي صلابته وماهي إلا لحظات حتى أزاحا الطبلة من تحت قدمي. بدأ الضرب ينهال علي:

اعترف! اعترف !

ثانية!! والاعتراف يعني الموت.تدخل بنفسك في حضيرة وحش كاسر فاتح شدقيه تجاهك لاتعرف بأي عضو من أعضائك يبدأ. الاعتراف.. الموت.. السم،وأخف شيء

ماعندي شيء!

ثم يعودون إلى تعليقي بالطريقة السابقة نفسها.العملية دامت ساعتين بين ضرب وتعليق.علقوني ثلاث مرات.آخر مرة تركوني مرميا على الأرض.بعد عشر دقائق رجعوا إلي.كانوا كلما رأوني على وشك الانهيار أنزلوني وباشروا بضربي على الأرض. سألني أحدهم:

أمصر أنت على الإنكار؟

الإنكار نعم وماذا غير الإنكار إذ أني لم أفعل شيئا.أحس أني وحدي في هذا الموقف. النكتة ابتعدت عني.السينما هجرتني الجامع تركني على حافة الباب.البلاغ العسكري وحده في الذاكرة.سأقول إني خرجت إلى الشارع لأرى جنودا مدججين وأناسا حملوا السلاح وأنا وحدي غير مسلح بسبب العرج..العرج الذي كان علامة فارقة تدلّ عليّ أصبح سببا بيدي:

لكن على أي شيء أعترف وأنا لم أقترف ذنبا!

انبرى صوت رجل عن بعد :

أنت مسؤول إذاعة شط العرب!

أولاد الذين..من ميّز صوتي..قربت فمي للاقطة حتى تضيع نبرتي.. لابد أن شخصا وشى بي أو وجدوا مستمسكا ما،ولابد أن تكون تلك السماعة القديمة بلاقطتها الضخمة ذات سمعة مخيفة ورهبة حقيقية ارتجت لها سجلات الأمن لكن لأراهن على أمل ضعيف فالاعتراف يعني الاعدام، ويؤكد أيضا جريمة صهري وكامل الرامي:

لاأعرف ماذا تعني!

وأنا أواجه التعليق من جديد. تركوني ملتصقا بالباب ساعة. خلت أن يديَ انتهتا تماما. انخلعتا. لاأحس بهما..جسمي غريب عني.أصبحت غريبا عن أجزائي وجسدي بعيد عني لا أشعر إلا بخدر كوخز الإبر في ساقي العرجاء هي وحدها التي تتكلم معي.

لقد أغمي علي تقريبا.

كنت بين اليقضة والإغماء

وأنا قاب قوسين أو أدنى من الموت.

قال أحدهم :

اتركوه سنعود إليه بعد قليل. هناك ثلاثة ماتوا ولدينا جماعة أكثر أهمية منه علينا أن نحقق معهم.

ربما كان كلامهم صحيحا أو هو حديث مفتعل الغرض منه استدراجي وتخويفي.استراحة قصيرة... أستطيع أن ألتقط أنفاسي. هذه المرة استخدموا الضرب من غيرما تعليق . مجموعة تأتي تسأل التي تعذبني أن تذهبَ للتحقيق في مكان آخر ثم تبدأ المجموعة الجديدة عملها. استمر الضرب بين لحظة وأخرى كي ألين وعلى الرغم من آلام الضرب والصفعات والركل إلا أنني كنت أسمع أصوات صراخ وأنين من أمكنة ما مما جعلني أدرك أن المجموعات كانت تتناوب علينا فاختصت كل واحدة بعمل تفوقت به على الأخرى.مجموعة تضرب بالسياط والأسلاك الكهربائية والركل واللكمات والصفع وتتميز على غيرها بقوة الركل وأخرى تجيد كل الفنون وتتفوق بضرب السياط وثالثة لاينقصها الركل والصفع غير أنها تجيد فن الصفع إلى أن جاء ضابط ، وأمرهم بالتوقف فامتثلوا لأمره. قال اتركوه يراجع نفسه ونحن متأكدون من أنه سوف يعترف.أرجعوني للغرفة السابقة - مكتب التحقيق- ورموني على أرض خشنة. لاأدري إن كانت خشبا صلبا أم من مطاط. انتبهت خلال بصيص من الضوء أن الغرفة خالية من أي شباك.هناك على تلك الأرضية الخشنة بدأ أفراد بتدليك جسدي ورجلي.طلبوا لي ماء. بضع قطرات وضعوهها في فمي. لم أكد التقط أنفاسي حتى قال واحد من هؤلاء الذين دلكوا جسدي:

اعترف أفضل لك!

عن أي شيء؟

قال آخر:

هناك من اعترف عليك!

صوت من بينهم:

قائمة اسماء طويلة عريضة!

يابن الذين... لعل الغرباء نسوا قائمة دونوا بها أسماء من ارتادوا الجامع أو من فعل الامر متعمدا، فيقطع علي أحد المتحمسين شطط ذهني الذي راح بعيدا:

يا أخي إذا أردت تموت أنت فما ذنبنا نحن؟ اعترف وخلصنا!

ولما طال سكوتي زعق بي صوت:

كلب أمصر أنت على النكران!

كدت أقع في الفخ، فهؤلاء من دائرة الأمن وربما تكون الورقة والاعترافات من اختلاقهم رغم أني لاأنكر ما ادعوه وأتوقع أن هناك من يضعف ويعترف. كنت أحمل بندقية وأسير في الشارع فمن رآني، وأنا مصر على النكران؟ النكران... هو السلاح الوحيد الذي معي ولاأستطيع أن ألقيه لأني لاأريد أن ألقي بنفسي إلى التهلكة فهل يستطيع جسدي الضعيف أن يقاوم الضرب والتعذيب والركلات والجلد والسياط؟

لو كان عندي شيء لقلته!

بقيت وقتا طويلا على الأرض الخشنة. كل نصف ساعة يأتي محقق يتحدث معي، ويكرر: اعترف. أفضل لك أن تعترف..عليك اعترافات عليك اعترافات يا تيمورلنك.. ورقة فيها أسماء أنت من من ضمن الغوغاء. قلت لآخر شخص تولى التحقيق معي ذلك اليوم:

أنا عاجز لاقوة ولاقدرة عندي لأكون مع الغوغاء، وكانت إيران قريبة مني ولم أهاجر. رأيت الذين يهربون إلى خارج الحدود فلو كنت مذنبا لرحلت مع الآخرين!

فقال رجل التحقيق:

هناك أكثر من عشرة اشخاص كتبوا عليك من بينهم تسع نساء!!

حليمة وشكرية ونجاة وحسنية ليلى ونرجس.أي اسم. لاأدري من هن .لو قابلت معظم نساء التنومة في الشارع لما عرفتهن. علمونا أن نمشي وعيوننا تنظر إلى الأرض، فكيف عرفنني،وشخصن صوتي؟ المحقق يؤكد ثانية الخبر وذهني مليء بأسماء كثيرة تذهب وتجيء فبمن أشك من نساء التنومة أو نساء الجيران؟ لم يكن أحد معي في الجامع سوى صهري، وحالما أذعت النداء خرجت إلى بستان أصفر، والتقيت في الطريق كامل الرامي الصاحي السكران لا الحكومة تعبأ به والى الأمن ولا الثوار.من رأتني منهن أقطع الطريق الساحلي إلى منطقة كردلان كأني مارشال يتفقد قطعاته العسكرية؟ربما لاأحد من المدججين بالسلاح يعبأ بي.كنت أعلق البندقية في كتفي.صهري وأختي أفرغاها من الإطلاقات خشية أن آذي نفسي أو أقتل أحدا خطأ.هناك من لوح لي من بعيد، وملثمون يستقلون سيارات مسرعة كانوا مشغولين بمطاردة منتسبي الأمن والرفاق الحزبين .معظم هؤلاء هاجروا إلى الشرق أو سقطوا قتلى بعد الاجتماع في خيمة صفوان. قد يكن رأينني حضرت إعدام الرفيق المزروع لاأنكر أني ذهبت مع الحشود ولم أكن مسلحا في تلك اللحظة بل أشفقت على عائلة الرفيق وكنت على استعداد لأتبنى عائلته وأحميها حتى تزول الغمة.لحظات والمحقق يضيف مهددا:

حسنا هناك شخص من منطقتك سيأتي ليراك أية كلمة منه ليست في مصلحتك تدفعني لإعدامك وأنت في مكانك!!

وأكد جادا حتى خلته يصر على أسنانه:

هنا في هذا المكان من دون سؤال.

مباشرة أحسست بيدين خلف رأسي والصوت نفسه:

سأزيح العصابة عن عينيك وماعليك إلا أن تبقى مغمض العينين حتى آمرك بفتحهما.

أزاح العصابة عن عيني ، خلت أن هناك شخصا يتراجع. كنت مطأطأ رأسي نحو الأرض وعيناي مغمضتان واضعا في الحسبان أن تكون تلك حجة اختلقوها لاستمرارهم في التعذيب:

افتح عينيك!!

لم يكن هناك من ضوء كانت مسطبة قديمة فوقها سوط غليظ وبدلة عسكرية. التنومة جاءت إليّ تسعى ببيوتها البسيطة الممتدة من شط العرب إلى عمق البر وبنخيلها المتراقص على نهر الحوامد باتجاه كردلان والصالحية. النخيل والشوارع والناس والماء والخضرة جاءت إلي. كل شيء من حيوان وبشر ونبات وماء وخضرة يمكن أن يدينني وأمام عيني مباشرة يشخص ابن محلتي.سيقول كلمته الفصل في التنومة كل شيء يتكلم . النبات والحيوان والإنسان وأنا معلق بين الحياة والموت بكلمة واحدة.التنومة في زنزانة .. عيناي انفرجتا له كمصراعي النافذة بعد أن كانتا معصوبيتين عن الجميع. شخص مغمور ابن محلتي نصير في الحزب لاتربطني به علاقة سوى تحية الطريق جاء لينفذ حكم الإعدام في.. لاأدري أشفقة علي أم تراه تأمل وتفكر لحظة. هل عرف من هو صاحب الصوت القادم من المسجد المحرض على التمرد؟. كنت أنظر في عينيه وينظر في عيني. دجاجة أمام قصاب. عيناي وعيناه.كلمة واحدة فقط تنقذني أو تدفعني إلى المقصلة. نعم أو لا لاثالث لهما.لااقدر أن أتحدث. الصمت شفيعي وحده.ينظر في عيني ينتظر سؤال المحقق. كلانا يتطلع في عيني الآخر. أي انطباع أقرؤه في وجهه؟ التشفي.. الغضب... الشماتة.. خيل إلي أن وجهه كوجوه لاعبي القمار المحترفين.المحقق خلف ظهري وكأن عينيه مثبتتان بمسامير على وجهي هل رآني ياترى؟ لاأنكر أني خرجت...بماذا يحدث نفسه الآن؟ جبان ركن في المنزل طوال أيام المحنة فهو لم ير احد وعندما انجلت الغبرة وبسطت الحكومة سيطرتها على البلد تطوع ليرتقي درجة في الحزب ليقطع علينا الصمت المهول المرعب المحقق من خلفي:

عيناك في الأرض ولك كلب!

تنكسر عيناي وأنا جالس القرفصاء بيدي المربوطتين إلى ظهري وتحومان على حذائي:

قل رفيق هل رأيته مع الغوغاء؟

كأنه أراد أن يقول نعم أو تردد بعض الشيء، هو في حلم أم حقيقة أيقول رآني أهب لرؤية راجي المزروع قتيلا خلف البيوت أم لمحني ذات يوم أحمل رشاشة كلاشنكوف أم ميز صوتي المجلل من المسجد؟

نعم رفيق؟

لا ابدا لا.

وانزاح هم ثقيل عن صدري، وتنفست الصعداء. أنا وحدي معي سلاح الإنكار. كيف يتحمل جسدي النحيف أطنانا من التعذيب، وقد ألقى ألي الآخر بحبل نجاة:

أمتأكد أنت؟

نعم!نعم!

قالها مثل ذئب امتلأت معدته من فريسة التهمها قبل لحظات فمر بصيد حي آخر فلم يهاجمه.فتداعت إلي لحظة ارتياح أنستني كثيرا من الألم ،ولحظة غادر عادت العصابة تجثم على عيني فغاصت الغرفة والمنضدة والسوط في الظلام فعرفت من صاحب الصوت أن المحقق تغير بآخر:

قل لي ماذا رأيت في الطرق؟

لاأعرف ماذا تعني!

حيوان مَنْ مِنَ المسلحين رأيت في الطريق؟

ذاكرتي تلوذ بذكر مسلحين قُتِلوا في المواجهات وبأسماء محسوبة على الحكومة أو أبرياء كانوا يعبرون الطريق مستطلعين غير مسلحين،وإلا،فيقطع علي المحقق تعدادي الأسماء:

من قتل الرفيق راجي المزروع؟

د. قصي الشيخ عسكر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم