صحيفة المثقف

البداوة حين تتستر بأسمال

محمد حسين النجمربما اصابتنا الدهشة، قبل عقد ونصف، حين رأينا هذا الاصرار والقصدية في قتل المختلف .

كان البعض حريصا على الانسياق وراء نشوة امتهان حياة البعض، ربما كنا نتساءل، اي قدرة تلك التي تجعل من اهدار حياة انسان تقربا الى الله؟. ربما بحكم بعد الشقة والزمن، لم يعلق بذاكرتنا ما جرا في دول عربية في تاريخنا القريب من مجازر بحق المختلف، بل ولم تستعيد ذاكرتنا المجازر التي اقترفتها الدكتاتوريات التي تقبع على صدور الشعب العربي، من محيطه الى خليجه، بل وشعوب اخرى . الامر ليس مختلفا تماما، وجه الاختلاف الوحيد ان مجازر تلك الانظمة تختفي داخل الاقبية، وما استجد اصبح خارجها، وان تلك يحرص حكامها على اخفاء آثارها، وهذه يتم التباهي بها على رؤوس الاشهاد .

كان مدار التساؤل هو ماهية تلك القوة القادرة على ان تجعل من قطاع اجتماعي كبير يعيش حمى استسهال القتل، بل والتمثيل بالقتلى، بل والتباهي بعدد من تشظت اجسادهم في الطرقات والاسواق الشعبية .

على الرغم من ان الامر لم يكن غريبا تماما، ونحن لم نغادر احتفالات الدموع التي ودعنا بها مئات الالاف من الضحايا بحروب عبثية، الا اننا كنا نخادع النفس بقدسية تلك الحروب، بين دفاع عن جبهة شرقية، وبين وقوف بوجه عالم متوحش يريد سلب هويتنا . ولكن اليست هذه قد صارت ايضا حربا مقدسة دفاعا عن وجودنا ؟ بهكذا اوهام أُزهقت ارواح خيرة من يعتمد بناء مستقبل الوطن عليهم، وبدون ادنى شعور بالندم .

اي قوة تلك التي اوصلتنا الى هذه الحال؟ اي خبير بالنفس البشرية ذاك الذي استطاع ان يجعل اغراق الوطن ببحر من الدماء، فعلا مقدسا يحظى بتكريم الله، ويستحق غذاء مع رسول الله؟

ربما لم يكن خبيرا، فالأمر ليس بحاجة الى خبرة طويلة، ليس عليك الا اثارة روح البداوة في نفوس لم تبتعد عنها كثيرا، رغم ما تغلفت به من قشور الحضارة . الم يكن البدوي حريصا على ذبح اخيه ان لم يجد من يذبحه؟

لم تعد تلك المجازر تدهشنا، بل صارت مسلسلا يوميا . واذا كان البعض في السنين الاولى قد ارتكن، متوهما، الى عدم نصب مجالس العزاء على من فقد، حتى يعرف قاتله، فقد صارت مجالس العزاء كرنفالا يوميا تمتد حيثما مددت بصرك . وصار التعاطف مع الضحايا لا يتجاوز ساعة الخبر، ثم يمضي كل الى شانه . صار الضحية رخيصا عند ابناء شعبه قبل حاكميه، وهو ما جعل المطحنة تستمر بالدوران . نزعنا القشرة التي نغطي بها سوءاتنا، فبانت ليس كسوءة، بل كمصدر فخر وتباهي . دخلنا في نفق الفردانية النازعة لكل انتماء، بما فيه الدم . صار الخلاص فرديا بالنسبة للضحايا، وكان مصدر فرجة، بل ربما فرحة بالنسبة للقتلة وحواضنهم . فمادام القتل بعيدا عني، فلا يهمني ما قد حصل .

دخل العقل في غيبوبته، ولم يخرج منها الا على اصوات الضحايا وهم يشقون اكفانهم لطلب الثأر . توارى البعض من القتلة، ودفع البعض من الابرياء الثمن .

لم تكن الصحوة عودة ضمير او شعور بندم، بل كانت مسعى لإيقاف الثأر بعد ان ظهر ان الدم لم يتوقف عن الصراخ وان النار لابد ان تلتهم موقديها .

الغريب ان هذه المطحنة لم تحرك ساكنا في ضمير، داخليا ام خارجيا، بل صارت فعلا يُرتقب لا حاجة للوقوف عنده .

ربما لم تعد الدهشة الى الواجهة ثانية الا بعد 2014 .

كانت هذه الدهشة مصطنعة .

فبعد قتل وسبي الاف الضحايا امام انظار جيش مُعاق التطوير، وبعد ان تمت التصفية، وتربع القتلة خلفاء للرسول، جاء الفعل الخجول من قبل صانعيهم لكي تٌظهر امام وسائل الاعلام (يقظة) الضمير الدولي . ولن اتوقف هنا طويلا . فقدسية ابادة المختلف كانت حاضرة، واستمر القتلة في حفلاتهم الدموية يتمتعون بالرضا والابتهاج من قبل حاضنيهم .

اي خبير بالنفس البشرية ذاك الذي استطاع اعادة صياغة هذا القطاع العريض من القتلة ومن المباركين لفعلهم؟ بل ربما الاصح القول اي خبير هذا الذي استطاع ان يقشر ذلك النسيج الواهي ليكشف عن عمق البداوة ويوقظها؟

اعتدنا ترديد القول : الفتنة نائمة ! اعتقد علينا ان نعيد النظر، فالبداوة كانت نائمة، لعن الله من ايقظها. هل اخطأت وصفها؟ نعم ان البداوة حيية، لا تقبل كشف النقاب عنها، بل تتوارى بأسمال تمتشجها من هنا وهناك .

هل كان البدوي يجهل اخاه الذي قتله؟ كلا والا لما استنصره على ابن عمه، مثلما لم يجهل ابن عمه حين قتله بعون اخيه مادام استنصره يوما على الغريب، الا ان للبدوي امكانية التخفي وراء ستر متعددة، واذ انه توشح بالمذهب والدين، وحقق انجازاته الباهرة فيها، لابد ان يكمل المسيرة بلبوس اخر بعد ان بان ان ذاك اللبوس، رغم ما حققه، الا ان نتائجه لم تكن بموجب ما كان يُراد لها، وبقليل من قشط اللبوس يمكن ان تظهر البداوة ثانية، ربما تتلفع هذه المرة بلبوس (القومية) او (التدخل) او (الكرامة)، او العودة الى (الحاضنة العربية) التي تتطلب العودة ثانية الى الدفاع عن جبهتها الشرقية .

بحر الدم يجب ان يستمر، وما حصل في عقد ونصف، مرشح لان يستمر بالوان اخرى، وما على من يريد ذلك الا ان يقشط الوشاح .اعتقد اننا اصبحنا قاب قوسين او ادنى من لبس احد تلك الاوشحة .

هل هناك اخزى من شعب مستباح من كل مواطنه، وهو يتبع احد مستبيحيه ليقاتل مستبيح اخر؟

 

د. محمد حسين النجم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم