صحيفة المثقف

الحنين الى الماضي وانسداد الافق

محمد حسين النجمليس دفاعا عن عبد الكريم قاسم الذي يحاول الاغرار تحميله مسؤولية اسقاط (الدولة الدستورية) بإسقاط النظام الملكي، ويتناسون بان اول حركة انقلابية في العراق جرت على يد بكر صدقي في ثلاثينات القرن الماضي، وتبعتها (دكة) رشيد عالي الكيلاني مفتتح اربعينات القرن ذاته .

ان تزييف الحقائق والتباكي على نظام عفن كالنظام الملكي هو احد افرازات انسداد الافق، فهذا الشعب الذي دفعته قوى الاسلام السياسي بممارساتها الشائنة الى ان يرى بان اساس المشكلة هي الحنين الى ماضي الدولة الاسلامية الذي تحاول هذه القوى ربط آمال الشعب به، قد تناسى بانه لم يبتعد قيد شعرة عن ذات الايديولوجية . فالذين يتباكون على النظام الملكي، او عهد الجمهورية الاول او حتى عهدها الاخير لا يختلفون كثيرا عن اولئك . فاذا كانت التجربة الاسلامية الاولى زاهية باعتقاد من يتبنون التوجه الاسلامي، فان الاخرين كذلك كل يتباهى بليلاه، ولكن هل يكفي هذا ؟ هل كان زهو التجربة الاسلامية الاولى مانعا من استيلاء المدعين الذين اوصلوها الى ان تكون سبة ينفر منها من يسمعها؟ واذا كان المدعين لتلك التجربة ممن ينبغي ان يكونوا على مخافة من الله تعصمهم من ان يفعلوا ما فعلوا، فهل التباهي بتجارب اخرى سيكون عاصما من الانزلاق الى ذات المنحدر؟

المشكلة اننا شعب بسيط تم تجهيله على مدى عقود، ولهذا صار مطية ينساق وراء كل افاك، بل وصل الحال الى ان يكون حالما احلام يقظة، متمنيا، وهو يرى فساد من وثق به، بان يكون الخلل بغيره لكي يمضي في تقديم فروض الطاعة له . ان شعبا بسيط جاهلا لا يمكن ان يكون قادرا على فتح الانسداد في الافق والنظر ابعد مما يزينه له خادعوه . وهكذا تقاسم الامي مع المثقف ذات المسار بالحنين الى الماضي، هذا لذلك الماضي وهذا للأقرب، وضاع اي مسعى لاجتراح هدف مستقبلي يمكن ان يخرج الشعب من وهدته التي يتحمل، بجهله، جزءا من مسؤوليتها .

اتذكر حادثة يرويها الدكتور علي الوردي في كتابه (وعاظ السلاطين)، تلك التي وقعت بفرنسا . اثنان من المغتربين في فرنسا، يتجادلون عن احقية علي ام ابي بكر بالخلافة وبصوت عالي وبلغة فرنسية اثارت انتباه احد السامعين الفرنسيين فبادر بسؤالهم : متى ستجري الانتخابات؟

فالذين يتباكون على الحكم الملكي او حكم عبد الكريم قاسم او حكم البعث، ليسوا بأفضل حال من المتباكين على التجربة الاسلامية الاولى، ولا اولئك المغتربين، فالخلل الاكبر ليس في استنساخ تجربة، بل في المستنسخ . واذا كان رواد تلك التجربة قد استطاعوا ان يجترحوا ما وجدوا بانه يخدم الاغراض، بغض النظر عن كونها اغراض وطنية ام خاصة، فان المخزي ان يكون شعب قوامه اكثر من ثلاثين مليون نسمة لا يجد القدرة على ان يرسم له مستقبلا كفيلا بان يجعله بمصاف امم لا يتعدى سكانها عشر معشارهم، ولا يجيد الا التباكي على ماض ولى ولن يعود، سواء كان بعيدا او قريبا .

ان اسوء ما اعتدنا عليه طوال عقود هو العزة بالإثم، فنحن لم نرتق الى مستوى شعب قادر على ان يرسم مستقبله، بل لازلنا قطعان متوحشة تنظر الواحدة للأخرى بصفتها مغنم يجب التهامه، بل والأنكى من ذلك ان مثلنا لا يختلف عن طاووس يقف في مكب نفايات وهو يفرد اجنحته متباهيا . فنحن نتباهى بمن سلبنا مستقبلنا ليبني مستقبله، وسرق احلامنا ليحقق احلامه، بل و(نغص) عيشتنا لكي يمتع نفسه وحزبه ، واصبحنا يده الطولى التي تبطش بمن يصدح بكلمة حق .

نعم انها ثورة المحرومين الذين فقدوا كل شيء، وليس لمن فقد كل شيء ان يخشى ضياعا، ولكن هل يكفي ان يثور شعب بدون افق؟ وهل يمكن للفوضى ان تخلق نظاما؟ والمؤسف ان تتفرج القوى الواعية (الانتلجنسيا) الى ما يجري بعين الترقب لا اكثر، اعتقادا منها انها يمكن ان تحقق مكسبا، متناسية ان ثورة بدون اهداف واعية، لابد ان تكون عرضة للمصادرة وركوب المغامرين .

يمكنك، بموجب ما متاح لك من وسائل التواصل الاجتماعي، ان تثير المحرومين، ولكن واجبك ان تجعلهم على بينة بالحقوق التي حُرموا منها، ورسم الخطى التي تسترجع تلك الحقوق، اما ان تساهم بالإثارة فقط، فهو ما يرتجيه المغامرون لركوب الموجة، والعودة الى قرن اخر من الفشل والالام والتضحيات . ان المثقف العضوي، حسب غرامشي، هو الذي ينير الطريق امام شعبه، متفاعلا معهم لتحقيق ما يراه سبلا كفيلة للوصول الى المستقبل المنشود . ان منطق (اخبطها وهي تصفه) الذي يرتكن اليه الكثيرون، لا تعبر عن انتماء حقيقي الى وطن، بل منطق من لا يجد غضاضة بان تسيل الدماء لمن اثارهم، ما دام يقعي هناك على دكة متفرجا، وهو ما يجعلهم لقمة سائغة لكل مغامر .

 

د. محمد حسين النجم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم