صحيفة المثقف

الطغاة والفاسدون يتشابهون في سلوكياتهم

في زمن النظام السابق، نظام صدام حسين، كنت اتابع ما يجري على الساحة العراقية من إنتهاكات لحقوق الإنسان على كافة الأصعد الحياتية، واعيشُ حالة من التأمل، تأملاً يجتاح حدود مملكة العقل، وكنت اتساءل مع نفسي دائما: لماذا لا يتعامل نظام صدام حسين مع الشعب العراقي المتعطش للحرية، للسلام، للمحبة، مثل باقي شعوب الله في بلاد المعمورة بطريقة إنسانية، وبإسلوب آخر تمتد إليه يد الرحمة والمحبة والإنسانية بدلا من يد القسوة والبطش والفتك والترهيب؟

لماذا يعيش صدام حسين حالة البذخ والنعيم في قصوره المظللة بكل ما يشتهيه المرء في الحياة الدنيا، ويقيم سنوياً حفلات اعياد الميلاد التي تكلف ميزانية الدولة الملايين، في حين يعيش الشعب العراقي المغلوب على امره حياة الفقر والعوز والتشظي، سيّما والحصار المفروض ظلماً من قبل صنّاع الديموقراطية المزيفة، ورعاة الإنسانية الكاذبة، يحفر البؤس والقهر في وجوه العراقيين وهم يتنفسون العوز، ويأكلون الجوع، ويبحثون عن لقمة العيش في متاخم الألم والقهر؟

لماذا يبعثر صدام حسين خيرات الوطن وينثرها في مهب الريح ليتخم ذا الوطن بترسانته العسكرية التي لم نجنِ منها سوى الموت والدمار، ويحّولنا الى مجتمع منغلق لا نعرف من أبجديات حياتنا إلا لغة الخوف والترهيب من خلل عسكرة المجتمع وإنهاء دوره الإنساني، ويبعثر ارواحنا في حروب وصراعات لا طائل منها؟

لماذا يلقي صدام حسين بمن يشك في انتقاده لسياسة حزب البعث في غياهب السجون ليكون رقماً بين الأموات، ويصبح في خبر كان؟

لماذا لم يشعر صدام حسين ولا للحظة واحدة بعذابات وقهر ومعاناة وفقر العراقيين وهم يعيشون البؤس والضياع والحصار؟

لماذا يسمح صدام حسين لأولاده واقربائه ومقربيه وحاشيته فقط بممارسة لعبة الحياة من أوسع أبوابها ولا يسمح للعراقيين بإستنشاق هواء الحرية؟

لماذا فقط صدام حسين هو وعائلته ومقربيه وحاشيته لهم الحق في نفخ بالونات غرورهم وطيشهم وحماقاتهم، وركوب زوارق الإستجمام والتمتع في استنطاق مباهج الحياة، والتمتع بكل ثوانيها ودقائقها، هم وحدهم من يحق لهم الحياة، وهم وحدهم من يعيشون الحياة، ونحن - ابناء الشعب العراقي البائسين المعذبين المسحوقين - علينا ان نكون حطباً لحروبهم، وعبيداً لهم، وارقاماً مهمشة في سجلات دائرة النفوس، لا يسمح لنا بالصراخ، لا يسمح لنا بالكلام، لا يسمح لنا بإنتقاد سياستهم التعسفية الأجرامية، ولا يسمح لنا حتى ان نقيم عزاءً لمن اغتالته ماكنة موتهم وجبروتهم؟

لماذا يغلق صدام حسين افواهنا، ويغلق أبوابنا، ويغلق مسامعنا، ويغلق عقولنا، ويحجر علينا؟

لماذا ولماذا ولماذا، حتى شاخت تلك التساءلات اللماذية في أسفل قاع تأملاتي وامتلئت تلك الـ ماذا قيحاً وألماً وقهراً دون ان تجد لها جواباً شافياً.

*           *           *

وبعد سقوط نظام صدام حسين ومجيء احزاب جديدة لم يكن لها ذكرٌ في خارطة الوطن، ولم يكن لها ذكرٌ في ملامح الوجوه، وهبوب ريح ما يسمى بالديموقراطية المزيفة، عرفت شيئاً واحداً، شيئاً واحداً عرفته لا غير، شيئاً واحداً جعلني اغلق كل ابواب تساءلاتي وتأملاتي واعتزل الحياة في غربتي واعيش حالة العزلة التامة.

عرفت اجوبة تلك الـ لماذا الإستفهامية التي اتخمتُ روحي بتأملاتها.

عرفت لماذا صدام حسين كان يحجر علينا، ولماذا صدام حسين كان يغتالنا، ويغتال اصواتنا، ويغتال افكارنا، ويغتال عقولنا، ويحجر علينا، وعرفت اسرار تلك اللماذا الإستفهامية التي طالما شغلتني وشاغلتني بأسئلتها المبهمة الأجابة، لاني عرفت شيئاً واحداً، وتيقنت منه، إنها الحقيقة لا غير، إنها الحقيقة المرةُ، الحقيقة المكبلة بجيوش الوهم.

عرفتُ وعرفتُ وليتني ما عرفتُ، عرفتُ ان كل الحكام الذين يدعّون الوطنية، ويدعّون الأخلاص، ويدعّون محبتهم للشعب ما هم إلا كاذبون ومخادعون، وما ادعاءاتهم، وكلماتهم المعسولة، واناشيدهم المعبأة بالوطن والوطنية إلا مجرد ترهات واكاذيب وخدع، يحاولون بها تلميع صورهم، وتوسيع نفوذهم، وتثبيت اركان انظمتهم واحزابهم ليس إلا.

عرفت أن كل الحكام متشابهون في اجنداتهم البوليسية والقمعية، في اكاذيبهم، في سرقاتهم، في اغتيالاتهم، وتصفياتهم للشعوب المتطلعة لوهج الحرية، المتطلعة للعيش بكرامة وامان.

كلهم متشابهون وان اختلفوا في طريقة لبسهم لمخارج الحروف والكلمات المنمقة، وان اختلفوا في طريقة تمثيلهم للوطنية المزيفة على مسرح الوطن المذبوح برصاصات غدرهم ولعنتهم وسرقاتهم وطغيانهم.

*           *           *

حينها عذرت صدام حسين الذي كرهتهُ منذ طفولتي، طفولتي التي يتمتها سنوات حكمه المستبد، سنوات حكمه التي أيبست ثمار الروح واجهضت اجنة الروح في بطون امهاتها، واغتالت احلام العمرِ، العمر الذي لم يذق، ولم يتذوق إلا البؤس والحرمان والفقر ولغة الحروب على امتداد خارطة الوطن.

كرهتهُ مثلما كرَهَتهُ حروفي وكلماتي وعذاباتي وتأملاتي، وحتى مسامات آهاتي ..

كرهتهُ بكل ما لهذه المفردة من عميق المعنى، ووخز الألم.

كرهتهُ لأنه اغتالَ وطناً أسمه العراق.

أغتاله بجبروته، وحروبه، ونزواته، وطغيانه، وتمرده، وتفرده، وركوبه زورق الغرور والعنجهية والتمرد على قوانين الوطن والإنسانية، وتهميشه وتجاهله واحتقاره للعراقيين.

ولكني الآن عذرتهُ ..

أتعرفون لماذا عذرتهُ؟

عذرتهُ لا لأنني استبدلتُ جلدي بجلدٍ آخر كما استبدله الإنتهازيون والنفعيون والوصوليون والمتسلقون حينما خلعوا جلدهم القديم المستهلك وتحولوا بليلة وضحاها، الى معارضين ومناضلين وثوريين وتوزعوا كما قردة ألعاب السيرك بين هذا الحزب وذاك الحزب. حاشا والف حاشا.

ولا لأنني نسيت الألم كما قد يتوهم المتوهمون، فنار الألم مازالت تسري في كياني وكأنها وليدة اللحظة، ولا لأنني عقدت صلحاً معه كما قد يظن الجهلة السطحيون الساكنون في مغارة الجهل، فصلحاً مع الطغاة والمجرمين لن يكون مع من يملك عقلاً وإرادة ومتشبعاً بإفكار تحررية، رافضاً لعبودية الطغاة.

عذرتهُ حينما تيقنت ان كل الطغاة والحكام المستبدين، وبلا استثناء، جميعهم على شاكلته، ينظرون الى الشعب من خلل ثقب الأبرة وليس من خلل نافذة الوطن، ولا نافذة الإنسان والإنسانية التي ينادون ويتشدقون بها ليل نهار في مكبرات اصوات احزابهم المرتدية لباس الوطنية المزيفة.

عذرتهُ حينما تيقنت ان كل الطغاة والحكام المستبدين ينظرون الى الشعب نظرة دونية، نظرة استعلاء وازدراء، ينظرون الى الشعب بأنهم مجرد قطيع اغنام ترعى في مزارع سطوتهم، متى ما اردوا لها ان تتجرع كأس الموت في مسالخهم نادوا على جنودهم وحماياتهم الممسوخين ليمارسوا استمناءاتهم القذرة.

عذرتهُ لأني تيقنت ان كل الحكام الفاسدين، متشابهون في سلوكياتهم واكاذيبهم، فهم ينظرون الى كرسي السلطة نظرة تقديس وإلهام وعشق جنوني.

كرسيُّ السلطة في نظرهم هو أعلى درجات تفكيرهم وحماسهم. كرسيُّ السلطة هو شهوتهم وشهيتهم واشتهاءهم، وهو الهدف الذي من اجله يسيل لعابهم، ولأجله يكشفون عوراتهم، وما دون الكرسي فهو باطل، ومن ينتقد سياساتهم الفوضوية، او يتظاهر لنيل حقوقه المغتصبة، فهو في نظرهم مرتد وخائن، وذي انتقاداته واحتجاجاته وتظاهراته تمثل تهديداً للسلام العالمي، وللأمن الوطني وللمقدسات، وعليه فأنها جريمة تستحق العقاب.

عذرتهُ .. لأني تيقنت ان كل الحكام الفاسدين ينظرون الى كرسي السلطة كميراث اورثه لهم آباءهم، يستقتلون من اجله، يغتالون كل الشعب من اجله، يسلخون جلود كل الأطفال من اجله، يرمون بأجسام كل الرجال الى محرقة الموت من اجله.

عذرتهُ ..

انها الحقيقة المغًيبة التي أوهمنا أنفسنا يوماً ما أن لا تكون حقيقةً ..

 

أحمد الشحماني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم