صحيفة المثقف

إلحاف

صحيفة المثقفحدث ذلك ذات صباح ربيعي بليل . كانت بلابل الجذل تغني في رأسي تغريدتها العذبة الرقيقة التي كانت وما تزال تملؤني بالتفاؤل وتفتح لي بابا مؤطرا بالندى لأطل منه على رحاب الفرح المتوج بالحب والحياة حيث يفرش الحبور عباءته الوردية على مدى وسعة أمام عينيَّ، ولم يكن ذلك يحدث غالباً، لم أزل آنذاك طالبة جامعية في مقتبل العمر . وحين يحدث وهو نادر أي تفتحي للحياة والأمل يكون ذلك عيدي وأنا أُحاول أن أتشبث بكل لحظة منه كما يتشبث الغريق بقشة. ما إن وصلت حافلة نقل الركاب وحشرت جدثي فيها وقوفا كما الآخرين، ومن فسحة ضيقة وقعت عيناي على فتاة تدرج بين الطفولة والصبا ما زالت ترتدي معطفها وإن كان الجو يميل الى الحرارة . وحين أخرجنا من محافظنا النقود أو التذاكر مسبقة الشراء - وهذا وارد بكثرة حينها وخاصة للموظفين والطلبة - ارتدّت عيناي كرة أُخرى الى الفتاة لسوء حظي لأجدها تعاني وترهق لإخراج تذكرتها من الحقيبة ولفت نظري ذلك بشدة لأنها استعملت يدا واحدة، زحف بصري ببطء الى يدها الأُخرى تلقائيا فوجدتها داخل جيب المعطف هامدة كالموت نفسه . وهنا بدأ السؤال لا الفضولي بل المشارك وجدانياً يحفر لنفسه في دماغي نفقا غميقا وصار كما مصيدة تلقي أسنتها على عقلي فتأسره بين فكيها كان السؤال ملحفاً ملحاحا بدرجة لا تطاق

: ما ليدها لا تتحرك؟! فهي حتما لها يد وها بعض لحمها يطل فارضا وجوده على الوجود يتراءى من أعلى فتحة جيب المعطف على العالم بخجل واعتذار، لم يكن ذلك يعني شيئا كما يفترض لي.. لولا القلق لمصير الأشياء والنابع من وجدان حي كأنه مكلف بشؤون الآخرين حفظا ورعاية. غدا استجلاء ذلك همي كما لو كنت سأعالج العقدة وأفكها بمجرد الاهتمام والتفكير فيها . مر النهار مغلفا بالسؤال الملحاح وتوشحت دقائقه بتشرذم فكري بين المحاضرات وبين الإصغاء للمناقشة الدائرة في قحفي وفي قعر عقلي عن سبب عطل اليد أهو الشلل أم هو شيء آخر. كواني السؤال الغبي المغرق في تعاطفه حد التماهي مع غموض السبب طوال نهاري فكأنه عقوبة أعقبت لحظة الانشراح الصباحي لتسرقها مني غيرة مني وكيداً. حتى الابتسامات التي رسمتها على شفتي يومي ذاك مجاملة لمزح الزملاء وتعليقاتهم المرتجلة الفاهية أو الفجة اشمأزت مني لزيفها وكان فشلي في ما جرى من نقاشات في داخل المحاضرة وخارجها واضحا وإخفاقي بيّناً، حتى عدت لداري عصرا فوجدت في الدار ضيوفا لأختي كان عليَّ أن أرحب بهم قبل أي شيء آخر حتى قبل أن أنضو عني وعثاء النهار ... توجهت الى غرفة الضيوف مباشرة وإذا بمحور السؤال الملحاح تمثل أمامي بشخصها وبمعطفها وبيدها .. ذهلت أولا ثم جلست بعد التحية على طرف مقعد،،،، زارتنا الفتاة في صحبة خالتها صديقة أُختي   .. والحكاية .. إنها وهي في روعة الطفولة وسذاجتها لمست وهجا أحبته عندما كانت تلعب في سطح المنزل، كان الوهج الذي يتلألأ أمام عينيها الطفلتين ينبعث من تماس كهربائي في أعلى عمود كهربائي مولدا شمسا من ألق يتشظى، كان مغريا كألف دمية مجتمعة .. مضت نحوه ومسكته كما لو انها تريد أن تقطف ماسة من تاج الحياة فأهدى لها موتا طال - لا أدري لحسن حظها أم لسوئه -   كامل ذراعها ويدها فحسب .

***

 

سمية العبيدي

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم