صحيفة المثقف

نهر جاسم: الداهية

قصي الشيخ عسكرفي البدء كان الحديث عن الداهية.

عن الصبية الحسناء ذات العقل الراجح يجري قبل كل شيء الكلام

قالت راوية نهر جاسم:

ام عبد بنت الشيخ الولي صاحب القبر المعروف تلك هي كنيتها وهو اسمها الذي عرفت به منذ الطفولة وبه ناداها ابوها كان عمر الطفلة وفق التخمينات ثلاث سنوات حين قدم الثلاثة الى قرية (بيت جوك) أمّا لقب الداهية فقد اطلقه عليها ذات يوم مستر (دوسن) باني القرية ومهندس بساتينها وانهارها والحق ان الايام اثبتت صحة ما ذهب اليه الوصف فالعالم كله من دون مبالغة بنصف عقل واستاثرت وحدها (أم عبد) بالنصف الاخر، ولو قدر لها ان تدخل مدرسة وتتعلم لاصبحت وزيرة او على اقل تقدير موظفة كبيرة لكن القدر جاء بها الى هذه القرية ليرسم خطواتها الى حيث لا تدري الراوية عنها فيما بعد أيّ خبر من الاخبار. مهما يكن من امر، فالداهية بنت نهر جاسم تفخر بها قريتها ولا باس ان تنسب اليها عن حسن نية اخبار غير عادية تخرج بعض الاحيان عن نطاق الممكن المعقول. فهي القادرة علي ايجاد أيّ حل لأية ورطة وهي الواثقة من نفسها والمتمكنة من دفع اية حجة. لسانها بالحق يقطع الحديد. لم تعش في المدينة لكنها تعرف حيل اهلها ودجل دجاليها وتحذر من يذهب من الفلاحين الى العشار والبصرة لبيع محصوله هناك كأنها تعيش في كل مكان وتفهم الناس عن قرب وبعد، ولولا انتسابها الى الشيخ الجليل والشجرة العلوية الطاهرة لقيل عنها افعى وفرعون وثعلب، غير انها افعى لا تلدغ وفرعون متواضع مؤمن وثعلب لا يسرق فكل ما يقال عنها صحيح حتى الاستعمار نفسه اعترف لها بالتفوق وسماها الداهية. نعم الداهية التي اخفت كل شيء واظهرت كل شيء بالوقت نفسه لم تزعزعها العواصف ولا النكبات ولم تحن قامتها الاحداث خاصة بعد اغتيال اخيها ووفاة والدها فنذرت نفسها لخدمة الضريح ولبست السواد واعرضت عن الزواج لذلك كان للخبر الجديد وقع المفاجاة. أمر لا يصدقه العقل حقا ‏فمن الغرابة والعجب العجاب ان توافق الداهية على العرض خلال بضعة ايام وهي التي أعرضت عن الزواج بالمرة، وانصرفت الى خدمة الضريح. لقد تقدم اليها الكثيرون.. وقبل كل واحد من خاطبيها أن تزف اليه بالسواد لكي لا تحنث بيمينها ما دامت أقسمت ان ترتدي الملابس السوداء طول حياتها، اما الباشا فما كان له أن يفكر بالزواج، والحاج عباس على قيد الحياة، لا خوفا او تملقا، وللاخرين أن يفسروا عمله كيف شاءوا.

المهم انه اقتنع تماما أن اقترانه بالداهية سيحقق له املين. الذرية التي تحمل اسمه، والزخم الكثير من الاصوات التي تضاف الي رصيده حين يعلن في نهاية عقد الخمسينيات عن ترشيحه لأي منصب كبير في بغداد.

ذلك اليوم استقبل الباشا الداهية باهتمام وترحاب مسرفين، فتوجست شيئا ما بيد انه دخل في الموضوع مباشرة. قال لها : يا بنت سيدنا الشيخ، تعرفينني متزوجا من اعوام طوال. لم أخن الحاجة رقية، ولم أسيء اليها. لست أعوج أو شارب خمر والحمدلله. المشكلة الحقيقية تكمن في الولد، من حقي أن اكون أبا لولد يرثني، وانت ذكية، قرشية اصيلة، فما رأيك لو وافقت، لعل الله يرزقني ببركتك ولدا، يحمل اسمي ويرث ذكاءك. كانت تنصت اليه وعيناها تثقبان الأرض. انها تدرك جيدا لم اختارها من دون النساء. تعرفه دقيقا في كل خطوة يخطوها ، منذ خطوته االأولى عند الاجمة، واللقاء وصوت الاطلاقة لو كشف النقاب عن وجهه لعرفته، المشية ذاتها، والهيئة نفسها، هناك تلمح شيئا ما، تأنيب الضمير والطموح والرغبة في احياء الذكر. كان طموح نهر جاسم القرية المسماة باسم ابيها يتجسد في الباشا.. ياللقرى والمدن الاخرى في البصرة من حصة بغداد. العشار. ابو الخصيب.. الزبير.. حتى قرية مهيجران المنسية قدمت عضوا لبغداد تربّع في عرش البرلمان وشط العرب تلك الناحية الطويلة العريضة ما زالت نائمة إلى أن أيقظها ابن النمر قبل ان تخلع اسمها القديم وتلبس الثاني، فاهربي ايتها الصبية اهربي وانت تشاهدين (عبد) يتلوى.

اطلاقة وسكون يتهشم، شاب ينتظر حبيبته. يفر حمام بين السعفات، ويفز حجل حائر. العاشق يضع يده على قلبه يتهاوى ويسقط. سنوات أغلبها مر مرارة العلقم وكلها انتظار. يكاد الامل يكون محالا وان تجسد باشكال شتّى.. باشا يحلم ببغداد، امرأة تراقب نذرا، قرية طويلة عريضة تضع املها في الضريح، ويبدو أن طلب الباشا قرّب الداهية من هدفها، وحرك " نهر جاسم " من رتابتها. سنوات طويلة، وهي تفكر كيف تحقق أملا اقرب الى المحال. لا يهمها الناس، وكل العرف الشائع، يمكن أن تقول انها استخارت الولي الشيخ، وهي بالتأكيد سوف تستخيره. فقط رقية وحدها تقف حجر عثره. كانت قريبة منها وبعيدة عنها في الوقت نفسه. في اكثر من مكان وساعة غابت عنها وحضرت معها، ومن حسن الحظ ان رقية ارتقت معها وقت الفيضان الى الجبل. كان الباشا في بغداد، فضاق الوقت بالحاج عباس وابنته ولا مكان يحمي من الماء، فهبوا الى الجبل. خطت الداهيه فوق العقارب، والصخر، وانتشلتها من الوحده والحزن :

أترغبين ان ابعث اليك احدى الوصيفات لتبات عندك؟

وقتها لم تطلق الداهيه لعواطفها العنان، وتقترب اكثر من رقية، فالاخيرة تجهل جهلا تاما معرفة الصبية ام عبد، بالعلاقة. أنّى لها ان تعرف. النخيل والشجر، والقصب والبردي. الماء، وزرقة السماء. كل ما في الكون يشهد الحب الطاهر ويروي عنه ما عدا البشر. الفتاة الجميلة البيضاء، ذات العيون العسلية، والقامة المديدة والشعر الحرير، أحبت فارسا حط من كوكب آخر، كوكب أحمر اللون، انتشرت عليه الجثث وخيم فوقه الرماد، تلك الحورية تجهل ان شقيقة "حبيب القلب" تدب خلسة خلف اخيها بعد ان عرفت تغيره المفاجئ، وتختبئ على بعد خطوات، فتسمع خفقات القلبين : عبد انا لك. وانا لك - لايمكن ان اكون لغيرك -ماذا لو اجبروك؟ - قلبي لك سوف اعيش بجسدي مع غيرك. المستقبل بقرات عجاف يلتهمن الاخضر واليابس. اشبه بالجمر. الملكة رقية تبتسم. وتضحك تفرح لحظتها. تمر السنين غضة نضرة لاتعطي ثمرا ليكون كل شيء غامظا وواضحا خصبا وعقيما وهي وحدها تدرك عقمها وتعيش كل يوم مع عشقها وحبها الذي اْ طل فجاْة من عالم ضبابي بعيد، ربما هو اْقرب اليها من المحال: - هل من اْمل؟ اين هو الامل، ورقية والقرية والناس يعرفونك قادما إلى هنا من مكان ما. – من انت؟ - انا نفسي لا اعرف إلاّ اني ابن الشيخ الذي جاء بي الى هنا - ومن هو ابوك الشيخ؟ كان عبد خلال اللقآت القصيرة يقص لرقية عن ماضيه. كلما حكى لها طالبته بالمزيد. الملكة عالية انت احلى من الملكات وانا لاأعرف عن نفسي. هناك الاشجار والمياه والسماء تسمعني وبعض ما جهلته الصبية سمعته من عبد يرويه لحبيبة القلب على عجالة: كان يقول لي: اضرب.. اضرب ياعبد.. اضرب، فاطيعه واضرب اقتل، ثم فجاْة…انقلبت الأمور صرخ في وجهي اردد سلاحك فقد رددت سلاحي احمل اختك واتبعني. - هل عرفت منه سر التغير المفاجي ء؟ - كلا فليس هناك من امر يثير غيضه مثل هذا السؤال.

- الا تعود للسؤال مرة اخرى؟ - لابد من ذلك بل اصبرعليه قليلا إن شاء اللّه.

- عبد........ مثل غفوة بعيدة تفز الملكة مذعورة. الوقت. الاهل. الاب. لن ابقى اكثر، وفي تلك الجلسة تسمع الداهية رقية اكثر من الباشا. عيناها تثقبان الا رض تبحثان عنها كانها بين الاموات وهي لما تزل حية: - ماذا قلت يا ابنة الشيخ الولي؟ فرفعت نحوه راسها ونظرت اليه بعينين ثاقبتين تكادان تخلوان من حياء مألوف عند الفتيات وقالت بابتسامة عريضة:

- هناك الشيخ لابد من أن أستشيره

- الشيخ ذهب الى جوار ربه ولخير له ان يرى حفيدا له من صلبه. - والحاجة رقية ايضا؟ - اضمني انت الشيخ الولي ولك علي ان اضمن الحاجة وخير البر عاجله.

- بقي شرط آخر.

- كلّ شيء أوّله نور آخره نور، وأنا تعوّدت أن أذهب أنّى رغبت وحدي لا من يسأل ولا من يشك. العرض مصون والحمد لله.....

فقاطعها لينفي أيّ سوء ظنّ:

ومن تظنيننه يفكّر أن يحجر عليك؟

كان عليها ان تمر بالحاجة رقية لتعدها بلقاء ثم تختلي بأبيها الشيخ. اليوم فقط جاءت الى نهر جاسم، فكل حياتها انتظار، وترقب. ما اثقل الوقت يمر وليس معها الا شمعة وبخور. كان الشيخ قبل لحظات يحملها على كتفيه ويحث ابنه على الهرب. ارددسلاحك فقد رددت سلاحي. اتبعني. الارض تطوى وتطوى، تتلوّى، وتتغيّر. سهول، جبال، رمال، كما لو أنّها لا تريد أن تنتهي من صورها. الليل يطول، فلا قرار، والنهار يطلع، فلا راحة حتّى تطالع الطفلة ارض جديدة غريبة السماء والماء والتراب، وعلى شفتيها سؤال ساذج وعميق، بدا في هذا اليوم الذي وصلت فيه اكبر من عمرها : - اين نحن يا ابي؟ فيحكي لها ادق التفاصيل عن يومه الذي هو فيه. كأنّه لا ينسى أيّ شيء. ولا يفوته عن اللحظة خبر ما. هنا سوف نعيش.

وإذ سُئِل الأب الشيخ عن الاْرض التي وقفت فوقها قدماه قيل له (بيت جوك).. هي عروسة الانكليز ومشتى المستر دوسن، ومطمح البرّ إلى عبادان، فابتسم وعقب:

ربما يبدلها الله خيرا من اسمها هذا.

ثم التفت الى ولده وابنته الطفلة التي جلست عند قبره اليوم، وعقب بصوته الرزين:

هي أرض الامان، هنا نعيش على ترابها كالحمامة الاْليفة. من خيراتها ناْكل، ومن ما ئها نشرب، مع الناس نكون ولسنا منهم، وقال الحاج عباس والد رقيّة للثلاثة اللاجئين :

اهلا ومرحبا بكم..... الإنكليز يا اولاد الحلال بدءوا يستثمرون الأرض، والعمل متوفر سواء عندي في الاْرض او مع الاْنكليز. ان دمكم وعرضكم ومالكم حرام علينا ما دمتم في حدودنا بين النهرين المالح والاْعمى.

وقتها حزن الاْب وفرح. قيل هي صدمة الفرح. هكذا فهمه من حضر، وربما عنى امرا اخر الثلاثة بالوقت نفسه اصبحوا تحت وصاية الحاج عباس,الى ان ظهرت معجزة الولي في وقت متاْخر. وهكذا هي المعجزات، يأتي أغلبها متأخّرا. لوانقلب الزمن مرة واحدة، لو تقدم او تاْخر، انها قدرة الله التي جردتك وانت حي في بلدك لتمنحك القوة اياها واْنت ميتف، فهل جاء كل شييء متاْخرا مثلما حدث الاْمر ذات يوم ووصل الدم الى كعبك أما عيناك فكانتا تشعان حمرة كخنجرك بعد ان قتلت يا اْبي عددا وجدته كثيرا هربت. الغالب يهرب. الفارس الذي يتحدث الاْخرون عن بطولاته ينسحب فجاْة ويترك مكان الثأر يكرهه اهله واعداؤه فيصبح مهدور الدم من الطرفين وليس من رفيق معه في رحلته الطويلة المتشعبة سوى ولده وصبية صغيرة. كان بامكانه ان يقتل آخرين وأخرين لكنه اعرض عنهم اذ توسم فيهم الخير فاصلابهم وفقما ارتآى ستلد اناسا صالحين وكأنّ الذين قتلهم لا رجاء فيهم. بذور شريرة بعيدة كل البعد عن قطاف الخير. لتكن مظلوما لا ظالما، اما الطفلة الصغيرة فلا شك انها مرت باقسى سنتين في حياتها. عامان لو وقع اي منهما علىجبل لتداعى. في الاْولى قتل عبد غدرا، ثم غادرتنا ورحلت الى قبرك الاْول يوم دفنت على ضفاف نهر جاسم، وما كنت تظن انك ستدفن قرب النّهرالمالح او ربما علمت ما سوف يكون، فأخفيت الاْمر عنا.                      ‏ الى هذه اللحظة كانت الداهية تلوم نفسها,وسوف تظل تعض اصابع الندم الىأخر يوم في حياتها. كان بامكانها ان تخبر اباها بالقصة التي عثرت على طرفها منذ البداية او تواجه عبد على اقل تقدير. الآن وربما بعد الحادث مباشرة فهمت كلام ابيها:نحن مع الناس ولسنا منهم غير ان عبد نسي التحذير، وسار خلف قلبه. ظن اننا اصبحنا من الناس. من اهل بيت جوك، ففي السنة الأولى لمجيئهم تفاءل الحاج عباس. هذه السنة بنى رصيفا يمتد الى ضفة الشط الصغير واصبح رأس النهر المالح عبر الطرف البعيد يضج بالحركة. الارض المربعة سويت باتجاه الجانب الشرقي حيث اقيم المكبس. وغدا المكان يعج بعشرات العمال. كأنّه يوم المحشر. إذ في موسم نضج البلح لم تعد بيت جوك قرية، وانت يا عبد‏ تقرأ وتكتب فلم لا تكون كاتب الحاج وذراعه اليمين وعهد الله بينك وبينه في حفظ المال والعرض، ولحسن الحظ كما تبديه ظواهر الاشياء ان الداهية اشارت إليه ان يجمع بعض ما يستلمه من اجرشهري، فيشتري قطعة ارض. تحدثت معه وهي ما تزال صبية في الثانية عشرة من عمرها، وكان هو في العشرين بالوقت نفسه، كانت الريح تهب عاصفة هوجاء تقتلع الشجر الوادع المليء بالحياة من جذوره. كانت قطرة الدم تتبع الثلاثة كسيل يهوي من جبل عال، كصلّ يقتفي الرائحة خلسة من دون ان يشعر به المغدور. مع أيّ شيء كان يأتي. بالريح بالخنجر. بالماء. النار. اطلاقة. اي شيء. حيث دفنت الصبية راسها كالمصعوقة في صدر ابيها، وهي تصرخ وتنتف شعرها ,وتقسم الراوية ان الشيخ الجليل ما سقطت له دمعة، بل كاد يغلب دموعه حتى وهو بين يدي ربّه ولم تسمع الداهية منه سوى عبارة واحدة اعادها وقت الحادث:قلت كونوا مع الناس وليس منهم. واذ عاهدت نفسها ان تظل تلبس السواد طول حياتها احتج ابوها قائلا : ان كانت تعرف أنّ ذلك يخالف سنة الحياة، فردت عليه:ماذا كان لو لم تغمد خنجرك. اجابها: اعوذ بالله، ربّما مات عبد هناك ظالما لا مظلوما.

الحق كانت نهر جاسم تستعد لاستقبال اول حادثة قتل من حيث لاتدري. قبل بضعة اشهر اعلن الانكليز عن نيتهم بيع بساتين بيت جوك التي اختطوها، ولعلّ الأهالي فاتهم أن يعرفوا سبب رحيلهم فاختلقوا عذرا مقبولا :ان ارض البصرة مالحة لايرجى منها خير سوى التمر وسوف يرحل الانكليز نحو الشمال، هو حيث الخصب والمطر، ومع رحيلهم بداْت القرية بالانحسار. :

المقهى اغلق.

الدكاكين ماعدا واحدا شخص كجذع نخلة هرم وسط ازقة القرية بين البيوت.

المسبح اهمل وسكنته بمرور الايام السلاحف والضفادع.

عمال كثيرون غادروا الى ضفة العشار باحثين عن اعمال هناك.

قيل هي بومة نعبت ففرقت الشمل او هو حسد حاسد والعين مذكورة في كتاب الله. رايتك يا بيت جوك ما عادت ترفل بالفرح فلا بد من ان تنكمشي مهما طال الزمن…الاتراك العشائر. الفرس. النوَر. اليهود..... كما تمتص الاسفنجة الماء تمتصين انت القوم لكنك تغيبين فيهم ومن شرب من ماءك لابد ان هو عائد اليك هكذا يقال، فذات يوم سمعت الصبية عاملة سوداء تغني في اثناء مرور المستر دوسن بالطريق المحاذي للنهر الى المسبح:

وادعتها والدمع من عيني يسيل

كالت الله وياك يا نعم الخليل

اذكر الماضي ولا تنسه عهودنا

ومع الرحيل رأى اهل بيت جوك الدمعة تسيح كالعذراء الخفره من عين المستر دوسن هذا الرجل الذي ساح في كثير من بلدان الشرق وغزا مع الإنكليز مدنا وقرى وصحارى بعيدة الاغوار عميقة المنافذ لم تسقط له قطرة على اي بلد يفارقه كما يروى الا علي بيت جوك وقد وقف لحظات واصغى للصوت الشجي على الرغم من أنّه لا يتحدث العربية بالتمام …وعندما اصبح البيع حقيقة وضع عبد في حسبانه ان يستشير الحاج عباس لا لاْن المال ينقصه بل لعله اراد ان يتقرب من الحاج الذي قال له: انك تستطيع ان تشتري اية ارض. فقط لا تفكر ببستان كندا لا لكون البستان اكبر من قدراتك فيمكنك ان تستلف مني اذا ما احتجت بل لاْن الباشا يرغب في شرا‏ئه لموقع البستان من منزله اذ من العروف عنه انه لا يهتم بحيازة الاْراضي قدر اهتمامه باستثمار امواله في المشاريع التجاريه.

عندئذ كانت بيت جوك تتمزق قطعة قطعة…وشظاياها تتناثر حولها، كما لو أنّها بركان يتمزّق.

بيت دوسن ذهبت الى الحاج عباس.

كندا الى الباشا.

البستان الصغير اسفل النهر إلىعبد.

و.. و.. و..... و

بهذه الصورة انضوت بيت جوك ضمن احداث جسام تاْرجحت بين الباشوات والبرلمان والانكليز واول حادثة قتل وقعت فيها وغطاها الزمن لسنوات الا عن عيني تلك الصبية الحسناء......

المهم لم يعد الثلاثة النازحون بلا مأوى او يعملون على ارض غرباء عنها. اصبح لهم وطن. قطعة ارض رأوا فيها العالم كله. بيت يسع الدنيا جميعها. الماضي تلاشى. نسوه مع الارض الجديدة. الحياة. الوطن. السعادة:بيت. نخل. عصافير. فراش. وطيور. نقيق ضفادع. نوح حمامة بين سعفات النخيل. ومع الارض والفرح كبر الامل في صدر عبد. لقد اصبح مالكا ولم يكن ليعرف ان الاهالي على الرغم من حبهم له وثقتهم به مازالوا يجهلون اصله ونسبه وحسبه. الآن ينسبون العائلة للنبي سيد الكائنات بعد ان رءووا باْم اعينهم معجزات ولي غريب حال الفيضان الكبير دون نقل جثمانه الى النجف. الارض ضنت به كأنّه ملحها. يقال انه توفي كمدا على ابنه المغدور. كانت الناس تهرب هائجة. قطيع نعاج تشرد من ذئب فاضطر المتطوعون لاْن يقبروه على عجالة في باحة مرتفعة جنب النهر الاْوسط الذي حمل اسمه فيما بعد في حين فرّ الجميع، والماء يطغى من خلفهم إلى (تلّ عريزة) القريب حيث يدفنون عند سفحه موتاهم الصغار. كان الماء يجرف كل شيء امامه :السباع الضباع. الغنم. الصخور. الاشجار. يدخل الجحور. الثقوب. فتخرج الاْفاعي والعقارب من مكامنها. وسط ذلك الغضب العاتي، والهابط فجاْة من مكان ما، فرّ المذعورون الى عريزة. تقول الراوية:كان من البر ياْتي، ومن البحر. طوفان نوح ام تراه اعظم، والذين شاهدوه ومنهم الداهية راْوه يلتف على بيت جوك كوحش في لهفة الى الدم والعظام واللحم. لا يقنع بالقليل حتّى هتف بعض الفارّين من خوفهم هلك واللّه العباد، وللقرية حكاياتها واحلامها. عندما يحدث زلزال في بلد ما يوعز السبب الى الفساد، وقد سألت الداهية اباها خلال احدى النكبات البعيدة :هل ينجو يا ابي بيت مؤمن في حارة ملعونة كتب عليها العذاب؟ فاْجاب الشيخ لا اللهم الا اذا حدثت معجزة. واهلها يفكرون أي ذنب اقترفوه. أي ذنب عظيم هذا الذي حل معه الخراب والدمار؟ ليس هناك من مراب او قاتل. ستعرضوا ياعباد اللّه أعمالكم. ولتقرأ نهر جاسم بيوتها. فهل يستدعي حادث سرقة غضب البحر؟ وفي كلّ بفاع الدّنيا سرقات ورشاوى وزنا باسرّ والعلانية؟من يدري … بيت جوك ليست كلها شط العرب التي صارت بقدرة قادر تسبح على بحر قلق، وفي العيون كوابيس ترتجف. امس في قرية مهيجران الخاوية شاهد الفارون عربيدا يشق الماء ومن رآه من بعد وصفه بدقة : ذو شعر كالحرير ورأس لا هو بالمدوّر ولا هو بالمثلث. كالاْفعى طويل كاْنه التنين في الضخامة، يرفع راْسه من الماء ليخطف بلمح البصر انسانا او بقرة ويغط به، وها نحن محاصرون على التلّة قد تركنا كثيرا من اغنامنا وطيورنا تواجه وحدها الماء و لم نجلب الا ما خف حمله، أما الداهية فضاق بها الوقت عن حمل أيّ شيء وهي من يحاصر الموت قبل الماء اباها. جبل عريزه الذي دفنا فيه موتانا يقف عند طرفيه حارسان قد يدهمنا العربيد ليلا، والحمد لله على أنّه خلقه لايعدو بل يدب كالنملة ومن يشعر به ويبتعد عنه يفوز بالنجاة، وإلاّ لأهلك لو كان يُرع أُمما شتّى قبل الموعد المحتوم لها. كانت القرية مشغولة بالماء المحمّل بالعرابيد، القادم اليها من جميع الجهات والداهية لايؤويها الا الصمت. هكذا مات ابوها وسط حدث عارم قراْته على الوجوه وفي العيون الطوفان. الماء. في عينيها الطوفان والحدث الجديد مثلما دخل الشيخ القرية غريبا رحل فيها غريبا وحين ينحسر الطوفان المجنون وتهبط من التلة تواجه الوحدة من جديد. ستقلقها اخف حركة ويرعبها مواء قط وعواء ذئب من بعيد، والا فاْين تذهب؟ ثم اين ترجع؟ وهنا الارض والذكريات والثأر. بستان عبد. الغرفة التي ضمتهم ثلاثتهم. باحة البيت. الملكة. هو القدر الذي جاء بالفيضان، شاء لعلة ما ان يفر الأهالي الى التلة فيلغى مجلس الفاتحة على روح الشيخ الغريب. الحاج عباس ابورقية وعد ان يقام مجلس مهيب للراحل حالما تنتهي الشدة. مع ساعات الفيضان مع النساء لم تكتنفها الوحدة كم فكرت ان تعود من حيث اتت وصدق ابوها حين قال عن عبد ذات يوم انه لا يعرف طريق العودة. كانت طفلة، وهي اليوم في ريعان الشباب لها من المفاتن ماليس لفتيات القرية ممن هن في سنها، هناك زمن طويل يتناثر على عقد كامل يفصلها عن مسقط راْسها ان كان مابقي من اهلها ظلوا في المكان ذاته، وقد امتد عذاب عاد وثمود ثماني ليال، وطوفان نوح كم طال، ولما يزل اهل بيت جوك على التلة بنعاجهم وكلابهم يسرحون فوق الموتى الصغار يتحدثون عن العربيد ويذكرون الشيخ الراحل. الحاج عباس اكد ان الحالة اذا طالت فلا بد من ركوب الزوارق والفرار الى العشار:

- ظهور العربيد دلالة على نهاية العالم.

- لاتجتمع الماء والنار حيث لا يطفيء النار الماء الا لطامة كبرى.

- يقال سينتشر الماء ومعه الوحش فيغطي البصرة بعد شط العرب ويصعد شمالا وجنوبا وشرقا وغربا.

- بالماء تحل نهاية العالم كما بدأت به.

- اقول مادام الوحش العربيد بطيئا فلم لا يذهب احدنا ليتربص به.

فيرد صوت ساخرا من صاحب الاقتراح:

- ومن يمنعك اذا ذهبت.

ويتمتم الحاج عباس مع نفسه:

- شر البلية مايضحك.

وبقدرة قادر حلت المعجزة. البركة. الطوفان وصل الى القبر.... فجاْة حام الماء على نفسه، وسكن. الوحش المرعب لم يجرؤ ان يرتفع الى حد القبر. المعجزة سكنت قلوب الناس. بهرت عيونهم. وربطت القلوب الى معناها اللذيذ. منذ ذلك اليوم اصبح الشيخ علامتها. بيت جوك القرية الوحيدة التي تضم رفات ولي طاهر من سلالة الرسول هاجر اليها بعد أن خُيّر بين ان يذبح من اعدائه المئات بل الآلاف فكسر سيفه حيث توسم الخير في ذرية من نوى ان يقتلهم وهم ما زالوا نطفا في الاصلاب. ليس هناك من قبر ولي في اية من القرى المجاورة. مهيجران. الدعيجي. كوت سوادي. كوت الجوع. ارض مبروكة هي بيت جوك. القدر بعث صاحب القبر الى هذه القرية لينقذها. كأنّ كسرة من طوفان نوح سقطت عليها والا فما معنى ان يسعى رجل مع فتاه وطفلته عبر مزارع وبساتين وصحار وقفار ليستقر في بيت جوك ويصبح واحدا منا حيث مات هنا وسبق بموته الطوفان المرعب. قالت المعجزة والطوفان:هذه ارض مبروكة بفضل قبر العبد الصالح فلتكن مشيئة الله ولتحمل الارض اسمه كانت قبل عصر الطوفان (بيت جوك) فلتكن نهر جاسم نعم نهر جاسم، وخلال اسبوع من مغادرة التلة انتصبت اعلام خضراء فوق القبر وتناثرت نقود حمراء وبيضاء. لم تعد الداهية تشعر بالوحدة. اصبحت القرية كلها تاْتي اليهاوتجتمع النسوة عندها، والقبر الرابض كالأجمة الصغيرة في المثلث الذي لم يشتره احد بعد اضفى على القرية بعض النشوة والفرح. الحق ان نهر جاسم بقي من حيويتها نأ مة اشبه بالنفس المقطوع، فبعد ان صفى الانكليز اعمالهم فيها وجب على تلك القرية قبل ان تغير اسمها ان تدفن شبابها وبهجتها وايامها الحلوة الى الابد. اضحت كجثة هادئة يكشف سكونها الضحى ويودعها المساء الثقيل، ربما تجد حيويتها في موسم التمر حيث يكثر العمال في مكبس الحاج عباس، اما قبر الشيخ الجديد فقد لمّ القرية، ومد بركاته الى قرى اخرى، زاره اهلها، وقدموا له نذورهم. آه ايها الرب الرحيم. في لحظة ما يفقد المكروب عقله ويعترض على حكمك، وفي لحظة شيطانية سأ لت الداهية نفسها.. لو مات ابي قبل اخي عبد لنسبنا العالم منذ البداية الى شجرة الرسول لكنها ارادة الله ولا راد لأمر كان قضاه. لا بد ان يقع المحذور ليمر اليوم الكالح. الليل والنهار تساويا في الصمت والقسوة. اتحدا الى نهاية أشبه بسراب لا تستطيع تفسيره. شعرت ان جبلا من الهم يجثم على صدرها. كادت حواسها تنصت الى حزن اخيها عبد. كان يعود من المكبس الى البيت ظهرا. يتغدى مع الاب ويسترخي الى العصر ثمّ يخرج الىالمكبس. استفزها تغيره. كأنّه متعجل. بغيرماحاجة الى القيلولة. شيء ما وأيّ أمر يشغله ويحير فكره. باديء ذي بدء ألقت بشكوكها على الماضي. لعل عبد حن الى القتل والقتال، أو اشتاق الى مسقط راْسه. هناك يشده شيء ما عشق مثلا ومع انفجار الخلاف نسي قلبه وما كان ليستطيع ان يعصي امرا للأب الشيخ، وهو يطلب منه ان يتوقف عن القتل منتصف الزوبعة، ثم راوده الحنين فجأة الى قلبه الذي تركه هناك. أمر تستبعده ولا تستبعده الداهية. لجأت إلى ابيها حيث الامان فوجدته قريبا منها وبعيدا عنها، شاْنها كلما ساْلته عن الحرب والماضي والدم:

- اتظن ان عبد يتركنا ويرجع؟

- اين؟

- يعود الى النار.

- مشكلتك ياابنتي انك صغيرة السن وعقلك اكبر منك بسنوات.

وربت على كتفها واعاد السوْال:

- اية نار تقصدين فالنارفي كل مكان؟

- مكاننا الاْول.

كاْنه يجهل ويعرف:

- وهل يعرف عبد الطريق؟

وبعد لحظة صمت:

- نحن مثل آدم حين طرده الله من الجنة لم يستطع العودة اليها وهو حي. عندئذ اطمأنت قليلا. قلبت فكرها بوجوه مختلفة وحملته على احوال متباينة حتى دفعتها ظنونها الى مراقبته من دون ان يشعر، فتبعته خلسة في احد الاْيام.... كان على قلبه يمشي. عيناه مفعمتان بالحذر. لفتاته. سكناته. حذره. هناك عند القصب الكثيف راح ينتظر. لا عين رأت ولا اذن سمعت. الى ان جاءت اخيرا. حضرت ملكة القلب. تلك اللحظات حبست الداهية انفاسها وهي ترى رقية تخاطر بنفسها لتلتقيه. تحدثا عن الحب طويلا. الحب والشوق. لحظات قصيرة سافرا خلالهابعيدا.... كانا حائرين. يغمرهما فرح وتعاسة. هاجس آخر يضاف الى هواجس الصبية، وهم تال يجثم مع هم سابق على صدرها لكن المصائب على ما يبدو آنست الداهية والفتها مثلما تروض الساحرة نمرا متوحشا. عبد لا يخون الزاد والملح. الغدر ليس من طبعه. اصيل كماهي الداهية اخته والحاج عباس يثق بالضيوف ويحترم العائلة القادمة من مكان ما. قرية مجهولة وبلاد الله واسعة,اذن كيف يصبح عبد زوجا لرقية والرصاص والدم قطعا الطريق على العا شق لأن الحلم وقع قبل أوانه بسنوات!!!وكأن الاشجان التي دهمت الصبية اليافعة اقتحمت على عبد صمته وحيرته فكانت عيناه تشكوان للأب لوعة الاسى. ليس اكثر من ذلك، فلعله يلقى عنده حلا لداء الحب:

- رقية باْي شييء أراك تفكّرين؟

- لااْدري يا عبد. اتدري كم اْعاني حتى اْخرج الى الاْجمة!

- الصبر.

ثم يهز راْسه ليغلب الصمت المفاجيء:

- نعم ليس لي الا ان الوذ بالصبر.

- هل اكون كحمده!

فقال وفي عينبه لغه غريبة حتى كادتا تلتهمان شفتيها والعالم كله:

ومن هي حمده؟

فخاطبته بصوت خافت كما لو انها تبوح للمرة الاؤلى بسر خفي:

- سمعت بقصتها من جدتى التي سمعتها عن امها....

والتفتت اليه لتساْله مندهشة الم يحك لك القصة احد.

فظل ساكتا ينتظر قددره، ولما تأخر جوابه واصلت:

- هنا قبل ان ياْتي الاْنكليز بمئات السنين عاشت الاْميرة حمدة بنت الشيخ. ست الحسن والجمال. وكانت تحب حمد وفي يوم من الاْيام جاء شحاذ غريب الى المكان يطرق الابواب يستعطي حتى وصل الى بيت حمدة وعندما فتحت الباب اختطفها ذلك النسر...

ما اجمل كلام الملكة، لكن عبد انتفض محتجا اذ لم يكن بوسعه ان يرفع صوته خشية من ان يفضح مخباْهما، فهمس بغضب مكتوم:

- لن يقدر احد ان ياْخذك مني!

يغادر الاْجمة، وهو يحلم. في البيت تقرأ الصبية في عينيه الياْس. غضبا مكتوما. كان النسر غريبا والحبيب العاشق قريبا. وعبد هو الغريب الحبيب! الاْمر مقلوب. اما الاْب فيروح في تأمّل عميق كمن يدخل في عالم عرفاني مترامي الاطراف. هو معهم وليس كذلك، يطرق قليلا فيكسر فضول الاثنين إلى الرغبة في السماع:

- كل شيء يتغير انا نفسي تغيرت ولعل الانسان لا يدرك مبتغاه في الحياة الدنيا فلنحمد الله على النجاة!

اشبه بالحيران الولهان المتعب يساْل الاْب. :

- هل انقطعنا بالمرة؟

فيرد الشيخ بعد ان يتامل لفترة شأنه في كل جواب:

ما كان اعظم. لقد اجتثثناهم وقطعونا عنهم. هكذا افضل.

- قد يساْلوننا ذات يوم.

- لا احد يساْل ما دمنا لم نثر من حولنا الشبهات.

الصبية تلزم الصمت ولا تجرؤعلى المكاشفة على الرغم من خوفها وظنونها، وهاجس من تاْنيب ضمير ظل يلاحقها لاْنها لم تنقل الى ابيها الشيخ كل التفاصيل. لا تعرف لم شدتها حال عبد، وقلقه، وكيف تسللت خلفه، واحتفظت بالسرحتى وقع الحادث. صوت اطلاقة. حجلة تفرمذعورة. حمامة تتوقف عن الهديل. بصرها يقع على يد تتسلل في حياء الى انامل رقية، خلال ثوان يتحول العاشقان الى ملاكين طاهرين. الصمت يطول، والياْس يطول ايضا، فيدخل الليل بالنهار، ليعود الموت مرة اخرى بوجه آخر.

وللموت وجوه كثيرة، وللموت اقنعة متباينة، وله غاية واحدة تنجلي في لحظة واحدة. ليلة الحادث راودها ارق بثقل الجبال، كأنّ العالم كلّه يجثم على أنفاسها. فانكمشت فوق سريرها تغالب في النوم عينيها. ظلت تحدق بوجه عبد، وتململت. شيء ما سيحدث. امر خطير. لعله يغادر القرية الى مسقط راْسه، فيسترضي اْهله ثم يعود، كما يخيل اليه، لكنها تتذكر قول ابيها الآن، وكانها نسيته

 

د. قصي الشيخ عسكر

...................

حلقة من رواية نهر جاسم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم