صحيفة المثقف

كنا نرى النور ثانية...

قصي الشيخ عسكرأسفر لنا الضوء فأنسانا لحظاتٍ الخوفَ من مجهولٍ ينتظرنا بعد ساعات أودقائق، فكدت أنسى كل ماحولي وماخلفته ورائي من خوف..

وكان معسكر الرضوانية مثل حوت هائل يفغر فاه فتمرّ من بين أسنانه المرعبة حشود مرعوبة من سمك السردين..جهنم التي لاتشبع.ومجموعة جنود والضباط الضخام الممتليئين تواجهنا. جيش ..قوات خاصة... وفيهم من يهتف بلهجةٍ خمنتها من غرب العراق " عاش القائد صدام.. إلى الجحيم الفرس المجوس " وزعونا على مجموعات.كل عشرة أشخاص...أصبحت مجموعتنا آخر المجاميع عند طرف الطريق أمام إحدى القاعات.رافقنا ضابط متورِّد الوجه يميل طوله إلى الوسط ،وقفنا تماما أمام مدخل القاعة، والتفت إلينا يتمعن في وجوهنا لحظة ثم قال:

أنا صاحبكم . مسؤول عنكم.إحفظوا وجهي جيدا إلى حين أن أعود إليكم.

ظننا أننا نقف أمام القاعة المخصصة لنا لكن شلّة منذوي الرتب الصغرى اقتادونا إلى قاعة أخرى تبعد حسب تقديري مسافة كيلومتر عن الجادة وردهة مستطيلة بسقف من صفيح محدب توقفنا عندها، ثمّ دلفنا في قاعة ذات فتحات عالية قريبة من السقف أشبه ماتكون دكّاتها بسقائف الدجاج. فيما بعد عرفنا أن هذه القاعات كانت تضم جنودا من الأسرى الإيرانيين.تذكرت أننا عندما سرنا من الجادة حيث وقف بنا الضابط مررنا ببركة للبول خلف قاعتنا...مستنقع الثلاثة أمتار.. مرحاض مكشوف للملأ لفحت أنفي رائحته عن بعد،لا أحد يشكّ قط أنّ تلك الرائحة اللاذعة لا تلفح حموضتها الحادّة أنف السيد آمر المعسكر وكبار الضباط أو تستثني الجنود وضباط الصف. يمكن لتلك الرائحة أن تجعل الرتب الكبرى تصاب بالدوار ولايهم ذلك مادامت تبعث الغثيان فينا نحن السجناء..ثلاثة امتار أراها عن قرب وما عليّ إلا أن أحفظ ملامح المعسكر بأدقّ التفاصيل لئلا أقع في خطا ما..

حين دلفنا القاعة ارتحنا قليلا فقد تلاشت روائح البركة لندرك بعدئذٍ أنّ ما تخيلناه من وهم تلاشى في دقائق ذلك أن الهواء الهابط من الفتحات عند السطح ظلّ يحمل تلك الروائح فيتمليء بها جو القاعة الخانق المشبع بالنتانة والرطوبة!

وصاح بنا أحد الحرس:

كونوا بانتظار التحقيق!!

التحقيق ثانية ذلك عذاب قريب منك بعيد عنك يجعلك تحس ولا تحسّ بجسدك!

الأسئلة.. الاستجواب.. واحذر أن تغالط نفسك

وماقلتَه في معتقل شط العرب ولهجتَ به في سجن البصرة المركزي تعيده كما هو وفق نشأته الأولى وإلا فأي تضارب يجلب علي الويل والهلا.كنا بانتظار أمر آخر حين زج الحارس معنا في القاعة بسجين آخر من أهل التنومة.كان أستاذي للغة الإكليزية في مرحلة الدراسة المتوسطة..وكنت أرسب في الدرس سنة ثم يساعدني في السنة الثانية.ولم يكن من ذوي السياسة..لاعرف لِمَ اعتُقِل.دخل القاعة وقد بانت على وجهه أثر احتقان من التعذيب ..

كأنني حين رأيته ابصرت الحريّة..

انفتح لي من حيث لا أدري باب واسع يراودني بالأمل والنجاة وخلاصٍ ذاتَ يومٍ لا أدري بأية صيغة يتحقّق فاندفعت نحوه هاتفا:

- أستاذي...أستاذي العزيز!

فاجأه وجودي،وحملق فيّ بعينين متوعدتين..كلّ ملامحه تلبست قسوة ونفورا لامثيل لهما ثمّ ابتعد عني كأنه يدفعني براحة يده زاعقا:

لاتكلمني.لا أعرفك.أنت إنسان مشبوه..أنا بريء لاأرغب أن يلوِّث سمعتي شخص مثلك!

كن كأخيك أحمد ياعبدالله..أخوك خير كثير..عالم انتدبه الألمان إليهم..ليس قليلا على أن التنومة تعتز به فهلا اتخذت منه قدوة أنت الأقرب إليه...الآن في هذا الموقف ينكرني..كانت صدمة قاسية حزت في نفسي وجعلت الشكَّ يقبض أنفاسي والوساوس تجثم على صدري هل يفعلها أستاذ ساعدني ذات يوم ويثبِّت فِيَّ اعترافا يدينني ؟.

هل لفتُّ نظره فذكرته بشخصي؟

وهل لفتُّ نظر الحرس؟

بقينا في القاعة أكثر من ثلاث ساعات خلالها يدخل علينا بين وقت وآخر أحد الحراس يلعن السادة والمعممين والخميني وإيران والتحالف والكويت ولا ينسى السعودية وقطر.ويهتف باسم القائد ثم أخرجونا من القاعة إلى باحة مفتوحة.تبيَّنت المكان جيدا. ساحة وسياج. وبعض شجيرات الأثل، شجرة يوكالبتوس عملاقة،وثمة بين أشجار الاثل عريشة من الخشب.جلست مجموعتنا على حافة الدكة على بعدمسافة من من صف الأشجار.نادى أحد الحراس باسم سجين فخرج من إحدى المجاميع شاب بدين البنية بان على وجهه من أثر التعذيب زرقه واحمرار لم يخفيا خوفه وسحنة وجهه الصفراء.تركه الضابط واقفا بضع دقائق. في البدء صاح بأفراد مجموعة ثانية آمرا إياهم أن يضربوه بأحذيتهم وهتف بنا نحن الجالسين أن نبحث عن حبل..انطلقنا وخلال دقائق .وجدت حبلا صغيرا وعثر السجناء الآخرون على بقايا حبال لأناسٍ تم تعذيبهم من قبل.صرخ الضابط،فأثار فينا الهلع:

يا أولاد الكلب أهذه حبال تجلبونها لي والله لن يكون مصيركم بأفضل من هذا الكلب!

والتفت إلى أحد الحرس:

هات الحبل!

تقدم حارس أشقر اللون يحمل حبلا غليظا،واندفعت حسب الأوامر مجاميع من السجناء تربط يدي السجين وترفعه إلى العريشة.وثمة جنود يندفعون نحوه.جماعة بعصيٍّ اقتطعها أصحابها من شجر الأثل واليوكالبتوس وكان لنتوءاتها وقع الأبر،وجماعة تجلد بالانابيب البلاستيكية.اضطررنا نحن الجالسين إلى أن نرجع للخلف تحسبا لفلتةٍ من أيِّ عصا. كان الشاب منتهيا تقريبا.كأني سمعت صوتا يقول وربما راودني خيال لهمس مكبوت:

أعترِف! أعترِف سَأعترِف.

لم يلتفت إليه أحد، فتيقنت أني لم أكن أحلم.أحضر أحد الحراس آجرة ثم هوى بها مرّاتٍ على صدره،فرفَّ رفَّة تأكدت منها أنه فارق الحياة. أنزلوه .وضعوه على منضدة وسط الحديقة. ثم حضر أحد الأطباء ليقول بأعصاب باردة:

مات !

فعقب الضابط قائلا:

الله يرحمه!

عن بعد تناهت إلى أذني أصوات تقول : هذا اسمه بهجة الصباغ!

أصبحت أشكّ هل رأيته من قبل..قد يكون اسمه لاح لي في مكان ما بالعشّار..على لوحة محام..واجهة محلّ..طبيب، هل أشكّ في وشاية من أستاذي..الأمور تختلط في ذهني وتتوالى المشاهد أمام عيني:رأيت شابا منبطحا على الأرض يجلد من قبل شخصين، وآخر مربوط اليدين يُضرب.من مجموعتنا اختاروا أربعة أشخاص ثم قال لنا الضابط: تستطيعون أن تأخذوا أكلا. أحد السجناء من مجموعة سجن البصرة تملكته الجرأة فذهب نحو حرس يأكلون أمام مسطبة فعاد بقطعة خبز مبللة ببعض المرق فتجرأنا وذهبنا إلى ذلك الموضع.أحد السجناء الأربعة قدم يعرج مثلي لكن برجله اليمنى.كان في حال يرثى لها فدفعتني الشفقة إلى أن أقدم له بعض الطعام.أكلت شيئا بسيطا سد الرمق.رجع اثنان من السجناء وضاع خبر الرابع فلم نعرف عنه شيئا، أما الضابط المسؤول عنا فكان يضرب بسلك كهربائي ويلجأ إلى قرص الآذان، وعندما انتهى من آخر سجين تركه إلى يوم غد، وأعرض عنا نحن الباقين.

كانت الساعة بحدود الرابعة حين عدنا إلى القاعة.بقينا طول الوقت خائفين، وفي المساء قدموا لكل سجين قطعة خبز من دون ماء.في الصباح وقفنا طابورا نحو دورة المياه. اخترت أن أكون الثاني في الطابور إذ أدركت أن الحارس يهوي بالضرب دائما على أول شخص يقف في الطابور.أشار الحارس إلى إحدى القاعات الممتدة طولا باتجاه جنوب المعسكر. المكان طافح بالبراز أشبه بمستنقعٍ تطفو فوقه أشنات ذات ألوان بنية فاقعة وخضراء..ولم يكن لدينا ماء.هناك من يعد من الواحد إلى العشرة.أي سجن نمر به يحشروننا بين الواحد والعشرة.. أفرغ السبيلين إن لم تجد ماء تستطع أن تقص قطعة قماش من بجامتك،والرائحة الكريهة تلاحقك. ربما لو أدركوا أن الرائحة الكريهة تملأ رئتيك إلى حد تدفعك فيه للإغماء لاستغنوا عن العد فأبقونا في دورات المياة وقتا أطول...عند العد الثامن تعود للطابور، أما العصا فراحت تهوي على من يتأخر،ومن حفر دورات المياه إلى حنفيات الماء. العد إلى الثلاثة.كان الحارس يقف على بعد خطوات منا والحنفيات أمامنا. لاأدري ماهو طعم الماء. مر حلو المهم أن أعبَّ قبل أن ينتهي العد. ربما نسي أحدنا نفسه وهو يكرع الماء فأصابه من الضرب بقدر ماعبَّه من الماء.

حالما رجعنا نادى الحرس باسمي. هذا يعني أني سأقابل الضابط.دخلت غرفة تتوزع فيها هواتف آلية.وعلى الممر من اليمين واليسار انتشر حرس مدججون بالسلاح والعصي.كان كل حارس يقف مسافة متر عن الذي يليه.مهمة هؤلاء أن يهووا على أي سجين يمر بالعصي حتى يصل إلى غرفة الضابط المحقِّق:

ماذا تريد؟

إلى سيادة الضابط!

أشار بالعصا أول الواقفين في الصف، ولم يكن هناك طريق آخر، فتلقت ساقاي وظهري وكتفاي لسعات العصي من الجانبين.وجدت في الغرفة المستطيلة سجينا آخر معلقا على الباب الجانبي للغرفة وضابطا يستنطقه.في لحظة وصولي أنزل السجين إلى الأرض .وفجأة هوى الضابط بعصا مدببة على رأسه.كانت المسافة بين الضابطين لا تتجاوز المتر.أنا أمام رجل عملاق أسمر البشرة ذي كرش وشاربين كثّين.رأسي بين رجلي. ضرب لحظات.. دقيقة.. دقائق..

رجلي العرجاء مازالت بخير..

- عبد الله عبد الرحيم؟

هل يسألني عن تفيدة وعبد المعطي:

- نعم أنا؟

- شغلك؟

موظف في مديرية العدل.

أنت الولد الوحيد لوالدك؟

- كلا لي أخ!

ماذا يعمل؟

- أستاذ في الجامعة أستاذ في الفيزياء!

- أين هو؟

في المانيا؟

- معارضة؟

-كلا سافر بعقد دراسة وعمل!

كان يضرب على منطقة الظهر مع كل سؤال.الحقيقة لم تكن يده يد بشر.كانت أقرب إلى يد دبٍّ أو حيوان ضارٍ بل لا مغالاة حين أقول إني رأيت كثيرا من الحيوانات المفترسة ترخي قبضتها عن حيوانات لاتقتنع بها،وهذا العملاق ينظر إلى جسدي ولوني الفاقع ولا اشكّ أنه يعرف رجلي لكنه لايوقف قبضته فلا تعرف عصاه المدببة مساحة خالية من ظهري تتغافل عنها:

- تكلم ماذا فعلت!

سجن شط العرب قصة تفيدة أمي وأبي عبد المعطي..سجن البصرة المركزي الذي صادرته دائرة الأمن، لاتضارب في الأقوال فلأُصرَّ على أني ذهبت شحاذا أطلب إحسانا من الخبز لاغير:

- تعترف أنك ذهبت إلى المسجد؟

أعترف أني هرولت برجلي العرجاء إلى المسجد المجاور لبيتنا حلالما سمعت نداءات من مكبرات صوت في العشار تعلن نهاية النظام..ولو كان هناك بيت أقرب إلى الجامع منا لاغتنم غيري الفرصة قبلي..منذ أن غادر الشيخ الإمام التنّومة خلال حرب العراق وإيران ولم يعد أصبح خاويا..يفتحه كل من يشاء الصلاة من كبار ويسبق غيره يصبح الإمام.ركلت الباب برجلي فاستعصى،ووضع صهري غسان كتفه في المصراع فتزحزح من مكانه،وجاء كامل الرامي بعد ان سمع النداء، فهل ألف الحبل الغليظ على رقبتي:

- آخذ خبزا فقط !!

تنفست الصعداء وأنا اخطف نظرة إلى السجين الآخر،فقد تركني الضابط لحظات وخرج لأمر ما. كان الدم يقطر من إحدى عينيه ومن خلال ثقوب ثيابه.السجين الآخر شبه ميت.. أو هامد هكذا انطبعت عيني عليه لكنه من شدة الضرب لاسيما آخر هراوة يتلقاها أجده ينقذف باتجاهي كأن قوة خفية انتزعته من الموت ونفخت فيه إرادة الحياة فيستقر عند الزاوية على بعد خطوة مني.الضابط الآخر صاح بي زاعقا:

احمله وعد به إلى مكانه!

التفت إلى رجلي الأخرى أستعين بها!

حاولت أن أزحزحه. كان ثقيلا جدا.رجوته متذلالا أن يحرك جسده قليلا لأنني سأقع تحت طائلة الضرب.تحامل على نفسه محاولا أن يستند إلى كتفي وأنا أستجمع قواي كي أوصله إلى مكاني ومن خلفي الضابط يوجه عصاه مرة نحو ظهري وأخرى إلى السجين وربما كانت يداه تتحركان من دون أن يفكر من يضرب منا فقد مست إحدى ضرباته الضابط المسؤول عن التحقيق معي وهو يجتاز الباب إلى حيث مكانه عند الطاولة فزعق فيه فأدركتت أنه أعلى رتبة منه:

- لاتكلف أيا من الذين احقق معهم بأي عمل!

قال عبارته وهو يصب جام غضبه على جسدي، ويباشر التحقيق معي من جديد:

- أنا مسؤول عنك وأستطيع أن أرسلك إلى حبل المشنقة!

- لكني يا سيدي لن أخفي عنك شيئا.ماذا أفعل؟الغوغاء صادروا كلّ شيء ولن تحصل أية عائلة على خبز وبعض السمن والسكر إلا أن يذهب أحد منها إلى الجامع، فمن يترك طفلا يبكي من الجوع وطعامنا بيد عصابة تحتل المسجد؟!

واستلم نداءا عبر الهاتف فرفع السماعة وهو يقول:

- أنا أنهيت التحقيق مع أحد الغوغاء وسوف أكون عندك بعد أن أفرغ من التحقيق مع جماعة ماكو ولي إلا علي!

التفت إلِيَّ حالما وضع سماعة الهاتف:

- هل تعرف استخدام السلاح؟

- أبدا لا أنا !

- وإذا ظهر عكس ذلك؟

- سيدي أنا معاق غير مسلح لاأعرف استخدام المسس والرشاش وأية قطعة ولم أتدرَّب قَطّ وهذه رجلي تثبت صحة ادعائي.

- أية معلومات تصل عنك تجعلنا لانحقق معك بل ستُعْدَم في الحال.

وأكَّد وهو ينظر إِليََّ بتشف:

أقضي عليك.بشرفي أقضي عليك.

رحت أراهن على إفادتي وعلى عقدة فهمتها الآن جيدا: السندباد عقدة سمعت بها.. عقدة مشوشة صعب عليّ وقتها فهمها ورجلي التي أحرجتني عقدة يمكن أن أفخر بها الآن فَتَمُدّ إليّ عوضاً عنْ يدي حبل نجاة:

- أنا لم ألمس بندقية في حياتي ولو لمستها لأكون ربما أطلقت النار على نفسي من غير أن أعرف ومعي برهان يثبت براءتي هو عوقي .

خرجت إلى مكان التجمع الأول عند الساحة ولم أسلم من ضربات الحرس المصطفين أمام غرفة الضابط،فوجدت نفسي في بركة من الدماء.وصلت إلى المكان وقد أغمي عليّ.بعض ممن ينتظرون أدوارهم في التحقيق مسحوا عني الدماء، وحين استعدت وعيي أبصرت في الساحة عددا من الحراس يعذبون بعضا من المساجين، ومجموعة ترقص بوحشية وتشفٍ حول جثة شخص. صحبني الحراس إلى القاعة.أحد المسجونين قدم لي ماء ، ومسح آخر آثار الدم عن جسمي...

كان هذا يعني انقضاء يوم من التعذيب وأني سأواجه يوما آخر مثله أو أَشَدَّ منه. الجلوس صباحا. قضية دورة المياه.التعداد اليومي. العد إلى العشرة. العدد والحساب يلاحقاني أينما ذهبت. في الحرب كنت أعد القذائف،وهنا الحرس يعدون مدة الخراء والبول.كل دقيقة تنزل قذيفة مدفعية على البصرة ومن المضحك المبكي أن يكون البول والخراء أكثر سرعة من قذائف المدفعية..أرقام مهزلة لكن الحلم الذي اختفى وانمحى تماما عاودني الليلة الأولى بعد ذلك التعذيب المرهق..زارني كامل الرامي وكنت يومها أشعر بمرارة الماء في فمي، فذكرني بمقولته الشهيرة. كل شيء مرٌّ نقرف منه أيّ مشروب نحبه حلوا ماعدا العرق.لانقبل معه ذرة سكر، وهذه خصلة انفرد بها العرق وحده وأضاف ساخرا: لن يجدها الشيخ في أي كتاب قديم وإن بحث في أسد الغابة أو كتب الصحاح.أما أنا فمازلت مصرا على قولي لن أبدل أقوالي قط.. دعهم يلغون سورة الكوثر عندئذٍ أقسم أني سأواضب على الصلاة،وأترك العرق وأي مشروب مُرّ،حلم غريب فأنا لم أذق الخمرة سوى أني أشرب ماء مرا أو قد يكون فمي مرا من شدة الضرب، وكل ما أخشاه أن يهاجمني تنمل رجلي التي أضحت مرة مثل عرق سرّه في مرارته.

بقينا في هذا المكان عشرة أيام..اصطفاف وقت الضحى والعصر. وقت الغداء صينية فيها رز مبلل بالمرق وقطعة لحم صغيرة.الليل أستلم خبزة وأحيانا صمونة.عشرة أيام تلقينا خلالها الجلد عند الاصطفاف صباحا والتعداد وقتي الضحى والعصر ثم أخرجنا الحراس إلى ساحة معتقل سجن الرضوانية.في ذلك المكان احتشد عدد كبير من السجناء، كنا نلتقي من دون أن يُسْمَحَ لنا بالكلام..منحنا الحرس حرية الجلوس أين نشاء وشراء بعض اللوازم من سيارةٍ انقلبت إلى حانوتٍ يبيع صاحبها الطعام والمشروبات للجنود.على بعد أمتار مني رأيت مفوضا من أهل التنومة يبدو أنه شارك في الانتفاضة ولم أنتبه له في حينها. لاح لي في حال يرثى لها،تعمدت أن أَتَزَحْزَحَ عن مكاني فأَدْنوَ منه..تطلعت في عينيه فنظر إلي ولصق إصبعيه بشفتيه. فهمت أنه يسألني عن سجائر..رافقني أحد الحراس إلى السيارة فاشتريت بعض البسكويت وعلبة سجائر وكبريت ثم رجعت إلى المفوض فوجدت أن أحد السجناء شغل مكاني،لم يكن بإمكاني أن أقدم له العلبة أمام بصر الحارس لكني حين مررت جنبه أرخيت يدي فانبسطت أناملي فسقطت العلبتان في حضنه.

كان هذا آخر لقاء لي بذلك المفوض..

ولعلني من دونما سبب شعرت بفراغ ..لم يكن بيننا من قبل سوى تحيّة الطريق كأي من الوجوه الكثيرة التي أقابلها في التنومة ممن أعرف أسماءهم أو لا لكني شعرت أن وجود هذا المفوض معي وسط الحشد المضطرب الصاخب الصامت يخفف من هواجسي ،ففي اليوم ذاته ركبنا الشاحنات واتجهت بنا إلى مكان آخر يطلق عليه السجن.

هناك تمت تسميتنا باسم مجموعة البصرة.كنا بحدود 300 شخص.وزعونا على غرف صغيرة كل غرفة لاتتجاوز الستة أمتار.كان الممر ضيقا والمرافق لاتفي بالغرض ثم جردنا الحرس من كل أوراقنا الثبوتية.سلمت دفتر الخدمة العسكرية الذي احتفظت به طول تلك المدة وكانت تنقصه ورقة من المنتصف إذ لم أتحمل في الرضوانية ذات يوم من دون غسل بعد المرحاض فاقتطعت من الدفتر ورقة تطهرت بها.

وفي هذا السجن عادت المأساة نفسها بشكل أكثر قسوة. النفوس أيضا تغيرت.حاول القوي أن يأكل الضعيف.والصحيح يستولي على المريض. قطعة لحم أو دجاج توزع على 300 شخص.ملعقة رز عند الظهر. الصبح صمونة بحجم الكعكة.الوجبة الواحدة تمنح لخمسين شخصا.بقيت معي بضعة دنانير اشتريت بها كيسي تمر فتقاسمتها أنا واثنين معي.كل وجبة نأخذ تمرتين.فترة قصيرة وانتهى التمر.كأس ماء ربع للغسل وثلاثة أرباع للشرب.في الليل البرد ينث مثل دبابيس تنغرز في جسدك.تساوت حدة الوخز بجسمي كلّه.قدمي المعاقة آلمتني مثل بقية أعضائي..الليل كله ألتمس القمل يسيل على رأسي فأراه بعيني!!حفظت درسا جديدا انهمكت عليه في الظلام: القمل أسود وأصفر:الأسود يداهم شعرك والأصفر يتخذ من جسدك ملعبا له.يجب أن يكون هناك من يضايقك وأنت نائم أو أنت نفسك تضايق شخصا آخر.وعندما كان الحرس يخرجوننا بضع دقائق إلى الساحة حيث الشمس كانوا ينهالون علينا ضربا بالهراوات إما من دون سبب أو يختلقون أي عذر كان فيروحون يجلدوننا بكل قواهم ونحن نتراجع إلى الخلف فنحشر أنفسنا في زاوية بين حائطين في حين يستمر اندفاع الحرس نحونا كأنهم لايقتنعون إلا ونحن نزج بأنفسنا في أصغر رقعة بين الزاوية والساحة!

في هذا السجن تلك الليلة داهمتني موجة ألم ربما بسبب البرد ولعله الضرب المتواصل الذي أتعرض له كل يوم.بقيت أصرخ طوال الليل.تتناوشني من غير أن أحس ركلات السجناء المحيطين بي.

لقد طغى ألم رجلي على جسدي كلّه.

تساوت في الوجع أطرافي..

فظننت أني أصبت من الضرب والبرد بروماتيزم!

وقت الظهر حين قدمت سيارة الطعام قال لي الضابط اليوم تفحصك لجنة طبية.بقيت مهملا في الساحة أكثر من ساعة.ولم يكن حضور الطبيب كافيا كي ينهي الأزمة فقد أخبر إدارة السجن أنه لايملك أيَّ علاج لحالتي.ازداد صراخي وتفاقم الألم.زاده حدة الحرمان من الدواء المهديء ، وبينما أنا مضطجع في الساحة الداخلية أتلوى ولا من مجيب إذ تماوج الحراس مثل بحر هائج تضربه عاصفة هوجاء وهرعوا لأمر ما فقرعوا حولنا طبول النفير وانقضوا كالإعصار على الردهات يخرجون منها السجناء في حين انصاع سجينان لأوامر بعض الحرس فحملاني متجهين بي إلى الساحة العامة عند المنضدة حيث الفلكة الدوارة. رأيت حراسا آخرين مدججين بالسلاح كالحي القسمات فأدركت أن حَدَثَاً جليلَ الشَّأن يَجري.

مشهد يخفّ عِندَه بعض الألم في عظامي أو أكون مجبرا على أن أوقف صراخي لئلا أثير حفيظة مسؤول أو غضب حارس فينهال علي ضربا وفي أسوأ الحالات يتهمني بالتمرد.

أمام فسحة مقابل المنضدة وضعني السجينان عند حافة الآجر والمجرى المزروع ببعض الحشائش.كان هناك حرس في المقدمة تأتي بعدها حلقة المساجين ثم حلقة الحرس المحيطين بنا.لحظات واتجهت أنظارنا إلى رجل صارم القسمات استدعى أحد الضباط فانصاع متجها -بعد أن أدى التحية- نحو المنضدة .لوَّح الضابط بعصاه فبرز من خلف الجدار أربعة من الحرس يسوقون أربعة سجناء موثوقي الايدي،لايجرؤون على رفع رؤوسهم أو النظر إلى مايجري حولهم أوقفهم الحرس أمام المنضدة، فأدركنا أن حكما بالأعدام ينفذ بعد قليل!!

هو ثاني حكم بالإعدام يجري أمام عيني .

نسيت كل شيء تماما فانا في هذا الوضع واحد من هؤلاء.إن لم أكن أنا اليوم فربما غدا. شهدت موتي في التنومة حين قدمت فرق الموت الخاصة بهاربين من الحرب لتعدمهم في ساحة سوقالخضار،نعم رأيت مصرع راجي المزروع لكني لم أكن حاضرا ساعة تنفيذ حكم الإعدام بحقه.سبقني اصحاب الأرجل السليمة وآخر المطاف قرفت من شخص يتبول على جثة..هؤلاء خونة هربوا من خطّ المواجهة ..صدناهم في " الشلامجة"..الآم تحدق بعظامي جميعها وأكظم صرخة تهز أعماقي هل ألفت النظر وأثير سخرية الحرس ومن الجائز أن تفسر صرخاتي تضامنا مع هؤلاء فأوضع معهم دون أن يكلف أي من ذوي الرتب الكبيرة نفسه فيسأل لحظة الواقعة عن سبب صراخي .فأعض على أسناني اكبح جماح تيار من الوجع حين سمعت زعقة الضابط:

ارفع!!ارفع!!

كاد الحراس الأربعة يقتلعون السجناء من أماكنهم لولا زعقة حادة من الكبير :

لا ملازم داوود يجب ألا يموت الخونة في الأماكن العالية!!

وردّ الملازم داوود:

نعم سيدي لكني أفكر أن يراهم الجميع " واستدرك" نعم سيدي مثلما تأمر!!

فقال الكبير مطمئنا من حوله:

أظن أن جميع السجناء سيرونهم!!

وأنا أكز على فكي من الألم أجد الضابط ينسحب للخلف ويتراجع الحرس خطوة للأمام يخيم صمت ويصدر الضابط أمره:

رشقا بالرصاص على الخونة ارم!!

انهال على السجناء الموثوقين أمام المنضدة رصاص الحرس فمالت رؤوسهم وتهاووا على الأرض وكنت أكبت الصراخ.

يتوقف الألم في جسدي..

رجلي تننزع الخدر..وأحمدالله أني لم أصرخ.

في تلك اللحظة دارت في رأسي ظنون مختلفة. احتمالات يمكن ان تحدث لأي سجين.. إما أن يكونوا اعترفوا أو اعترف عليهم آخرون،وليس ببعيد أن ألتقيَ مرة أخرى بموقوف من أهل التنومة أذكِّره بي فأسير إلى حتفي برجليّ لكن الضابط قطع كل ظن حين التفت إلينا محذرا :

اسمعوا هذا مصير كل من يحاول الهرب!!

لم أكن أتوقع في حينها أن الذين أعدموا حالوا الفرار من السجن فالهرب لحظة جنون لاتختلف عن الانتحار.كاميرات وأسلاك..نقاط تفتيش وحرس ثم شاعت فيما بعد حين خفت حدة العذاب وتغير المسؤول أن الأربعة اتفقوا مع المراقب وكلهم من قاطع البصرة على الهرب فخشي الأخير سوء العاقبة ووشى بهم ليهلكوا وينجو هو بعد حين!!

وتبقى كل تلك القصص مجرد تخرصات!!

كلّ منا يهمس لنفسه بقصة،فيظن بمرور الوقت أنها من رفاق السجن، كان كلّ منا يسمع حديث رفاقه مع أنفسهم،ويقرؤ ملامحهم فتتحوّل في ذهنه إلى قصص وحكايات..بعد ساعة من حضور الموت أمام أعيننا حتى كاد يدخل فينا جميعا رجعنا إلى الردهة،فرماني السجينان في الساحة الداخلية كما لوكنت أكثر عبئا عليهما من أيّ ثقل حملاه..بقيت إلى العصر أصرخ من الألم، وحين وصلت سيارة الطعام شحنت فيها إلى مستشفى الرشيد العسكري!

لاأدري ربما هو سوء حظي جاء بي إلى هذا المكان!

لقد فضلت لو تحملت الالم وبقيت في السجن (1)..

كلّ شيء يوحي بالعذاب والعنف والبردودة والرطوبة،فأي مصير ألاقيه في هذا المكان المخيف الرهيب..هنا واجهتني ردهات تضمّ كل واحدة منها خمسة مرضى ظلوا جميعهم مرتمين بين الأسرة على الأرض.تركني الحارس في الردهة المحاذية لباب الممر ودخل إحدى الصالات.كنت أصرخ من الألم فسمعت همسا من حولي :

لاتصرخ!

وقال صوت خافت آخر:

حاول أن تكبت الألم.

لا تصرخ وإلا...

لم أتبين من تحدث معي، فالحارس ذهب يخبر النائب ضابط عني. كان يتناول طعامه ويبدو أنه اعتاد أن يضرب أي مريض يصرخ في أثناء الأكل.حملني ثلاثة سجناء إلى غرفة النائب ضابط وعاود أحدهم الهمس في أذني:

حذار اصمت!

أسكت!

تحّل مهما يكن تحمل ولا تصرخ!

بقيت أمام عتبة الباب أبحث عن مكان المرض في جسدي..رجلي ربما يداي.. الضلوع..راح النائب الضابط يلوك اللقمة ويتطلع إليّ ثم صاح بي أن أخلع ملابسي وأستحم قبل أن أدخل عليه.كان الحمام المقابل لغرفته من دون باب. الوقت غروب والطقس في بداية شهر مايس ما زال باردا.فتحت الدوش وباشرت الاستحمام.والرجفة تهزني مثل محرك مستهلك.كان ينظر إلي ويأمرني بين حين وآخر أن أستدير وإذ أنهيت الاستحمام رمى إلي بطانية لم تكن لتخلو من القمل. جلابية ليست بذات جيوب وأكمام ومن غير أزرار. وضعني عند الباب المطل على الحديقة ومنع أي أحد أن يتصدق علي ببطانية. كنت أرتمي قرب باب الحديقة وأنا أرتجف من البرد والألم. آلام فظيعة تطبق على عظامي. نسيت رجلي تماما تعودتمعها على الألم،وبدأ صليل العظام..لم أتحمل فسحلت نفسي باتجاه الردهة راجيا السجناء أن يعيروني بطانية.في البداية قابلوني برفض قاطع تردّدوا ثمّ. لانوا..شفقة.. تأثّر..وغاب عن ذهني لحظةهياج الألم أن الشفقة ستنقلب سوء عاقبة على مساجين معي.بعد عشر دقائق رجع النائب ضابط. كنت أرتجف تحت البطانية عندما أحسست بركلة هائلة اقتلعتني من الخاصرة:

من أعطاك البطانية؟

قلت بصوت واه:

أنا تسللت إلى الردهة فسحبتها وهم نائمون .

سحبها،و انهال علي ضربا ثم اندفع إلى الردهتين حيث أخذ يضرب السجناء الباقين، وعاد إلي وهو يزعق بأعلى صوته:

استحم مرة ثانية!!

رافقني إلى الحمام،وكنت أرجوه أن يتركني..×جل..بردوألم..بقيت ألتفُّ حول نفسي عاريا تحت شلال الماء حتى اكتفى فانهال علي ضربا وركلا ثم أمرني أن أرتدي الجلابية.وأقبع في المكان نفسه وقال حالما خرج ملتفتا للسجناء:

لاتعطوه أية بطانية!!

أريد أن أفقد الاحساس فلا يغمى عليّ .أطنان من الوجع تداهمني وآلام.غثيان وتعب. ألف حول نفسي. برد.أين هو شهر ماي وبداية الحر في البصرة.شهران تموز وآب.بأيّ شهر أستغيث.. أين هو الحر أم بدأت أهذي.في هذه اللحظة اختفى تموز. تلاشى آب.فمتى يغمى عليّ..أدخل في غيبوبة حتى أفقد أوجاعي لكني لاأدري أهي لحظة الخدر أم الموت.قد تكون لحظة فقدان الإحساس بالألم.غاية ماأذكره أني كنت أرتجف من البرد، والجلاد ينظر إليّ. ظلّ يتطلع إليّ بضع دقائق بنظرات حادة تجاري أما أنا فيه ثم خرج!

وقتها تلاشى الألم من جسدي...

غيبوبة كاملة وصوت يحضّني لأمر ما:

أجلس أجلس إنه موعد الفطور.

أحد السجناء بيده براد شاي.وأنا مشغول تماما بأعضائي التي فقدتها ليلة أمس.لو لم تكن لدي أطراف لكنت مرتاحا على الأقل من الألم الحاد القاسي.. لاسكانين تقطع في لحمي.. لا ألم .لاوجع سوى خدر خفيف يدب من يدي اليسرى.كنت مصدوما بالحياة الجديدة في جسدي.ومصدوما برجلي العرجاء التي سكنت قبل غيرها من أعضائي..شخص آخر أنا.. رجل ثان أنا هو.انصرفت عما يدور حولي مشغولا بجسدي الجديد بل لاأبالي بلسع السياط والتعذيب.دمي لايؤلمني. أفكر بنفسي. كيف تتأرجح الروح على حبل دقيق من الألم والتعب فتحتفظ بتوازنها بين الحياة والموت.مثل بهلوان السيرك.توازن.. انهيار...حمام بارد طالت مدته وطالت.. برد وحمام آخر. نوبة وخز. طعم الموت يتلجلج على فمي بعدها نوم عميق على البلاط المكشوف.لاأعرف هل صرخت أم لا؟وسجين الزنزانة الغريب عني يقدم لي قدحا من الشاي. التفت إليه لحظة استوعبت صدمة بقائي حيا على البلاط واختفاء آلامي ماعدا خدرا لذيذا يدب في يدي اليسري ووجعا خفيفا يكاد ينسل من قدمي:

تفضل اشرب!

شاب أسمر نحيف البنية. بدت الطيبة تنضح من عينيه الوادعتين المشبعتين بصفرة تدل على يرقان أو مرض في الكبد.كرر بابتسامة تكاد لاتبين:

إشرب إنه من الجنود!

إنها الجنة تقدم لي برياحينها ومائها أنهارها وعسلها أم الملائكة. وصوت الشاب النحيف يردد:

بقيت طول الليل تئن أنينا أشبه بالهمهمة وعندما سكنت قبيل الفجر تحركت لأتأكد من أنك متَّ ولم أكن أصدق عينيّ أنك كنت تتنفس تنفسا طبيعيا!!

وابتسم كأنه مأخوذ من الدهشة أو الصدمة:

الحمد لله أنت حي مثلنا!

***

 

د. قصي الشيخ عسكر

..................

حلقة من رواية: ربيع التنومة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم