صحيفة المثقف

فقاعات فوق سطح الماء..

صحيفة المثقفكان قد صمم على أن يغادر شقته الملاصقة للسفح المنحدر عن مرتفعات (كالنبورغ) المطلة على نهر الدانوب الذي ينساب رقراقاً تحف ضفتيه غابات ومرتفعات خضراء تتقاطعها مياسم غالباً ما كانت ممراً للقرويين والذين يجوبونها للتمتع بصورها الخلابة وبعضهم يمارس تمارينه الرياضية في مسار خاص في الغابة أنجزته شركة التأمين الصحي، مع تحذيرات من الوعول التي قد تهاجم على حين غرة .

ركن سيارته وانحدر نحو الجرف الصخري حاملا عدته لصيد السمك.. وكان جاهزاً، من جزمته الخضراء إلى قبعته التي تتوسطها ريشة طائر، فيما يرتدي بنطالاً خاكياً ومعطفا مطرياً خفيفاً، غالباً ما يرتدونه الصيادون عند حافات الأنهر وسواحل البحار.. وقبل أن يشرع في إستخدام معداته انتظر قليلاً ليرى صيادين يتعاونان على فك تشابك صنارتيهما، وحين انتبها إليه حياهما برفع قبعته قليلاً وردا عليه بإيمائة ودية وبإبتسامة عريضة .. وسأله أحدهما :

لم نرك من قبل فهل أنت قريب من هنا؟

أجاب بلكنة أجنبي تعلم الألمانية ولكنه لم يخطأ .. نعم أنا أسكن هنا منذ فترة، أأتي لأول مرة، لقد شاهدت في الأسبوع الماضي البعض يصطاد هنا فعزمت على قضاء بعض الوقت طالما أنا متفرغ حالياً في عطلة نهاية الأسبوع .

ألقى أحدهما صنارته في الماء بعيداً ثم قام وحشر مقبضها الفيليني بين الصخور وجلس على مقعد صغير وبجانبه عدة الصيد.. أما صديقه فقد أكمل وضع الطعم وقذف بالصنارة بعيداً في الماء الذي ينساب برقة متناهية، وثمة فقاعات تتحرك أو تنبعث هنا وهناك .

قفز أحدهم وسحب صنارته وبدأ يلف الخيط المتوتر وحين بلغت حافة الجرف الصخري وإذا بها سمكة تلمع كالفضة .. أمسكها وأخرج الصنارة من خيشمها ثم أخرج من جيبه شيئاً أشبه بالمسطرة وقاسها .. نظر إلى صاحبه وأبدى له شيئاً من اللآمبالاة ثم رمى السمكة ثانية إلى النهر.!!

قال له ما الأمر، ولماذا رميتها في الماء ثانية؟

إنها خارج المقاسات .

أي مقاسات تعني؟

إنها سياقات الصيد عندنا .. الأسماك الصغيرة تعاد إلى النهر وأضاف، هذه الأسماك بحاجة إلى وقت لكي تكبر.. كما أن للصيد موسم لدينا كما تعلم.!!

لملما حاجياتهما، سطل الصيد والصنارات واللوازم الأخرى وصعدا في ممر صخري ملتوي ولوحا بإيمائة من رأسيهما وهما يعتمران قبعتين خاكيتين على جانب كل منهما ريشة طير جميلة.

فكر في أن يجرب حظه في الصيد في هذا المكان .. فألقى صنارته وانتظر قليلاً وإذا بالخيط يتوتر، وفقاعات الماء تتحرك بسرعة .. وحين سحب الخيط بمهارة صياد محترف ظهرت سمكة صغيرة، وبعد أن سحب الصنارة من فمها ساح دماً قانياً، وبدلا من رميها إلى الماء ثانية ألقاها في سطل الصيد وتمتم مع نفسه " من يدري " .!!

وتكررت السمكات الصغيرات في قعر السطل .. وتكررت عبارته التي أطلقها مع نفسه " من يدري " ، إنها مجرد سمكة وليس هناك من رقيب أو حسيب على حجمها حين يصيدها الصياد..!!

ارتسمت في ذهنه تلك الصورة التي تطفو فيها على سطح نهر دجلة والفرات ألآف الأسماك الصغيرة والكبيرة نتيجة تلغيم القعر بالقنابل الخاصة أو تفخيخ علف الأسماك بمواد سمية يسمون صيدها بالأسماك الـ(مزهورة) .. يجمعها الصيادون، وتذكر حين كان طفلاً يسبح مع أقرانه للحاق بالأسماك الكبيرة التي تتلوى بالقرب من سطح الماء وهي تقاوم الموت بعيداً عن الساحل.

ياللهول .. ليس هنالك من رقيب ولا حسيب .. فيما تتدفق مخلفات المواد القاتلة إلى النهر لتحيله إلى مياه تقتل الأنسان والحيوان وتبيد الثروة السمكية.!!

وبعد أن امتلأ سطل السمك ومن بينها واحدة أو إثنتين بحجم كبير تقريباً أو متوسط، فكر بالعودة إلى شقته .. ونظر إلى السماء الصافية إلا من بعض الغيوم البيضاء المتقطعة وهي تحلق فوق مرتفعات " كالنبورغ " المكللة بأشجار البلوط والكستناء وثمة سرب من أوز يعبر نهر الدانوب بأمان .

 

د. جودت صالح

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم