صحيفة المثقف

مؤشرات مجهولة في عوالم الخط المغربي

2018 محمد بندوريمن خلال كتاب: جمالية الخط المغربي في التراث المغربي- دراسة سميائية للدكتور محمد البندوري

تقـــديــم

من فضل الله تبارك وتعالى على لغتنا العربية أن أنزل بها كتابه العزيز القرآن الكريم، وكُتبت بها الآيات الكريمة، ودُونت بها الأحاديث النبوية الشريفة، وكذا السير، ونسخت بها أمهات الكتب الأدبية والنقدية، واستعملت في التشكيل؛ فهذا خطاط مغربي(1) يقول: " يشكل فن الخط مركز دائرة الفنون الإسلامية، وهو المعقل الوحيد المتبقّـَّـى للمسلمين في زمن العولمة لإثبات هويتهم الحضارية والثقافية" لذلك لم تحظ لغة ٌمن اللغات الإنسانية بمثل ما حظيت به اللغة العربية.. والخط العربي خير دليل على ذلك؛ إذ كان ولا يزال محل اهتمام كثير من الناس على مر العصور والأزمان بسبب ذلك التعلق الشديد والارتباط الوثيق بالقرآن الكريم.

ولعل في هذا كثير مما حفز الدكتور محمد البندوري الباحث في فن الخط، وهو التشكيلي الخطاط المغربي بعد اطلاعه على كثير من أنواع ومصادر الخط العربي والمغربي. وتم له هذا بعد نضج ذهن، وطموح تطلع، واستواء قريحة، وتطلع نحو فن راق، مما أهله لأن يغذي البحث العلمي مبدعاً كما عرفناه في مجالي الخط والتشكيل الفني مبدعاً، بل وها هو ذا يقدم خدمة جليلة للخط العربي وللغة العربية- وهي خدمة للإسلام والمسلمين – أطل بجلالها من أحد ثغور الإسلام بفضل ما توفر في شخصه من طاقة ذهنية ونفسية محفزة، ومن قدرات علمية، وفكرية، وفنية، وجمالية هائلة مكنته من فهم الأسس النظرية، والفنية في فن الخط المغربي بخاصة؛ باعتبار ذلك من مقومات الهوية المغربية العربية الإسلامية.

ولإبراز ما يحيل عليه طموحه العلمي والفني فقد عمل هذا الباحث على تمكين الخط المغربي من إضافة نوعية؛ عبارة عن دراسة علمية، أدبية، فنية، وسيميائية حققت له الكشف عن المجهول في هذا الموضوع؛ وهو مما غيبه الواقع، وغيبته الدراسات المعاصرة القليلة المنجزة في مجال دراسة الخط المغربي؛ وذلك في كتابه القيم« جماليات الخط المغربي في التراث المغربي »، وهو كتاب يمثل عندي إضافة نوعية تتجاوز- بقوة - ما انتهى إليه البحث في مجال الخط المغربي عند قلة من الباحثين المغاربة.

وأستأنس هنا- لإظهار ذلك - بكتاب" الخط المغربي: تاريخٌ ووَاقِـعٌ وآفاق "(2) للباحثين المغربيين عُمر أفا والدكتور محمد المغراوي اللذين لم يتجاوزا في بحثهما- رغم ما توفر لهما من إمكانات لوجيستية مهمة أثناء بحثهما ودراستهما مما يساعدهما على تعميق الدراسة في علاقة المغاربة بالخط العربي – لكنهما لم يستطيعا أن يأتيا في بحثهما أكثر مما يتعدى "معلومات واستنتاجات" وإن كانت ضافية ومهمة فهي لا ترقى إلى حصيلة كتاب الدكتور محمد البندوري "جماليات الخط المغربي في التراث المغربي"، وفي خلدي فإن هذا الكتاب يمكن اعتباره خلاصة ما توفر للباحث الفنان من الممارسة في فن التشكيل بالخط، وما أنجز من بحث يعتمد آلية التأويل، بل ويستنطق ما وراء الألوان، والأشكال في الحروف العربية للخروج بكثير من الدلالات!.

وعندما أقول في عنوان هذه القراءة إنني سأشتغل على البحث عن مؤشرات مجهولة في عوالم الخط المغربي من هذا الكتاب، فإنني في الواقع أبحث فيما كشف عنه الكتاب والكاتب؛ وبخاصة ما أجهله ذاتياً وربما يجهله غيري عن الموضوع. وعملي هذا سيبحث في الكتاب بصفة مجملة عما أسفرت عنه جهود صاحبه من فتوحات علمية، وفنية، وبخاصة في مجال دراسة الخط المغربي؛ وهي من نباهة الباحث، ومن استفادته من نفائس خزانة الخط العربي والمغربي، ومؤشر هذا تؤكده لائحة المصادر والمراجع المخطوطة، والمطبوعة، القديمة، والحديثة، والمعاصرة باللغتين العربية والفرنسية، ناهيك عن مصادر ومراجع أخرى.

وغاية ما في الأمر فإن الباحث في كتابه هذا قد أبرز جمالية الخط المغربي في التراث المغربي بمعلومات جديدة ودقيقة، وبتحليل سميائي حروفي أكثر دقة لم يسبقه إليه دارس أو باحث في الموضوع، وحتى يحقق الباحث الفنان هذا الهدف فإنه استدعى- أيضا – موهبته، وثقافته، وطريقة البحث عنده، بل تسلح بمدى تمكنه من أدوات البحث العلمية والنقدية الدقيقة المؤسسة على الملاحظة، وعلى ترسانة من المعرفة المرتبطة بكثير من العلوم، والآداب، والفنون، والمفاهيم الجمالية المتعددة، وبالأساليب المتنوعة. ويعضد هذا وعيه الزائد بالموضوع، وما ينتظره من الجَهد، والجُهد، وما ستؤول إليه الحصيلة من نتائج في مجال بحثه.

لذا انطلق الباحث في كتابه هذا بما أظهره متهيبا البحث في الموضوع مادام الخط المغربي " يتمتع بإمكانات هائلة وأسرار وجماليات غير متناهية، بما حمله بأشكاله الحروفية ورموزه الإيحائية من مضامين عميقة "،(3) ناهيك عن إحساسه بأن هذه الجماليات تضرب بعمقها في حقب تاريخية، ولها وسائل متعددة؛ فهي ترتبط عنده بشتى "أشكال العمارة من جدران وقماش ونحاس وخشب وزجاج ومخطوطات وكتب ولوحات فنية..."(4). والباحث واع بصعوبات حقيقية يمكنها أن تؤجل النتائج، ولكنها لا تعطل البحث، لأن الأمر يتعلق بصعوبة التعامل مع مادة تكتنفها الصعوبة في البحث والقراءة؛ قراءة متأنية مثمرة، قراءة تستدعي أن تتم في سياق فهم صحيح، واجتهاد يتوخى الدقة، ويساعد على استثمار آلية التأويل، وكذا استخلاص النتائج، والأحكام، وفك الرموز، والمعاني المتعددة في منابع« منها ما يرتبط بالثقافة الحروفية (الحرفية) المغربية، ومنها ما يتعلق بالطابع الديني والروحي والوجداني، ومنها ما يتصل بالبعد الحسابي، والبعد الروحاني، فضلا عن القيمة الفنية والجمالية والتعبيرية »(5) ومما هو ضروري لهذه القراءة، وتوفر للمؤلف التسلح بثقافة فنية، وجمالية، وذوقية، وبصرية استدعتها منهجية البحث. وهي- بلا شك - أسست لبناء رهان البحث العام؛ أي دعم (الهوية المغربية) بما ظل مطموراً في بطون الكتب، واستنباط ما يزخر به من مادة علمية، وفنية، وجمالية تعزيزا لروح فن الخط المغربي الداعم للعقيدة الإسلامية السمحة بهذا الكتاب، في زمن تنمرت فيه المطبعة وصارت لا تطبع إلا رخيصاً من القول والفن، وهزيلاً من بنات الفكر، وضحلاً مما يتولد عن خيال كسيح!.

إن إضافة وازنة في كتاب (الجماليات) هذا قد يسرها الله بفضل ما بقي في الجامعة المغربية من جدية البحث وتحقيق النتائج الباهرة؛ ذلك أن إنجاز هذا البحث تم بفضل جهود وتوجيهات الدكتور عبد الجليل هنوش راعي هذا البحث والمشرف عليه، وسيدي عباس أرحيلة الذي بصم عليه بالتزكية ضمن لجنة مناقشته في رحاب جامعة القاضي عياض. وتم بفضل باحث نجيب ومجد توفر له ما لم يتوفر لغيره؛ أعني صلة القرابة التي تربطه بالموضوع؛ يقول:" إن صلتي بالموضوع لم تكن صدفة، وإنما هي نتيجة تراكم معرفي وعلمي في مجال الخط العربي بعامة والمغربي بخاصة، باعتباري أمارس فن الخط المغربي وأبحث فيه معرفياً (..)"

إذن نحن أمام باحث مهتم، وفنان محترف، يمارس فن الخط- كتابة وتشكيلاً – عارف بإكراه البحث، فالأمر يتعلق- كما يقول – بـ« التعامل مع نصوص فريدة واستكشاف دلالات جديدة، تولدت من خلال الوشائج التشكيلية والفنية والجمالية بين الخط والفنون الأدبية الأخرى في التراث المغربي عموما، فكان لذلك وقع إيجابي على مستوى النتائج »(...) إلى هذا الحد استطاع الباحث أن يستوعب خيوط عمله الدقيقة، ويعبد طريقه لغاية الكشف عن مؤشرات مجهولة في عوالم الخط المغربي؛ مؤشرات لم تكن من اهتمام البحث لحدود هذه الساعة.

2- الكشف عن المؤشرات المجهولة في عوالم الخط المغربي

إن القراءة المتأنية، المستوعبة- ولو قليلا - لما ورد في كتاب" جمالية الخط المغربي في التراث المغربي " لمؤلفه الدكتور محمد البندوري باعتباره يرصد- في مجال الخط المغربي - عوالم تجعل المتتبع لصفحاته يدرك أن كاتبه رمى إلى تواصل مثمر بينه وبين قارئ؛ هو بالضرورة قارئ مهتم أو مستطلع أو مستفيد من هذا الكتاب على مستوى جملة من الحقائق أخالها باتت مجهولة ولم يتم الكشف عنها؛ منها:

ا – الحضور بالتدافع مع ما قام به مجموعة من العلماءْ، النقادْ، منهم مشارقه ومغاربه على مستوى البحث في الخط المغربي، ومنهم بعض العلماء والنقاد القدماء الذين أسفر وعيهم عن إدراك أهمية الخط، ومعرفة خصائصه اللغوية والجمالية، وقد أسفرت جهودهم ونظرياتهم في إثراء الجهاز ألمفاهيمي للخط العربي الطافح بشتى ألوان الجمال، مما هيأها لأن تسهم وتساعد في قراءة الجمال في الخط العربي، وبعثه والتجديد فيه، بل ربطوا تصوراتهم للجمال بتأثير من القرآن الكريم والبيان العربي وهو ما أثرى الذات المغربية، وانعكس في ظهور مجموعة من أنواع الخطوط المغربية الجديدة بأبعادها الجمالية، وإدراك قيمتها الفنية، والتاريخية كالخط المغربي المبسوط المستعمل في كتابة المصاحف المغربية، والخط المغربي المجوهر باعتباره أكثر الخطوط استعمالا لارتباطه بالدواوين السلطانية، والخط المغربي المسند المعروف بـ (خط العدول أو خط الطلْبة ) يستعملونه في كتابة العقود، وكذا خط الثلث المغربي وهو من أجمل الحروف لذلك ارتبط بعناوين الكتب والمراسلات والمعمار المغربي، والخط الكوفي المغربي الذي ارتبط بالمصاحف والمراسلات وفي المعمار، والخط الزناتي المغربي المنسوب لإحدى القبائل العربية الأمازيغية المغربية؛ وهو خط زخرفي ارتبط بالحلي والزينة والمنسوجات الأمازيغية، وبخاصة السجاد، والخشب، والجبص، وكذا الخط المغربي الصحراوي أو خط شنقيط الدال على جميع المناطق الصحراوية، والخط المغربي الدرعي، والخط المغربي السوسي... ولم تكن غاية المؤلف من رصد كل هذا غير حقيقة واحدة ذات أهمية مؤداها: أن الخط المغربي بكل تَشعُّباته وفي شتى مناحيه- ومنه الخط الفاسي، والخط المراكشي، والخط الإشبيلي، والخط القرطبي - هو عامل وحدة ثقافية وسياسية بين جميع المغاربة!

وقرن المؤلف هذا الكشف في مجال النقد بكشف آخر له علاقة بظهور أنواع جديدة، وذات فعالية من الأقلام المغربية؛ وبخاصة تلك المصنوعة من مواد لها علاقة بالبيئة المحلية المغربية؛ وبخاصة ما كان لها علاقة بأشجار الزيتون، والأركان، وقصب" الخطارات المائية "(6)، والآبار، والسواقي، مما أثرى التشكيل الجمالي للخط المغربي، ومما زاد هذا المجال إبداعا ولوع الشعراء المغاربة بعنصر التشكيل أثناء كتابة أشعارهم في أشكال ذات قيمة فنية... وكشف الكاتب عن مجالات ووسائل أخرى تضمنت جمال الخط المغربي عبر الحقب التاريخية بما في ذلك "جدران، وقماش، ونحاس، وخشب، وزجاج، ومخطوطات، وكتب، ولوحات فنية " (7)، وتبقى تلك المقارنات الدقيقة التي عقد المؤلف في كتابه بين بعض أنواع الخطوط من أبرز ما كشف عن عوالمه الجديدة في الكتاب.

ب – كشفت هذه الدراسة التطبيقية عن أغلب المؤشرات المجهولة في عوالم الخط المغربي التي لا شك أن القارئ يفاجأ بالكشف عنها في الكتاب؛ وهي مما أفاد به المؤلف قارئه وجعله يستمتع بجمال التشكيلات الفنية، كما أبانت عن تمكنه من ذوق فني، ومن حاسة جمالية تتسم بالدقة في التعبير، وكذا التمحيص في إدراك أبعادها المختلفة، ناهيك عن التأني في إدراك العلاقات والربط بينها، ثم استنباط القيم المؤثرة في المتلقي، وتتميز- أيضاً - بطاقة تأملية دلت على أن المؤلف عاشها واستجمع كل خبراته السابقة التي تعينه على النفاذ إلى أعماق جميع الأعمال الفنية وتفسير ما تشمله من مكونات وعناصر أثناء رحلة التأمل تلك.

فأي تعقب للتراث اعتمده المؤلف؟

تعقب المؤلف بنوع من الدراسة والتحليل وبمزيد من التذوق مجموعة من المواد الإبداعية في التراث المغربي؛ بدءاً من المصاحف الشريفة المكتوبة بفنية رائقة، أو كُتِبَتْ بـ: "صبغة فنية تقوم على منجز لوني / خطي رائق يحفظ للأنساق البنائية جماليتها، ويمنح الأثر الأكبر للمجال الجمالي المُتولَّد من أشكال الحروف المغربية وطريقة تموضعها حيث تُنتِج جمالاً إضافيا داخل العناصر المحسوسة" (8)، هي من المؤلف- بلا شك - خدمة لكتاب الله، وإظهار حمولة ثقافية مغربية، سيحللها- تحليلا ضافيا – في ثلاثة نماذجَ كشف عما فيها من إبداع في حروفها المغربية الجمالية؛ وفيها جلال وتعظيم لكتاب الله عز وجل، وخصها بالدراسة والتحليل على المستوى السيميائي، والدلالي، والبَصَري، وعلى مستوى الحرف؛ وهي ثلاثة مصاحف شريفة مهمة، كتب الأول الخليفة الموحدي عمر المرتضى، والثاني كتبه السلطان أبو الحسن المريني، أما الثالث فمصحف علوي شريف فريد تبرز أهمية فرادته في كتابته على (حرير أخضر ملون بالذهب والفضة)، ناهيك عما يتمتع به من أشكال جمالية محملة بكثير من الدلالات... !

كما بين المؤلف وكده من هذه الدراسة التطبيقية؛ أي "رفع قيمة الخط ليرقى إلى جمال الكلمة الإلهية " (9) كما ذكر النتيجة التي انتهى إليها من تحليله السيميائي والدلالي والبصري وهي " أن المقام التواصلي بين العناصر الجمالية في المصاحف الثلاثة وبين الاختيارات التي قامت عليها هذه المصاحف تؤكد وجود منظومة من العلاقات الروحية المبنية على الإخلاص لله تعالى، وعلى تداول المعرفة الربانية والعلوم الإلهية، وربط كل ذلك بالمادة الحرفية (الحروفية) والمادة الفنية، والجمالية، وحلولها في هذه الأنوار العلمية " (10)، وزبدة ما انتهى إليه المؤلف وهو ثمين في هذا التحليل " أن القرآن كما هو معجز بلفظه فهو معجز بخطه " (11).

ج – وقف المؤلف عند نماذج من النصوص الأدبية النثرية بالخط المغربي، وهي في قوالب تشكيلية تجريدية بدلالات متنوعة؛ تنتمي جميعها إلى (خط المسند) أو (خط العدول أو خط الطلْبة) السالف الذكر. فقد لاحظ المؤلف ما يتملك متأمل هذه الخطوط من الحيرة أمام ذلكم الكم الهائل من "نصوص نثرية مكتوبة بطريقة غريبة، مشحونة بالألغاز والرموز والإشارات وما أطلق عليه (التدهيشات) (12) المخزونة في أشكال الحروف.. وكلمات متداخلة في بعضها وكلمات مخطوطة بحروف عربية مغربية غير مألوفة، يصعب على القارئ العادي قراءتَها" وهذا عنده يتطلب الجهد والوقت لفك طلاسمه؛ لذلك وضع أمامه عدة نصوص من (خط المسند المغربي) وحللها تحليلا سيميائيا متأملا فيها وحاول فك ألغازها؛ وهي:

1- نص نثري تشكيلي؛ تناوله من بنائه الشكلي المسندي، ومن دلالته البنائية المسندية.

2- نص مخطوط بالخط المغربي الصحراوي، عرض فيه لجرد وتحليل تاريخي رصد فيه ما لاحظ من تلاحم المشهد الثقافي المغربي وكل ما أنتج بفعل التمازج الديني والفني والأدبي وفي كل المجالات الحضارية المغربية؛ ويعكس هذا جلياً عند المؤلف تدوين معاني وشروح على شكل لوحات جمالية... ومن أهم ما عرض له هنا (النعاليات)؛ وهي تلك التشكيلات المختصة بمدح النعال النبوية، التي اعتبرها المؤلف من أجمل التشكيلات التصويرية التي تميز بها المغاربة في كل المناطق المغربية، وأثبت صورة تشكيلية لأنموذج صحراوي من هذه النعال للشيخ المبدع عبد الله بن الشيخ في القرن الثالث عشر الهجري (13) وحلله تحليلا كشف فيه عما تضمنه التشكيل من نثر وشعر ورسم وزخرفات وألوان، وخط، ووضح مسلكه الجمالي والأدبي، معتمداً في ذلك وصف النعل في علاقته بمبدعه وبمحيطه وصفا واقعيا، أكد هويته الصحراوية المغربية، وقراءة أدبية نقدية طالت المتنين الشعري والنثري، والبناء البصري للتشكيل، وكان وصف المؤلف وصفا أنيقا راقياً ودقيقا طال الخط، والنعل، والتشكيل الذي توحد في مدح الرسول الأعظم عليه صلوات ربي وسلامه.

ومن اكتشافات المؤلف في هذا الجانب أذكر:

1- أن المؤلف وقف وقفة تأمل وتدبر وقراءة وتحليل عند مجموعة من الوثائق والشواهد والمراسلات الموسومة بالخط المغربي الصحراوي؛ وهي مراسلات تمت بين ملوك علويين وبين أعيان الصحراء، ومجموعة من الوثائق سبق أن نشرها خبير المخطوطات والوثائق ورائد البحث محمد المنوني، ومعها جملة من الوثائق والنصوص الأدبية والدينية، والقصائد الشعرية المختلفة كتبها مبدعون صحراويون مغاربة، والتي أفصحت عن جمالية فنية متميزة أسست لهذا الخط شخصيته الصحراوية.

2- أنه كشف عن خصائص الخط المغربي الصحراوي، وحصرها في ارتباط فنيته باللغة العربية، وفي ارتباط غناه في البهاء والرواء، وتميزه بوظيفته الجمالية والتواصلية وبطبيعته الصحراوية المغربية، وبارتباطه بلغة القرآن الكريم، وبالأدب والفن، مع اتصاف حروفه بأشكال هندسية بديعة تقع بين الخطين المغربيين (الخط المجوهر) و(الخط المبسوط)، ثم خضوع هندسته إلى تراكيب متناسبة ومتوازنة، تطبعها المرونة والمطاوعة مما يفسح المجال للخيال المبدع، وللذوق الجميل، وكذا سمك الخط، والوصلات وتنوعها في تلك النصوص الصحراوية المغربية.

3- أصَّـل المؤلف لجمالية الخط المغربي الصحراوي لما حصر طرقه الإبداعية، وقواعده الدقيقة، ورصد خصائص القلم المغربي الصحراوي باعتبارها هي نفسها خصوصيات القلم المغربي المحكوم بالبيئة الطبيعية والاجتماعية والثقافية والتقنية التي تفرز أشكالا بديعة من الحروف المتميزة، ومنها الخط الصحراوي المكتوب بأقلام مصنوعة من القصب، الجاف، المتوازن، والأملس - وبجماليات غير مألوفة للخط المغربي الصحراوي.

4- تحليل تشكيل الخط المغربي المجوهر وغيره.. بعد فرش نظري حول الكاتب ارتباط هذا التشكيل بالتطور الحاصل في الخط المغربي، واستخدامه الرمزي أو التعبيري، أو التشكيلي في النصوص الأدبية، والرسوم والزخارف المكتوبة، سواء في رسم الحروف والكلمات والجمل والنص وفق أشكال حركية في فراغات بين الحرف والآخر مع احتفاظ كل حرف بأبعاده وبجمالية خاصة به، مع إعطاء الألوان دور الخلفية تقوم على دعائم تجريدية تجاور الخط والزخرفة في الإطار الداخلي للرسم.

داخل هذا الإطار سيقرأ المؤلف في مؤلفه- قراءة سيميائية – تشكيلات خطية مغربية من الخط المجوهر لمحراب أولاً، ولمخطوط للجامع الصحيح ثانيا، وأخيراً لخط الثلث في سنبلة أو مشجر، وفي نص تخميس الكواكب الذرية في مدح خير البرية؛ تناولها جميعها محللا تحليلا دلاليا، ومعرفيا، وسيميائياً، ثم رسم أبعادها الدلالية في التشكيل على هذا النمط الذي تناول به أولها؛ وهو قراءات المؤلف لمحراب يصور الروضة الشريفة.

وقد خرج المؤلف من هذه القراءة- بعد تحليل معمق، واستنطاق لمدلولات الألوان، والخطاطات، والأبعاد الدلالية للتشكيل- بأبعاده الزخرفية والهندسية – وانتهى إلى أحكام أهمها أنه: " يمكن اعتبار النص لغة جديدة في التعبير من خلال المنطق الذي ارتكز عليه الجمال " (14) وهو ما يعني أن المؤلف وقف على روح هذا النوع من الخط المغربي بعد أن استنتج أننا إزاء نص حروفي بعلامات بصرية مقصودة في التشكيل من كاتب النص؛ وهنا يدخل جانب الروحانية- الذي أجزم أنه لا وجود له هنا– خلافا لما يرمي إليه الدكتور محمد البندوري.

5- جمالية الخط المغربي في القصائد على الجدار؛ هنا شدد المؤلف على تلازم العلاقة بين الخط والشعر وفن العمارة الإسلامية حتى قيل (العمارة الخط) وقيل (العمارة الشعر) "فبمجرد ما تذكر العمارة الإسلامية إلا ويذكر معها الخط بجمالياته غير المحدودة" كما يقول؛ فهو يذكر أن العمارة استفادت من تشكيلات جداريه ذات طابع تزييني وبخاصة في العهدين المريني والعلوي لما استأثر الأمر باهتمام الشعراء والأدباء والخطاطين الذين نزعوا نحو الإغراب والافتتان بهذا التمازج الفني. وقد ارتبط هذا بالمساجد، والقصور، والمنشئات العمرانية كالمدارس العلمية باعتبارها المحتضِـن الأول لنقوش الشعر التي افتن في تنزيلها الخطاط بما يعبر عن الشخصية الحضارية المغربية في أشكال تبهر المتلقي بصرياً لما تضمنته من أشكال شعرية حرفية دائرية أو مستطيلة، أو على الزليج؛ الأول دائري جداري، وهو لأحد كبار كتاب وشعراء الأندلس ابن زُمْرَك الغرناطي. والثاني منقوش على الخشب في المدرسة المرينية بسلا، والثالث على الزليج مثبت على جدار المدرسة البوعنانية بفاس. وقد تناول نصوصها المؤلف بالتحليل السيميائي والتشكيلي والبصري والبناء الدلالي للتشكيلات، وتتسع استعمالات هذه التشكيلات فيما يكتب على الورق، وكل ما ذكرنا يَجْمعُ الشاعر والخطاط في علاقات فطرية متبادلة، وقيم جمالية وإنسانية.

6- جمالية الخط المغربي في السكة النقدية؛ هذا أحد الجوانب التي استطاع هذا البحث أن يكشف عن مؤشرات مجهولة منها في عوالم الخط المغربي في هذا الكتاب، فالنقود المغربية اختصت بضرب الخط عليها منذ العصر الإدريسي إلى اليوم؛ فهذا المؤلف وبمستوى لا بأس به من التأمل لاحظ أن النقود في العصر الأول استعملت الخط الكوفي القديم، لكنها أدخلت بعض المرونة عليه حتى يتلاءم مع الخصوصية المغربية، أما ملامحها العامة فيمكن اختزالها في: الدرهم الإدريسي بالصورة التي جاء عليها: كتب عليه في الطوق( محمد رسول الله أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله )( كتابة مستوحاة من الآية: 28 من سورة الفتح ) ، وفي الوسط علي – محمد رسول الله – إدريس؛ أما جمالية الخط في هذا الدرهم فقد أبدع المؤلف كثيراً في تحليلها دلاليا من خلال مؤشرات سيميائية دقيقة.

وانتقل المؤلف إلى تحديد عناصر الكتابة الخطية الموحدية وعرض لها من خلال نماذج من النقود الذهبية الموحدية فوجدها تتشكل من حروف خط الثلث المغربي المنقوشة بالطريقة المركبة المتداخلة، وحلل دلالتها واستجلى رموزها المشكلة لهويتها.

أما بعد،

الدكتور محمد البندوري بهذه الدراسة القيمة التي نمت في أحضان الجامعة المغربية يكون قد كشف عن مؤشرات مجهولة في عوالم الخط المغربي، وهو بذلك- في واقع الأمر - رتق خرقا في جدار الفكر والفن في المغرب المعاصر، وناب بجُهده وجَهده عن المغاربة جميعاً في إعطاء صورة ناصعة عن مدى وعيهم وعمق ثقافتهم للأمة جمعاء؛ وذلك بجهد مشكور في مجال الخط المغربي الغائب والمغيب في عوالم الخط المغربي من خلال كتاب نفيس" جمالية الخط المغربي في التراث المغربي "، إنه عمل مقدر بصم على أهميته، سيدي عباس أرحيلة لما أجازه في الجامعة المغربية، وسيدي عبد الجليل هنوش وقد أشرف عليه لا ليأكل ثمرته العلمية الباحث فقط، وإنما حتى يصبح علامة على صاحبه، وإضافة نوعية في موضوعه، ووسيلة من وسائل الدفاع وصيانة بيضة الإسلام الباقية في هذا البلد الأمين.

 

بقلم: ذ. عبد الرحمان الخرشي

........................

(1) بلعيد حَمِـيدِي عضو اللجنة التأسيسية لاتحاد خطاطي العالم الإسلامي، من تصريح لمحطة تلفزيونية عربية.

(2) عمر أفا ومحمد المغراوي." الخط المغربي: تاريخ وواقع وآفاق ". وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. ط1- 2007.

(3) د. محمد البندوري" جماليات الخط المغربي في التراث المغربي – دراسة سيميائية ". منشورات مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والاتصال، المطبعة والوراقة الوطنية- مراكش. 2016، ط1. ص: 113.

(4) نفسه. ص: 113.

(5) نفسه. ص: 113.

(6) معلمة تاريخية واقتصادية واجتماعية، انتشرت في المغرب منذ أزيد من ألف سنة، وهي تراث إيكولوجي ارتبط بتدبير الماء عبر أروقة تحت أرضية، مع الأسف ضاع منها الكثير...

(7) د. محمد البندوري" جماليات الخط المغربي في التراث المغربي – دراسة سيميائية ". منشورات مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والاتصال، المطبعة والوراقة الوطنية- مراكش. 2016 . ط1. ص: 113.

(8) نفسه. ص: 139.

(9) نفسه. ص: 178.

(10) نفسه. ص.ص: 178 – 179.

(11) نفسه. ص: 179.

(12) قصد ما يعتري الناظر من ذهول وارتباك وهو يرى في أشكال الحروف ما لا يتوقعه.

(13) نفسه. ص: 192.

(14) نفسه. ص: 247.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم