صحيفة المثقف

شط العرب.. محنة دائمة

محمد حسين النجمبعد اشتعال الحرب العراقية الايرانية عام 1980 تم غلق مجرى شط العرب بسبب الغوارق الناتجة من القتال، وهي بعض السفن التي صادف مرورها عند نشوب القتال بالإضافة الى احتجاز عدد كبير منها في ميناء المعقل .

شط العرب كان حيويا للعراق اكثر من ايران بحكم الساحل الخليجي التي تمتلكه الاخيرة والموانئ المنتشرة عليه . احد الروافد المهمة التي تصب في شط العرب كان نهر الكارون، وهو من اعذب المياه الوافدة، وبعد اغلاق الشط غيرت ايران مجراه .

ان المناطق الواقعة على ضفتي شط العرب تتشابه كونها تتشكل من (احواز)، والتي تعني ان كلاهما يخترقه عدد كبير من الانهار التي تسقي المناطق الزراعية، وكل منطقة بين نهرين تسمى (حوزا) . هذا يعني ان تغيير مجرى الكارون سوف يغير من طبيعة مياه شط العرب بطغيان مياه البحر المالحة مما يسبب ضررا زراعيا للجانبين .

كانت مقتضيات الحرب تستوجب، وفقا للعبقري العراقي، ردم جميع الانهار، ربما بدعوى الخوف من تسلل العدو من خلال ضفادعه، وهو ما انتهى الى كارثة زراعية امتدت من راس البيشة، اقصى جنوب الفاو،حتى ابي الخصيب، حيث تم قتل مئات الالاف من اشجار النخيل ان لم نقل الملايين على الجانب العراقي .

عند انتهاء الحرب وعودة البعض من الاهالي الى الفاو، كانت البساتين التي تركوها عامرة قد صارت قاعا صفصفا . نعم ان الفاو شهدت اثناء القتال احتلالا من قبل القوات الايرانية وتحريرا لها من قبل القوات العراقية، الا ان بساتين النخيل كانت قبل ذلك قد انتهت تماما . الغريب بالأمر، وبحكم قرب الضفتين وقدرة المشاهدة المجردة، كانت الجهة الايرانية مزدهرة، وبساتينها تبدو عامرة .

لماذا ؟

بعد انتهاء الحرب جرت عملية اعمار لمركز القضاء بمشاركة دول عربية تأكيدا على كون الحرب كانت دفاعا عن (الجبهة الشرقية) لـ (لامة العربية)، حيث تم رسم خارطة جديدة للمدينة مختلفة عما كانت، الا ان هذا الاعمار وما تلاه لم يشمل فتح الانهار وتنظيفها، واعادة الحياة الزراعية اليها، باستثناء، ربما، مساحة معينة في الجنوب تم زراعتها بأشجار الحناء، وهي لصالح نائب الرئيس آنئذ عزة الدوري، كما اخبرني حينها احد المسؤولين عن المزرعة .

على الرغم من حرمان شط العرب من رافد مهم وهو الكارون، الا ان ما يبدو ان ذلك لم يسبب امتدادا للسان الملحي الذي تفاقم بالآونة الاخيرة، بدليل انه لم يسبب ضررا بأشجار الجانب الايراني، هذا من جهة، ومن جهة اخرى نلاحظ ان النظام العراقي آنئذ، كان يسعى لإحداث تغيير طوبوغرافي للمدينة التي كان يسكنها (ايرانيون) على حد زعمه . فالجنوب العراقي، في راي راس النظام واركانه ليسوا سوى فرس وهنود، وهو ما كشفت عنه مقالات سكرتيره عبد الجبار محسن التي نشرها في الصحف اثناء انتفاضة 1991، وعليه فان بقاء الانهار مغلقة سوف يجعل اصحاب الاراضي يفضلون عدم العودة اليها، اذا ما عرفنا بانهم في الغالب مزارعين، بالإضافة الى عملية تمليك واسعة لمرتبطين بالنظام وامنه ومخابراته من المحافظات الاخرى، وتحديدا محافظات شمال بغداد .

ان جزءا من مشكلة اللسان الملحي يعود، ولابد، الى حرمان شط العرب من مياه نهر الكارون، وهو امر لاشك فيه، الا ان الجزء الاكبر منه يتحمله النظام القائم آنئذ، الذي كان يمتلك الامكانية على تغيير مجرى شط العرب القادم من الشمال وبناء سد لمنع صعود مياه البحر، اذا ما عرفنا ان جزءا مهما من هذا الشط يمر بأراضي عراقية قبل ان يفصل بين البلدين، وكان بإمكانه حماية الاراضي الزراعية الخصبة من طغيان (الاسباخ) عليها، الا ان النظام لم يفعل لغاية في نفسه . فالذي شق المصب العام (نهر صدام كما كان يسميه) الممتد من الصقلاوية شمال بغداد الى خور عبد الله في اقصى الجنوب،ليس لشيء الا لان مصلحته اقتضت تجفيف الاهوار ودفع مياهها باتجاه البحر، كان قادرا على حماية اراضي بلده من التصحر .

ان ما يزيد غرابتنا ان النظام السابق، وبعد فرض العقوبات عليه من قبل الامم المتحدة في تسعينات القرن الماضي، لم يحاول ان يفعل شيئا فيما يخص حل مشكلة شط العرب، رغم الحاجة الملحة اليه زراعيا ورغم ما هدره من اموال في تشييد القصور، بل الانكى من ذلك هو دعمه الكبير لاستزراع اراضي صحراوية من خلال حفر الابار في الصحراء المحيطة بالزبير .

ان الحس الطائفي لا يصعب تبينه من هذه الممارسة كون النظام كان يعتبر هذا القضاء مختلفا طائفيا عن جيرانه في الاقضية الاخرى .

ان الدعوات الحالية لمقاومة اللسان الملحي الذي واصل امتداده الى مركز محافظة البصرة من خلال بناء سد، له ارجحيته، ولكنه يغفل حقيقة ان بنائه عند منطقة (ابو فلوس)، وهو احد المقترحات، بحكم كونها منطقة عراقية قبل دخول الشط الى منطقة الفصل بين الدولتين مما يجعله مرتبطا بقرار عراقي، يعني ابقاء، بل والمساعدة على تصحر اراضي واسعة جنوبه تقرب الى مسافة سبعين كيلومترا، وما يترتب عليه من هجرة من عاد اليها، وهو ما يستوجب النظر بتحويل مياه الشط العذبة القادمة من الشمال من خلال حفر بحيرة وقناة يتم تحويل بقايا الانهار المندرسة السابقة باتجاهها لاستصلاح واعادة الحياة الى تلك الاراضي، بالإضافة الى بناء مصد كونكريتي على المجرى القديم للشط يمنع تسرب مياه البحر الى تلك الاراضي، وهي في الغالب منخفضة الا في بعض المواسم، بالإضافة الى استغلاله كمنتجعات ومناطق سياحة .

ان مثل هذا المقترح ربما يكون اكثر فائدة للبلد من بناء السد في مدخل شط العرب وهو المقترح الاخر، كون ذلك يتطلب توافقا بين الدولتين المتشاطئتين، على الرغم من ان المقترح الاخير، اذا ما تم التوافق عليه، له فوائده التي تعفي البلد من الكثير من التكاليف كونه يكون بالتشارك، الا ان ادارته المشتركة ربما تعيدنا الى المشاكل القديمة التي تمت معالجتها من خلال المجرى العميق (التايلوك)، مثلما تصبح احد مفردات اي نزاع مستقبلي بين البلدين .

 

د. محمد حسين النجم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم