صحيفة المثقف

المطرود

قصي الشيخ عسكرمنذ زمن طويل: ان عبد لا يقدر مثلما لم يقدر آدم على العودة بعد ان طرد من جنة عدن. ذلك ما روّض ولو الى وقت ما افكارها التائهة الجامحة. لو يفصح عبد للشيخ عن حقيقة الاْمر. ربما الخوف من الزجر والتاْنيب. كيف تخون الزاد والملح . القرية آوتنا بعد كل تلك المحن. افهم يا عبد نحن غرباء حتى وان اشترينا كل بيت جوك، ما الذي يربطنا بهم الآن؟ انظروا الى ابن النمر يكاد يكون معزولا عن عائلته التي هجرت القرية واصرهو على البقاء!مع العلم انه ليس مقطوعا من شجرة مثلنا الا ان بعض الظرفاء والخبثاء يلمزونه حين تواتيهم فرصة ما لاْنه لم يغادر مع اْهله، فكيف بنا نحن المقطوعين من شجرة!

لم يا ترى ضرب الشيخ ابن النمر مثلا؟ اهو تحذير مبطن الى عبد الذي اصفر وجهه واحمر لذكر الاسم؟ كل الناس يعرفون انه فضل البقاء، والخروج عن اهله لغرض لم يعد مستورا كانت هناك حزازات. ومنافسات بين أل النمر وأل عباس المنحدرين من آل حمود الذين ينتشرون على امتداد شط العرب، نفور مكن في النّفوس دهرا، ثمّ ظهر في الأحفاد علنا. ولكي ينفرد ابن النمر بشط العرب وحده، لزم صف الحاج عباس، فبردت علاقته بأهله. معادلة صعبة قد لا يفهمها عقل عبد بعد، ولا يمكن أن تستوعبها الداهية وان كانت ذات ذكاء خارق يخرج عن الماْلوف، ومع الفجر تسلل الضوء مرتابا، فوقع بصرها على الاْب، وهو يستغرق في صلاته، فاْدركت انها غفت دقائق معدودة وصحت واْبوها على وشك اْن ينهي تسبيحه. الفجر سرقها من صحوها كما تسرق هدوء القرية ضجة البستان إبان كبس التمور. كل شيء هاديء…. فجاْة، كما لو اْن العالم انفجر…تداعى…هب من كابوس، وهي ليست الاطلاقة الاْولى، فغالبا ما يتعرض طائر الحجل والحمام والبط العابر سماء القرية الى النار. بيت جوك لم تشهد جريمة منذ انتشرت بيوتها بين البساتين، وكانت هي الارض لآلاف السنين لاتعرف الجريمة حتى هبط آدم وحواء اليها. كان السكون يتبعثر بلحظة فتصل شظاياه الى اقصى بيت جوك. الرصاصة هذه المرة لم تصب حجلا اْو خنزيرا بريا يختبيء وسط الحقول، فتبصر الصبية، من مكمنها، اخاها يضع يده على صدره ليسد شلال الدم، ثم يتهاوى داخل الاْجمة، في اللحظة نفسها تلتفت الى شبح مقنع غير غريب الهيئة. يداه، استدارة راْسه، طريقة ركضه . الشبح يفر بين البساتين باتجاه الطرف البعيد من النهر (الكودي)، مع ذلك لاتجرؤ أن تطلق اية صيحة. تكظم حزنها كاْنها تجهل كل التفاصيل. الخضرة . الماء. العشب. النخيل. ليست الداهية وحدها شهدت مصرع عبد فالجميع هنا في بيت جوك شهدوا انها اول جريمة وقعت بعد فرار آل النّمر من دون قتال.. يومها كانت الأرض عذراء بكرا، مثلما هي الآن، وقد قتل ربع سكانها إذ صرع قابيل هابيل. اهربي. اهربي. اهربي. عثرة عند جرف الساقية . كدس الشوك. انسي ولو للحظات خدشا في الركبة وشوكة انغرزت في ابهام الرجل اليمنى وعند العكس لسعة من ورقة نهمة كالدبور. اكثرمن جرح وشوكة. الزمي الصمت حتى يتبين أهل القرية الامر، ولم يستغرق الصمت بعد الاطلاقة طويلا. سرعان ما اجالت النظر الى وجه ابيها الذي ورده النعي خلال دقائق .. لقد قتل عبد. فعلها المجرمون.. فتطلق الصبية صرختها المحبوسة. صرخة تحملتها دقائق طالت كالسنين ... ثم ذاع في القرية خبر صدقه الناس ما عدا الصبية الصغيرة. الثارات القديمة سبقت الأمن والأمان. الثاْر . عبد قتل من قبل عشيرته . اختلقت حكايات بالوان متنافرة. كيف تسلل القاتل؟بل كيف عرف مكان الثلاثة؟، وهذه بيت جوك بعيني الصبية وأبيها والأهالي الاصليين بحر من دم اختصرته قطرة سالت من عبد. كادت ان تنساق الى حرب طاحنة تأججت ملامحها في الصدور بين آل الحمود وآل النمر حتى قيل ان كلا من العائلتين حفروا خنادق تحيط بالبيوت وبدلا من ان تسيل قطرة واحدة كان يمكن ان تستقبل القرية سيلا هائلا من الدماء يطغى لحظة بعدلحظة فيغطي ناحية شط العرب كلها، لولا ان صرخ الباشا في اهله: لا وخرج منهم ليقف في صف آل حمود ويدافع عنهم وكأنهم اهله، فوقف آل النمر مذهولين ثم انكسرت شوكتهم ثم انسحبوا بهدوء، ربما عرف الباشا ان قبيلته هي الأضعف ولعله لحكمة سابقة لأوانها لزم صف آل الحمود ، وبمرور الزمن رحل آل النمر فرادى عن القرية . واحدا اثر واحد حاملين غيظهم على ابنهم الذي لم يترك القرية. كان يمكن ان يقال حرب بيت جوك، فتكون هي الجريمة الأولى. الدولة نفسها اعجبت بذكاء ابن النمر وربما كان هذا الحادث احد الأسباب المهمة لمنحه لقب (باشا) اما اهله وان كانوا قد انسحبوا فانه ابقى بينه وبينهم شعرة لم تنقطع ربما تجسدت في زيارة ما لهم من قبله كل سنة او سنتين مره .

لكن مصرع عبد، تلك الجريمة الأولى ذكرت القرية بكل الخلافات السابقة التي لم تنفجر:

- عبد؟ كيف حدث الأمر‎‎؟

- الثأر كالنار تلتهم الأخضر واليابس .

- العائلة كلها مسالمة لم نعرف عنها الا خيرا .

- من يدري .

- القاتل كان يستهدف الشيخ بالدرجة الأولى وفي آخر لحظة استثنى وقصد عبد .

- ليحرق قلب الأب .

- يقال الله اعلم

في النهاية تستقر الحكايات بحكاية واحدة ان محروبا قتل الشيخ اباه وعمه وسبعة اخوة له تسلل في زي شحاذ، وأخذ يجوب العراق قرية قرية وحارة حارة، ينام ساعة او اقل باليوم ليواصل الليل بالنهار، وفي رأسه خطة خبيث. الخبر ذكّر الناس بشحاذ اشيب الشعر طويل اللحية مكث في بيت جوك نهارا قبل شهرين طرق وقتها الأبواب بحثا عن كسرة خبز وقليل من الحنطة . الناس تذكروا لحيته الطويلة البيضاء ونسوا تقاسيم وجهه هو المحروب بعينه قاتل عبد معروف اذن سلفا، والشيخ الأب وقف صلبا امام الدموع الريح الهابة هوجاء من حوله عجزت عن ان تحمي ظهره، واذ زاره الناس معزين نطق اطول عبارة سمعت عنه في تلك الأيام: مكتوب على عبد ان يموت برصاصه . من اطلقها لا يهم . بيت جوك اكثر عددا الآن من الدنيا يوم خلقت كان عليها حين ذاك اربعة فقط: آدم وحواء وابناهما، مع ذلك حدث القتل ربع سكان الأرض فني بلحظة واحدة، ولوذهبت الى مكان آخر، لكان لابد من ان يأتي قاتل عبد الى هنا بصفة تاجر او بائع متجول او عابر سبيل، فتصيبه رصاصة في المكان ذاته والساعة عينها . كان الشيخ الأب بعيدا عن الدموع . كأنها تجهل الطريق الى عينيه، حتى اكتشفت الصبية خطأها فيما بعد فعلى الرغم من كونها الداهية الا أنها - شان الآخرين الغرباء - ظنت اباها يضم بين جوانحه حديدا لا يلين . ذات ليلة خاتلت نفسها بين اليقظة والنوم . السماء صافية . النجوم تستند الى سعف النخيل، والبدر مال بهالته الشفافة باتجاه الأفق الغربي حيث عريشة العنب. كان كمن يتسلل فخيل اليها انه يخطو الى الخارج، فاقتفت بعد لحظات اثره . لم يذهب بعيدا، وقف عند حافة النهر، ورفع رأسه الى السماء . كانت هناك اصوات تنق من السواقي . ضفادع . جنادب تصر، وثمة كلاب تنبح من بعيد . الخشوع يسبق الأشياء. لم يطل تحديقه بالسماء، فنكس رأسه ومال الى جذع نخلة كما النجوم، وبدأ ينشج بصوت عال، فلك يدور بالحزن الى ما لا نهاية، والسماء تلتف بصوته لتبحث عن شئ مبهم معه. في كل مكان نحن غرباء. في السابق حيث الأهل. وهنا. وها هي النجوم يا أبي تغادر السماء وتستند الى النخيل . الدنيا فلك دوار، يوم لك ويوم عليك، ولحد الآن هي علينا، فمتى تصبح لنا ! لن تتركه وحده، مثلما انطوى قلبها على سر يتعلق بأخيها عبد، ترددت قليلا، كانها تخشى من تأثّره اكثر من غضبه، وهمست على بعد خطوة منه:

- أبي ! أبي .

رفع رأسه باتجاهها وتوقف عن البكاء:

-ألم اتركك نائمة؟

قالت وعيناها تحفران الضوء الخافت بين الأشجار:

- جئت أُطلعك على سر

-الآن في هذه اللحظة؟

لم تعرف اباها ضعيفا قط، والآن تدرك أنه أعرض عن البكاء امامهما كي لايعرفا الذلة والضعف، وكف عن الدموع في اسوأ الاحتمالات امام الغرباء كي لا يشمتوا، أليس هذا ما ارادت الاعتذار به عيناه:

- فتحت عيني، فجاْة، فلم يقع بصري عليك، فزاد خوفي، وتلجلج السر في صدري.

- ان كنت تستطيعين الاحتفاظ به وحدك فلا تخبريني.

- ابدا ليس بمقدوري!

فعقب اشبه بالمستنكر، وهو يمسح عن عينيه بقايا آخر دمعة:

- لكن اخبريني أوّلا هل كنت تقتفين اثري؟

وكان لابد ان تعترف بما كان:

- نعم، وكنت الاحق عبد كظله إنّه القلب يا ابي.

- لم تعودي طفلة . (اقرب الى التحذير منه الى الاْسف):

يعلم الله أي ذنب اقترفه بحقكما.

دونما تمهل او روية قالت:

أعرف قاتل عبد .

جحظت عيناه لحظة، وانتقلتا بين النجوم المتهاوية ووجهها، ثم عاد الى هدوئه، واستدرك:

- هذا كلام يمكن ان نتحدث فيه داخل البيت.

وفي المنزل حيث اختفى كل شيء: الصرير ونباح الكلاب وضوء النجوم غير انهما ابصرا وجهيهما بوضوح تماما على ضوء المصباح الشاحب:

-منذ متى تتبعت المرحوم؟

- كثيرا ما شغلني تبدّله المفاجيء . ظننته الحنين ثم انتبهت الى انه بدأ يعتاد الخروج وقت الظهر .

- ولم لم أعرف منك؟

- منعني الحياء لا الخوف .

- وهل راْيت القاتل؟

- لا بل عرفت من هيئته شكله.

- ماذا عن وجهه؟

- كان ملثما.

- بين الكذب والصدق اربعة اصابع يا ابنتي.

- لن يخيب حدس ابنتك يا ابي . المشية ذاتها . الهيئة . الطول... .

قاطعها كمن لا تعنيه التفاصيل:

- ليت قاتل عبد محروب طالب ثأر كما شاع على الاْلسن!

لم يعد الاب الشيخ يبكي بصمت اْمام الداهية . راْته طفلا صغيرا يضع مرارا راْسه على ركبتها ويغط بنشيج محموم، فتتعلق عيناها بلحيته البيضاء، وصدره المزدحم بالعبرات، فتتركه يبكي، وحين تجف دموعه، يرفع راْسه عن ركبتها، ويقول: صعب ان افعل هذا امام العالم بل محال . لقد اثارها بكاء والدها الطفل، وعز عليها الدمع بعدئذ، وربما احترقت الدنيا، فكابرت دموعها، وقبل الحادث الجلل بيوم، هبت بوجهه كا للبوة الجريحة:

- ما عدت افهمك ( قالتها كاْم تؤنّب طفلها) ترى لم منعت عبد من القتل، فجئت به الى هنا ليُقتَل يا ترى لو كنت مضيت في طريقك!

بقي الشيخ هادئا لحظات. الآن جاء دورها. (ام عبد)، وعليك ان تدرك الاْمر جيدا:

- الموت هو هو في اي مكان، وقته معلوم لايتقدم او يتاْخر.

- ما دمت تعرف ذلك . لم خرجت بنا؟

- قلت الف مرة ساْموت ظالما هناك.

- لقد ُقتل عبد ولم يعرف لم تغيرت ومن حقي ان اعرف يااْبي.

فهز راْسه، يتمعن فيها لحظات وهي تعود الى هدوئها:

- اسمعي جيدا ياابنتي مادمت مصرة. ساْقول لك لم تغيرت: لكثرة ما قتلت، ويصعب حصر القتلى . طلبتني اكثر من جهة بثاْر، اصبح النوم محالا بعيني. شهر بكامله واْنا صاح يقظ، حتى وصلت الى احد المضائف ذات ليلة فوجدت شيخا جليلا نائما، وقد وضع جبته وعمامته جنبه، وفجاْة خطرت في بالي فكرة قد يعجز عنها الشّيطان نفسه، سارعت وخلعت ملابسي . وضعتها جنب الشيخ، ولبست ملابسه ثم انتحيت جانبا، ونمت. كان الاْعداء يتبعونني كالكلاب المسعورة واذ وصلوا ظنوا الشيخ انا، فاندفعوا نحوه، يمزقونه بسيوفهم، وخناجرهم، والسكاكين، لقد راْيتهم يقطعونه اربا اربا قبل ان يفتح عينيه او ينبس ببنت شفه، بعضهم لعق دمه. آخرون قضموا لحمه حتى جمجمته حولتها ضربات السيوف الى شظايا كالطحين. كانت لحظات اشبه بالكابوس، وعندما غادرت المكان بملابس الضحية امرت عبد ان يقف. قلت لنفسي:لقد ولدت من جديد فليقف الدم، لاْني ابصرت، واْنا اراقب مصرعي المزعوم، نطفا خيرة في ظهور كثير من اعدائي الذين ظنوني مت خطأ، بذور سوف تحكم العالم ذات يوم، فتنشر الخير، كل ذرة مني اصطكت بسوءال غريب عني:لم امضي في القتل، وساْلت نفسي مرات ومرات: لم اعلن عن نفسي. كان الاْعداء يطلبون رأسي وقد حصل. لم يكن بامكاني ان اطلع عبد على الخبر(وتوقف كأنه قطع اميالا وقرونا... . ونظر اليها نظرة المندهش وقال):

- ها قد عرفت كل شيء!

ما اغرب الواقع لمن يجهله، وهي لما تزل تحت سر الحكاية التي خرجت اليها من قمقم قديم:

- انكشف السر لكن بعد فوات الاْوان.

- كنت في حيرة. كيف ادرك القاتل سري، وتتبع الاْثر حتى كشفت انت الحجاب.

- اكنت تشك في احد؟

- الظنة حرام.

هذه المرة هبت كما لو ان جراْة مجرم خطر تدفقت فيها:

-ايضيع دم عبد هدرا؟

- انا وليّ عبد، وسوف ياْتي جوابي في الوقت المناسب.

لم تدر كيف يتصرف، وأيّ سبيل يسلك، وهو الذي اقسم الا يقتل مهما كان الامر. مادام هو ولي عبد فليتحمل دمه، فلتقبل بالحكم لاْن الامر ليس بيدها، وقد ادركت خلال الاسبوع المنصرم انها اقتربت من ابيها اكثر، وعرفت انها كانت بعيدة عنه، بيد ان الفيضان قطع عليهما الطريق، فبعد سبعة ايام على ليلة المكاشفة بين الصبية وابيها، جثم على الانفاس جو ثقيل. الهواء راكد كبركة ساكنة، ومنذ الصباح ازدادت شدة الوهج، اما البساتين فقد تغير لونها الى حمرة صفراء، ولا حركة في السماء فالعصافير والبلابل والحمام انزوت منكسرة بين الأغصان . وحده الذباب يحوم في الغرف وعلى الأزبال وبين الزرائب . انه سكون شديدالغرابة . اقرب الى الموت. الجمود. حين تقف الاغصان وتصمت الكلاب والعصافير والاوز، لابد ان يحدث أمر ما     وفي ايام الحر، ساعات العصر مباشرة، اذ تخف حدة الحر، اعتاد الشيخ ان يخرج، الى البستان، هناك حيث يصطاد السمك. كان يجلس في المضافة والمصحف لا يغيب عن ناظريه، صوته ياتي عذبا رقيقا رخيما يلفه الخشوع:

والضحى.. والليل اذا سجى.. ما ودعك ربك وما قلى.. وللآخرة خير لك من الأولى.....

ثم صلى ركعتين وعاد يرتل الآية، مثنى وثلاث ورباع. لا محالة لا بد من امر. كان اذا رآى حلما صام عن الكلام الى الظهيرة، وقد تعودت الصبية على ان تسمعه يرتل القرآن كل يوم. فجاْة قطعت عليه تلاوته اصوات استغاثة. نداءات تحرك لها الهواء الساكن، وفزت الطيور من مكامنها . نباح، وصخب. اضطراب. فوضى. كابوس: ياأهل( بيت جوك) . الفيضان . الفيضان قادم. هبوا الى جبل عريزة او اهربوا الى مكان آخر. ستغرق شط العرب كلها . يا اهل (بيت جوك) الفيضان. الفيضان. الناس في سباق مع الزمن، وعليهم ان يرحلوا الى جبل عريزة ليحلوا ضيوفا على اطفالهم الصغار. المحذور وقع، وهذه علامة اخرى تشير الى افول نجم بيت جوك. لم ياْت الخطرمن الغرب حيث نهر شط العرب هذه المرة اقبل غزيرا، هائجا، من جهة ايران. فيضان لا اول له ولا آخر، يقال والحكايات انطلقت من جبل عريزه، ان السد على البرّ انكسر من ثقل الماء، وطغى نهر(الكارون) كالبحر، ويقال ايضا ان ايران سربت الماء عمدا لتتخلص من الفائض لديها الماء: زغاريد وصراخ تكسرالصمت، للنار الصراخ، وللماءصراخ وزغاريد، فاهربوا الىالى مكان آمن... وقطع الشيخ تلاوته، وهرع نحو ابنته ليطمانها، ويهديء من روعها، ثم ليجمعا ما خف حمله وليس معهما غيره، ولمجرد أن اجتاز العتبة حتى توقف لحظة كأنّه جذوة من بقايا السكون الراكد . اغمض عينيه ومال نحو الحائط . وجهه انقلب الى صفرة باردة . الاصوات من كل جانب كزعيق ساحرات في مقبرة:اهربوا !اهربوا!

الجبل. الجبل.، والشيخ يعجز عن ان يتحرك، هيا يا ابي لنلحق. استند إليّ. ما اقرب عريزة وما أبعدها. وقبل ان يمد يده، يتهاوى على الاْرض . تقول راوية القرية:أنّ الصبية، فقدت توازنها، ثم استعادته خلال لحظات. انتبهت الى نفسها فلم يعرف عنها بعدئذ أيّ بكاء لقد لامت نفسها ساعة المحنة وهي ترى الشيخ جثة هامدة أمامها:هل قتلته؟ربما هو السر الذي افاضت به اليه. لعل الشيخ صدق الحكاية التي شاعت بين الاهالي عن قاتل عبد المحروب القادم من مكان بعيد، ليفاجأه بعد ذاك خبر آخر، فيكتشف ان القاتل الحقيقي من اهالي بيت جوك، حسابات جديدة، وهم اكبر من ان يطيقه قلبه المتعب على ان الداهية وان عاتبت نفسها الا انها اقتنعت كونها ادت واجبها وسلمت الامانة الى صاحبها، وهو على قيد الحياة، وإلاّ فأيّ عذاب ضمير تواجهه لو صمتت إلى أن يُدرك أباها الشّيخ الموت. وحين انتبهت الى نفسها، وتماسكت، اطلقت صيحتها التي علت على نداء الطوفان: يا رجال…يا رجال اتفرون وتتركون الجثة بغير دفن؟ الشيخ ! مات ابي مات ! اين تفرون؟كانت في سباق مع الزمن وعيناها تشخصان الى اقرب مكان. في المثلث المعروض للبيع حيث الاْجمة التي ترتفع قليلا عن النهر، وليس هناك من نبات، سوى فضلة للشوك والعاقول، هناك، راقبت الايادي المرتجقة، وهي تهوي بالمعاول على التراب. ليس ثمة وقت للصراخ وحده. القرية كلّها تصرخ وتزغرد . تصرخ وتزغرد. ونداء الطوفان اْكثر حدة من اي صوت . ناهيك عن جنازة شيخ غريب لا أحد يعرف من اين جاء . كانت عينا الصبية تتماسكان وتتحجران مع خفقات التراب . كبرياء ورثته عن ابيها. شموخ. يكفيها ان والدها الشيخ توفي في يوم عظيم يجمع الصراخ والزغاريد ليذوب حزن الصبية في المصيبة الكبرى. فاذا ساْل سائل بعد سنوات أيّ يوم توفي الشيخ؟أجاب الآخرون باتفاق كان ذاك يوم زغردت وصرخت النساء . كانت تترك الشيخ في مرقده وتصعد مع الهاربين الى جبل عريزة. سفينة نوح التي رحل اليها البشر وبعض الاغنام والدجاج، وكان اكثر ما يخشاه النازحون ان تخرج العقارب والاْفاعي من مكامنها في اثناء الليل اذ يعتدل الجو وتسري في التربة رقة الندى. العيون تراقب الماء في الاسفل وعينا الصبية وذهنها يشخصان حيث القبر وخلال الليل تتضاعف الحيرة . الحشرات تهوم حول مصابيح النفط، وشقوق عريزه تقذف بالمجهول. الماء المجنون يتدفق قي سورة غاضبة، كل ما يصيب الانسان والحيوان يمكن ان يكون دفع بلاء . القرية قالت باْجمعها كلمة واحدة الحمد لله اذ تكون الخسائر في غير البشر:افعى لدغت نعجة في ضرعها. صبي هب يصرخ منتصف الليل من عضة جرذ. كل شيء يهون فمن اين نأتي بالطبيب ونهر جاسم تعاني في الاْيام العادية من عسر الطريق، فكيف بها وهي تنقلب الىجزيرة على قبر!

- نحن نستقل سفينة نوح.

- هناك تآخت الحيوانات فلم تلدغ الاْفعى اْيّ مخلوق!

الاْفاعي هنا لا ينفع معها لا نوح ولا نبيّ الله عفرطون.

كان ذلك أوّل تعبير يبقى في الأذهان مدّة غير قصيرة تقول الراوية

قاله فتى يدعى الرواس أو ابن الرواس بدأ نجمه يلمع في المكبس فيما بعد:

- كفى سفاهة وكفرا، ماذا يحل بنا بعد.

حتى مرت ثلاث ليال حاسمة، وعينا الصبية، رغم الحزن، لا تغيبان لحظة عن تلك المشاهد . كانت قبل المعجزة تنساق مع هواجس قاتمة تشدها لكابوس عميق الغور يشخص امامها في الموت والفيضان والرحيل. الغالي قتل فكانت اوّل جريمة تقع . كان المفروض الا يلتقي عبد برقية كي يتحاشى ابن النمر الذي تخلى عن اهله ليقف في صف الحاج عباس، كيف يقدر عقلها ان يحل رموز القدر؟ وبعد عقد او يزيد من اقامتنا باع الانكليز بيت جوك وآذنوا بالرحيل واذ انكمشت القرية على همها اوّل هبوطها من الجبل وامتدت بعدئذ لتمسح آثار الطوفان كانت الحشرات والاْفاعي تدب الى جحورها، وتعود الخنازير البرية الى مكامنها في اجمات البردي واطراف المزارع النائية، التفتت بيت جوك الى نفسها فارتدت ثوبها اليومي . عادت لضحكها وبكائها، وقدرت فضل الولي، فزار الحاج عباس الصبية، ووقف بنفسه في مجلس العزاء، ثم زارها المختار، وتحدث بشأن القبر، كان اول من فتح الموضوع. كان لابد من الاصغاء لما تقوله القرية اذ ظهرت معجزة تالية، فقد سيق الى الضريح صبيّ ملدوغ من عقرب، وبزمن قياسي نسي الاْهالي اسم قريتهم القديم(بيت جوك)، وربما عنوا به قصر المستر دوسن، والمسبح فقط، واطلقوا عليها اسم السيد. اصبح القبر هوية القرية . كان من المفترض ان ينقل القبر الى النجف، فقد اعتادت القرية ان تدفن موتاها اوقات تنقطع بها السبل في قبور مؤقتة إمّا في عريزة او كما فعلوا بالشيخ، لذلك كان المختار يقول:

- لم يعد القبر يخصك ياابنتي وحدك بل امتد أثره الى قرية الدعيجي والسليمانية والبوارين والاْفضل ألا ينقل الى خارج نهر جاسم .

راْت الموت مرتين و سمعت ان الميت لا يعذب في قبره وهو مدفون بالنجف، فهل تخشى على حامي شط العرب من العذاب. كان تشعر بالاْمان مع ابيها حيا وميتا، لكن قلقا ما قديم الجذور كان يساورها حول المكان:

- تعرف ان الاْرض ما زالت معلقة، والانكليز لابد ان يفرزوا البيع عندئذ لايحق لنا ان نبقي القبر مكانه.

- مستر دوسن شخصية محبوبة، وعلاقته بنا كلّنا حسنة فلا اْظنه يتهوّر.

- وماذا عن المشتري الجديد؟

- يا ابنتي لا تتعجلي الاْمور فلكل حادث حديث، لا تخشي على الوليّ من عذاب القبر، فبفضله تراجع الطوفان، وببركته لن تموت نهر جاسم بعد ان يهجرها الانكليز تماما، أمّا ان كان ولا بد فلن يدفن الجثمان في مكان اخر غير نهر جاسم.

ويبدو أنّ ما جرى على لسان الصبية والمختار كان في محله تماما اذ أبت الاْحداث الا ان تطارد الوليّ حيّا وميتا، ويطارد هو الآخرين حيّا وميّتا ايضا، فاعتبر المستر دوسن، وغض النظر عن قضية القبر، ولو الى حين. على أيّة حال كانت هناك مشكلة كبيرة واجهته تختلف تماما عن سابقاتها، مع ذلك حاول ان يجرّب من غير ان يثير ضجه. الوقت ضحى، وهو راكب جواده في طريقه الى القبر. وفي نيته ان ينقل الرفات الى البر، عندها اعترضته الداهية. قالت له بحدة:اخش العليّ القدير . انّ ربّي اقوى منك. لا تكن كابرهة الحبشيّ. فاْجابها برطانته المعهودة والابتسامة لا تفارق شفتيه:

- يا امّ عبد قدري الظروف . القبر على العين والراس لكنه يعرقل صفقة البيع ويعيق ربط الاراضي الثلاث المفروزة

اسمع الانكليزي ثمّ ابدأ من حيث ينتهي حكمة عرفتها القرية الاْليفة وهي ترتدي اسم (بيت جوك) وربما تذكرتها الصبية في هذه اللحظة، فاْعرضت عن المقاطعة، واستمرّ يقول:

- كيف ابيع الاْرض من دون ان ازيل التلّة بكاملها . قدّري الظروف، واني اعدك بنقل رفات الميت الى أيّ مكان ترغبين.

كان يظنّ انّه بهذا العرض يرضي بنت الوليّ ويتحاشى جرح مشاعر الآخرين الذين عرفوه مجاملا لطيفا معهم في أكثر من مناسبة، والواقع انّه عرض الموضوع على المختار والباشا والحاج عباس، فنصحوه بالتريث، ثم رغّبوه في ان يحاول لأن السكان قد يتضايقون نوعا ما من نقل القبر لكنّهم لا يعدّونها جريمة تنزل منزلة انتهاك حرمة الاموات. اخيرا شجّعه صمتها، فتركها ساهمة ومال بمحاذاة ضفة نهر الكودي، يتبعه حفاران من العرب المعدان، ومع خطوات الحصان تحرّك شيء ما خفيّ عن االابصار. بالمرصاد. الحواسّ تعيه كأنّها فيه، فتحفظه كما هو لا تبهت صورته، فهو الذي اراد ان تكون للأرض حكمتها وكلمتها وللأموات صوتهم فعلام يزوروننا في المنام اذن، والصبيّة ترى اباها فيطمئنّ قلبها، واذا ما طاف عليها فانّ خيرا يقع، فما ان خطا الحصان منتصف الجسر، حتّى انقلبت الحال رأسا على عقب، ومن كان حاضرا شهد الحصان يصاب بنوبة جنون . من لحظتها هرع الحفاران الى الصبيّة يحتميان

بها وركعا عند قدميها يطلبان الصفح . كانت صرخات الرعب تنطلق من الحصان . القائمتان الأماميتان ارتفعتا لتخبطا في الهواء شيئا مجهولا. كأ نّه يعوم . عقابٌ سجين يهمّ بالطيران. تنين، تقدح عيناه شررا . ولكلّ ضربة حافر على الجسر دويّ لقدّاس جنائزيّ. العالم مذهول مشلول والحصان وحده يصهل. يحمحم يقرع برجليه ويعوم. وبدا المستر دوسن يواجه دقائق صعبة. اصطكت اسنانه واصفرّ وجهه وعلا الرعب محيّاه، كان مخيرا بين السقوط على حافة الجسر فيتحطم عموده الفقريّ او القفز الى النهر، فطار من على ظهر الحصان الى الماء وهو يهتف، وعيناه تحملقان باتجاه ابنة الوليّ:

- داهية . داهية. والله داهية !

كلّ ذلك حدث في لحظات . غضب الحصان . ثورته. جموحه، وهدوؤه المفاجيء. كان المستر دوسن يتخبّط بالماء ويتشبّث بالاْشنات الطائفة فوق السطح، باذلا جهده، وهو بملابسه الثقيلة وحذائه الطويل، لأن يصل الى الجرف، وبين السخرية والشفقة، صاحت الداهية بالحفارين:

- لاتتركوه يغرق.. انقذوه!

وقد ظلّت الواقعة حديث الناس الى وقت متأخر وتناقلت النبأ القرى القريبة حيث خالط اهلها زهو وفخر، ويبدو انّ المستر دوسن زار الداهية معتذرا لها عمّا حدث ووعدها ان يظلّ الوضع كما هو عليه، امّا الداهية فبقيت على مخاوفها لأنّ قضيّة القبر اثيرت من جديد، يوم اشترى أحد الأغنياء الأراضي الثلاث .

كان (ابن الجلبي) المالك الجديد غريبا عن القرية مترفعا عن اهلها، متعاليا، لا تربطه الا مجاملات واهية مع الباشا. ويظهر انّ الرجل مغرم الى حدّ الهوس بشراء البساتين وربما دفعه غروره الى ان يهمّ با قتناء معظم بساتين البصرة، وذلك ما فعله فيما بعد . بالتأ كيد سمع المالك الجديد بالمعجزة واغتاظ من الحال وفسّر ما حدث من معجزات سابقة سواء حدثت لمستر دوسن او غيره بأ نّها محض مصادفات، وأخبر المختار والحاج عباس، وتجاهل وساطة الباشا، قائلا:

- لو لم يكن القبر على التلّة لاضطررت الى ازالته لأزرع مكانه اربع نخلات تنفع ملكي. !!

كان لا بدّ للشيخ ان يغادر . الرحيل اصبح حقيقة كوضح النهار. كان اهل القرية في حلم من رآه رأي عيان ومن فاتته روْيته في الواقع أبصره في المنام. شاهدوا الداهية تقف عند رأسه . تراقب الحفارين . عيناها صامتتان كما لو انّهما تبحران الى غاية بعيدة مجهولة الأطراف. الوليّ نهض ملفّعا بكفنه . صافح اهل نهر جاسم واحدا واحدا. الأطفال .. النساء.. الشباب.. الكهول.. دخل في كلّ البيوت، وعانق النساء، قبّل الأولاد، ومسح على رؤوسهم، وطبع نظراته على الشمس، فنما زرع كثير، وأثمر بالخيرالشجر، أمّا الأهالي المبهورون فنسوا في لحظة العجب والدهشة ان يسألوا الشيخ الوليّ عن الأمن والسلام، فحدث ان خلّفوا وراءهم حسرة تتمثّل لعيونهم كلّما جدّ جديد من كوامن الزمن وخبايا الأيّام . ايّ واحد منهم سواء رجلا كان ام امراة يهتف اذ يلتقي الداهية‏: آه لو سألت الشيخ الوليّ وهو يزورني عن جليّة الامر، ظلّوا مشغولين بالزرع والخصب، في الوقت الذي كان يغادرهم نحو قبره الثاني، ثمّ يتوقّف لحظات كأنه يتذكّر شيئا ما فيغير طريقه الى بستان(ابن الجلبيّ)، فجأة انقلبت كلّ الاحوال على أعقابها، تحوّلت نهر جاسم الى كتلة جامدة، ولعلّه الكون معها . الطيور في الهواء وبين الاغصان والدواب والناس. الريح . الحشرات. الاصوات. جمدت لحظات او دهورا. لا نأمة ولا صوت. الشيخ الوليّ وحده يخطو الى حيث(ابن الجلبي) الذي يقف على بعد خطوات من التلّة يراقب المزارعين، والعمال وهم يغيرون ملامح الوجه القديم للارض . خلال لحظات تهدّج صوته، وتغيرت ملامح وجهه . همّ ان يحرّك يده ليفتح أزرار قميصه فاعترى انامله شلل . اصفرّ وجهه، وهرب كلّ منظر من أمام ناظريه. النور. الهواء. الصور، حتى التلّة والعمال، عندئذ ارتخت قبضتا الشيخ عن عنقه، فسقط جثّة لا حراك فيها. حينذاك استفاقت القرية من نوم طال لحظات او دهورا، والصرخة تنطلق داخل البستان بعد سبعة أيام من رحيل الشيخ الوليّ وانتقال الملك الى صاحبه الجديد:

- ابن الجلبي مات. مات..

- غريب..

- البقاء لله وحده..

- كلّ من عليها فان.

لو لم يتحرّش بالقبر.

- لكن بالأمس كان يتمتّع بصحة جيدة، ووجهه يقطر دما. من يصدق أنّ رجلا معافى مثله يموت فجأة.

وتناقلت البيوتات الخبر. ابن الجلبي الذي يملك نصف البصرة، ويسعى الى شراء النصف الآخر مات في اليوم السابع من طرده للولي الشيخ. معجزة اخرى، لم يشك من علّة، كان ياْكل ثورا بكامله، ويقال انه لم يزر الطبيب قطّ. كانت الداهية تقف عند قبر أبيها الجديد، وقد تهادى الى سمعها صراخ ما من جهة البستان، وعندما وصل اليها نعي (ابن الجلبي) حدّثت نفسها كأ نّها تخاطب أباها وهو حيّ:

- انت وليّ امرك، فمتى يحين الوقت.

فهزّ رأسه دون أن يتفوّه بأيّة كلمة .. ودلف في قبره الثاني... امّا الصراخ، فقد هدأ من الجهة الأخرى حيث القبر الأوّل.

 

د. قصي الشيخ عسكر

.................

حلقة من رواية: نهر جاسم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم