صحيفة المثقف

نافذة على مسيرة المسرح العراقي

جوزيف الفارسلوعدنا الى الماضي من تاريخ مسرحنا العراقي، وتصفحنا البحوث والدراسات وتقييم النقاد لما كان عليه مسرحنا وبالذات فترة الستينات وما بعدها، لشاهدنا ان هناك حضورا لمسرح متطور، ولا سيما بعد انهاء اساتذتنا الرواد دراستهم وعودتهم الى الوطن، من امثال المرحوم الاستاذ ابراهيم جلال والمرحوم جعفر السعدي والاستاذ المرحوم بهنام ميخائيل والاستاذ جعفر علي وجاسم العبودي، وتوقفنا عند بداية عودتهم واستعرضنا ماقدموه من اعمال تميزت باساليب حديثه وابداع في الاخراج ابهرت النقاد بعروضهم المسرحية .

فمن منا لا يتذكر مسرحية عقدة حمار من تاليف الكاتب الكبير الاستاذ عادل كاظم واخراج الاستاذ ابراهيم جلال ؟ ومسرحية فوانيس من تاليف الاستاذ طه سالم واخراج ابراهيم جلال ومسرحية الطوفان من تاليف عادل كاظم واخراج ابراهيم جلال ومسرحية القرد كثيف الشعر من تاليف يوجين اونيل واخراج الاستاذ سامي عبد الحميد ومسرحية يوليوس قيصر لشكسبير واخراج الاستاذ المرحوم جعفر السعدي وهاملت من اخراج المخرج المبدع والمتالق في عالم الاخراج الاستاذ حميد محمد جواد والذي ترك اسلوبا حديثا في الاخراج المسرحي قل نظيره، ومسرحية عدو البشر من اخراج الفنان الكبير الاستاذ بدري حسون فريد .

ومن منا لا يتذكر ماقدمه المخرجون العظام من الاسماء الانفة الذكر واخرين من كواكب الاخراج المسرحي امثال الاستاذ سامي عبد الحميد في مسرحية انتكونا والحيوانات الزجاجية، والمرحوم الاستاذ قاسم محمد .

ان ماقدمه اولائك العمالقة من اعمال مسرحية، ابهرتنا واثرت في نفوسنا وزادتنا خبرة وتجربة واطلاعا،عما جلبوه معهم من الثقافة الاكاديمية في الفنون المسرحية، اضافة الى ماقدموه من اعمال مسرحية تميزوا من خلالها عن اقرانهم من المخرجين العرب، جسدت قدراتهم الابداعية الاخراجية في المحافل المسرحية والمهرجانات المسرحية العربية، من خلال ماحصدوه من الجوائز المعنوية والتقديرية .

هذه المسيرة التي تالقت وزادت القا، من خلال تجارب وعروض مسرحية اضفت على واقعنا المسرحي واقعا اكاديميا، وخلق جيل مثقفا ومتاثرا باساليبهم الاخراجية الابداعية والحديثة برؤية معاصرة اضفت على حركتنا المسرحية العراقية تاريخا لامعا متطورا ومتقدما عن تجارب المخرجين الاخرين من زملائهم في الوطن العربي .

ونحن ابناء جيل الاربعينيات كنا محظوظين بتلمذتنا على ايديهم واكتسابنا من الخبرة والثقافة الاكاديمية، مما تمخظ عن تخريج دفعات من الاكاديميين البارزين في حقل التمثيل والاخراج المسرحي من امثال المرحوم الدكتور عوني كرومي، والدكتور عبد المرسل الزيدي، والدكتور صلاح القصب، والدكتور فاضل خليل .

هذا الرعيل الثاني من حملة الشهادات العليا رسخوا مفاهيم مااكتسبوه من اساتذتنا الرواد من حقول تجاربهم واعمالهم واطروحاتهم، زادتهم القا ونجاحا .

كانت للعروض المسرحية انذاك اهداف سامية وانسانية ووطنية، وقد تعرض الكثير من استذتنا الى الاظطهادات والظغوط النفسية من قبل حكام انظمة تلك الفترة، مما خلقت في نفوس اساتذتنا عاملان لواقع حالهما، الجرأة والخوف، فكانوا يعيشون ازدواجية مابين الاقتحام والحذر، خوفا من ملاحقة الانظمة انذاك لهم ومحاربتهم بشتى الوسائل الوحشية ووضعهم تحت رقابة صارمة تحد من انشطتهم وتحركاتهم، فعلى سبيل المثال، حينما عرضت مسرحية عدو الشعب لهنرك ابسن في معهد الفنون الجميلة وكانت من اخراج الفنان الاستاذ الكبير بدري حسون فريد، فمن اجل التلطيف والمداعبة قال الفنان المرحوم طعمه التميمي بلهجة لا تخلو من المزاح (استاذ شنو رأيك انجيب ويانا البطانيات ومن بعد العرض حتى كبل للتوقيف؟) .

وكذالك مسرحية يوليوس قيصر، حينما عرضت، فبالرغم من كونها مسرحية كلاسيكية شكسبيرية تحكي عن صراعات اشراف روما فيما بينهم ونامرهم على عرش قيصرها سيزار الا ان الاستاذ المرحوم جعفر السعدي قرب احداثها من احداث العراق المعاصرة انذاك والمتشابهة بالظروف التامرية على كرسي الحكم والانقلابات العسكرية المتلاحقة، بحيث اضفت على العرض المسرحي متعة الفرجة والمتابعة الشيقة لاحداث العمل المسرحي، حيث نجح هذا العرض المسرحي ولامست فكرته وجدان واحاسيس الجمهور العراقي انذاك .

كان لاساتذتنا الرواد ملكة في اختيار النصوص الجيدة، وملائمتها للظروف الاجتماعية والسياسية والظرفية على السواء،وكان من اهداف اختياراتهم، انها ملائمة لواقع الشعب العراقي ولمعاناته، والغرض من ذالك توصيل الافكار التقدمية والعواطف الوجدانية برؤية معاصرة تطرحها الاحداث المسرحية، بصراع متنامي فيها شيئا من الحبكة تساعد على خلق عنصر التشويق والشد مع تتابع احداث العرض المسرحي وعلى سبيل الذكر والمثال على ذالك، مسرحية الحصار من تاليف الاستاذ الكبير عادل كاظم واخراج الفنان الكبير الاستاذ بدري حسون فريد والتي تالق في بطولتها الاستاذ الفنان المبدع المرحوم ابراهيم جلال، ومسرحية البيك والسائق لبريشت، ومسرحية البقرة الحلوب من تاليف الكاتب المبدع طه سالم، وكثيرة هي النصوص والاعمال التي شهد لها النقاد وابهرت المعنيين بالفنون المسرحية، وكان لها حضورا جماهيريا واسع النطاق. وجاءت الفترة المظلمة والمأساوية للمسرح العراقي بعدما كان اشعاعا ومنبرا يتطلع اليه مثقفي المسرح العربي والعالمي هذه الفترة التي اطلق عليها بعض المتطفلين على الفن المسرحي، بالمسرح الجماهيري الكوميدي، والبعض الاخر اطلق عليه بالمسرح التجاري،، ان هذه الفترة القاسية لم تكن من سمات المسرح العراقي، بقدر ماكانت فترة مظلمة وقاسية بحق المسرح والمسرحيين وهدم كل معالم التطور والابداع في الاعمال التي قدمها روادنا من اساتذتنا الاجلاء،، هذه الفترة والتي سميت فيما بعد بالمسرح التجاري، اي العروض التجارية، وفي الحقيقة ان هذه العروض والتي سميت بالمسرحيات التجارية، هي تسمية خاطئة لعدم معرفتهم عن حقيقة المسارح التجارية سوى ان جل اهتمامهم كان تسطير الطوابير من الجمهور المشاهد على نوافذ التذاكر الذي جاء ليقظي سويعات من الضحك على الهرج والتهريج . بقي ان تعرف عزيزي القارىء ان حقيقة المسرح التجاري ومفهومه الصحيح هو مسرح ليس بمؤسساتي ولا يمت باية صلة الى الدولة ولا الى اية مؤسسة اعلامية او ثقافية حكومية، انما هو مسرحا اكاديميا بعروضه ويعتمد انتاجيا على التمويل الذاتي ، وما يطرح من على خشبته، هي بالحقيقة عروضا مسرحية ملتزمة باهداف وعناصر ومقومات ومواصفات النصوص المتكاملة المضمون والشكل، وكانت تقدم باساليب اخراجية تكنيكية فيها الكثير من الابداع والجمال والتالق ينافس العروض المؤسساتية، بل وفي معظم الاحيان يتفوق بعروضه على مثيلاته من العروض المسرحية المؤسساتية من الفرق القومية والجماهيرية والخاضعة للدولة، وهذه العروض في المسرح التجاري تكون خاضعة لرقابة جماهيرية، ومتابعة النقاد المسرحيين لها لتشخيص العروض السيئة وتشجيع المثقفين منهم بالدعم المعنوي والاعجاب والتأكيد على جودة هذه العروض المسرحية . ان ماكان يطرح من خلال المسرحية التجارية نموذجا للدراما الحقيقية، كوميدية، ساخرة تحمل مضامين انسانية وافكارا تقدمية، وطبيعة شخوصها من الواقع الجماهيري، مجسدة احاسيسه باسلوب كوميدي وساخر، هو هذا المفهوم الصحيح للمسرح التجاري، مسرح اكاديمي يختلف بتجربته عن تجربة الفترة المظلمة من تاريخ المسرح العراقي ولا سيما في فترة الحرب العراقية الايرانية، حينما كانت تعرض مسرحيات رديئة بافكارها، وبذيئة بحواراتها، مستعرضة من خلال عروضها الرقصات البعيدة عن المهارة الفنية، والاغاني ذات الكلمات التي لا ترتقي بنظمها الى رقي الشعر الحديث والحانها مادون المستوى والتي لا تمثل الاصالة للفن الموسيقي الاصيل . كتب محسن ابراهيم في الشبكة عن المسرح التجاري الرديء (لم تكن قاعة المسرح توحي لك انك ستتمتع بطقوس المشاهدة المسرحية، موقعها وسط سوق بيع الاقراص الرخيصة والمبتذله، وفضائها الضيق وخشبتها التي لا تتسع لبضعة ممثلين ما يؤدي الى فوضى التواجد على خشبة المسرح، وغالبا ما يبدأ العرض المسرحي بصراخ خلف الستاره ويدخل الممثل راكضا، مشهدا ما غالبا يتكرر في اغلب هذه المسرحيات فضلا عن وجود الراقصة والتي لا تمت للعرض المسرحي وبنية النص . وهذا ماكان واضحا في عدة مسرحيات، حينما يتعاقد المنتج مع احدى المطربات لتحضر في منتصف العرض المسرحي ومن ثم تغادر من دون ان تترك اي اثر في بنية النص وكأنها اقحمت من اجل زيادة التدافع على شباك التذاكر . كل الاشياء لا تمت للمسرح بصلة، بدأ من الديكور وتوزيع الانارة والصوت) ان مثل هذه العروض الرديئة لم تضيف شيئا الى العروض السابقة من فترة العصر الذهبي لنهضة المسرح العراقي، بقدر مااسائت الى مسيرة ونشأة هذا المسرح العظيم والذي كان يوما منارا وفنارا للمتعطشين للعروض المسرحية الجيدة، وهكذا اصاب الاحباط ضمن هذه الفترة من مسيرة المسرح العراقي وقتلت امال وطموحات الكثير من الشباب المثقفين اللذين قاطعوا هذه العروض المسرحية للفترة المظلمة من مسيرة المسرح العراقي، وضحيتها كان الجمهور المشاهد والمتراصف بطوابير طويلة على شباك التذاكر، بغية مشاهدة ماكان يحلم به من عروض ترتقي الى مستوى الابداع والجمال، ومضامينها مضامين جوهرية ترتقى الى وجدان الانسان المثقف ، الا ان من بعد انتهاء العرض المسرحي، يخرج لاعنا تلك الساعة التي ساقته قدماه الى شباك التذاكر، ونادما لا على ثمن التذكرة بقدر ماكان نادما على صرف وقته في عرض فاشل لم يرتقي الى مستوى ماكان يحلم به . فالمسرح عزيزي القارىء وكما يقول منير كسرواني (هو مساحة التغيير للمجتمع لا للترفيه، على المسرح ان يحقق التواصل باعلى درجاته بين الممثل والجمهور، فان استعمل المخرج او الكاتب الاسلوب الساخر او الكوميديا لتكون في خدمة اهداف المسرحية، المسرح حياة، وان سقطت مرة واحده فتسقط الى الابد، لانها مسالة حياة او موت) .

في هذه المرحلة بالذات اي مرحلة مابعد الحرب العراقية الايرانية برزت كوكبة من المؤلفين والمخرجين اخذت على عاتقها زمام المبادرة بالنهوض بالمسرح العراقي وفض عنه تراب المرحلة المأساوية، واعادته الى حيث ماكان عليه من الرقي والسمو، الا انها لاقت معوقات فوضوية، من خلال الاوضاع الغير اعتيادية وانشغال الراي العام بالاوضاع الاقتصادية والسياسية الجديدة وكانها تنبىء عن احداث غير مطمئنة، انما كان ماكان ودخل العراق في حرب الخليج (عاصفة الصحراء) وهنا كانت الطامة الكبرى (مارضينا بجزه هنوب جزه وخروف) حيث اثرت هذه الظروف الغير الاعتاديه على كل مفاصل الحياة، الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، والتحاق معظم الفنانين للخدمة العسكرية، وانحلت الفرق الجماهيرية (المسرح العمالي والمسرح الطلابي والشبابي والفلاحي) وتجمدت اعمال الفرقة القومية .

مابعد هذه المرحلة من تاريخ العراق وتغيير نظامه بنظام جديد، اصبح لزاما على الفنان المسرحي ان يعيد اوراقه وان يستفيد من الماضي المشرق لتجربته المسرحية، وان يستلهم من التاريخ والحضارة حاضرا ومستقبلا مسيرة تهدف الى اعادة التكوين الصحيح، لا فيما يتعلق بسلوكية الفنانين، وغسل افكارهم وترسيخ اهدافهم، وانما يتخطى كل هذا الى ايجاد تكوينا جديدا يقدم رؤية فنية معاصرة للمجتمع الذي عانى ماعانى من ظروف الحرب، وابعاده عن المشاهد المأساوية والمسامع التعبوية من وسائل الاعلام المختلفة لتلك الفترة الغير المستقرة .

لذا كان لزاما على الفنان المسرحي واجبا في البحث عن اساليب جديدة وعروضا مسرحية تلتزم بقضايا الانسان العراقي، وطرح القضايا المصيرية ومعالجة ما تركته اثار ومخلفات الحرب المدمرة من حالة نفسية معقدة، هدمت كل مابناه الرواد والاجيال المتلاحقة . اصبح لزاما في البحث عن صرح مسرحي اكاديمي يعالج الاوضاع الراهنة باساليب اكاديمية لا تخلو من عناصر ومقومات الاساليب الحديثه لمسرح يخدم المفاهيم الانسانية والافكار المتحررة، مسرحا خارجا عن المالوف وعن التقلبيد الكلاسيكي، لا يخضع الا للمستجدات للنظريات الحديثة والمبنية على الرؤيا المعاصرة للمسرحيين العراقيين في التاليف والاخراج .

وهكذا بدات المرحلة الجديدة مابعد الحرب العراقية الخليجية واثار الدمار الشامل للبنية التحتية حيث شملت الحياة الاقتصادية والثقافية والحياتية للانسان العراقي، حيث تدهورت حالة الامن والاستقرار، واصبحت هموم المواطن العراقي البحث عن قوت يومه، واصبحت الحياة اليومية للفرد العراقي لا تطاق من جراء تهديم معالم الحضارة وصرح الثقافة والفنون، حيث امتدت الى مفاصل الحياة الاقتصادية، حيث اصبح المواطن العراقي لا يبحث الا على مايسد رمقه وجوعه، وهذا مالحق بالفنانين العراقيين عامة، والمسرحيين خاصة، مما اضطرتهم الظروف القاسية والتي لا يطاق تحملها مقارنة مع ماكانت عليه الظروف الشبه المستقره مافبل الحرب، مما اظطر معظم الفنانون ان يبحثوا لهم عن ملاذ امن للعيش بامان واستقرار تاركين كل مابنوه لاهواء الغرباء واللذين جاؤو لتهديم معالم الحضارة والاعمار، وتخريب البنية التحتية للشعب العراقي، وشاع الفساد والخراب، واتسعت رقعة الظلم والظلام، وتخلخلت الاوضاع الداخلية، مما جعل جل اهتمام المعنيين والمسؤولين في النظام الجديد عن استتاب الامن والاستقرار الداخلي، -----ولكن من دون جدوى-----

وهكذا انسدل الستار عن المسرح العراقي وتوقفت حركته ومسيرته بعد ان هجره معظم الاساتذة من المخرجين والكتاب المسرحيين والمعنيين بالفن المسرحي الى بلدان عربية واجنبية اكسبتهم هوية جديدة بدلا من الهوية العراقية، انما بحقيقة اصالته بقي متعلقا بجذره الذي لا ينتمي الا الى الارض التي نبت منها، وهو يعاني مرارة الهجره، والحنين الى ارض الاباء والاجداد .

 

جوزيف الفارس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم