صحيفة المثقف

الداهية مرة أخرى

قصي الشيخ عسكرغادرت الداهية مقام ابيها لتلتقي الحاجة رقيّة. كانت ذاكرتها تحتفظ بالصورة التي رسمها عبد لها، على الرغم من اثر السنين، لاتدري لم اختار لها اسما الملكة عالية غير أنها ظنت الشيب لا يدب الى الملكات، عندها لم تجد عبد بل وقع بصرها على العاشقة المذعورة. الخبرفاجأها حقا. ظنت انّ الأجمة والطيور والسواقي والنخيل والشجر وحدها تعرف قصّة حبّهما. وفي الأيام الأخيرة خشيت من هواجسها حول شخص ما آخر غير الداهية، فمن المحال ان يخطر ببالها انّ الصبيّة ستتبع أخاها، فتطلع على السر، لتحضر في غفلة من الحظ فتشهد قطرات الدم، فقاطعت لتزيل اي التباس:

- خوفي عليه هو الذي اوحى الي. كنت احسست تغيره فدفعتني هواجسي. الفته منشرح الصدر رغم المأ ساة، اما ان يتغير هكذا فجأة، فأمر لم اكن لأصدقه.

- صدق من قال انك داهيه.

- ألم يحدثك عنا ؟

- ابدا (ثمّ وهي تلف الملعقة بقدح الشاي كما لو كانت تستعين بها على الماضي الذي هاجر فجأ ة، فتعلقت به كلّ تلك المدّة، وعاد اليها هكذا من دون مقدمات). قالت:

- كنت تسمعيننا يا غالية!!

أجابت الداهية بحسرة شدّ ما أخفتها خشية على الضيفة:

- ربّما فاتتني اللقآ ت الأولى.

ايّ جرح تنكؤه الآن الغالية، ولم جاءت في هذا الوقت بالذات، ماذا يدور بفكرها، والحاجة رقية ترى الزمن يفرّ من قلبها فيستقرّ على راحة يدها لتقرأه بعد كلّ تلك السنين. مع غير رقية لا تهتم الداهية بالتفاصيل، وها هي السنوات تتلاشى وفى صدر كلّ منهما حكاية ليست بذات نهاية. قبل اليوم التقتا لقاءات عابرة لا خوفا بل حذرا حتى استلت الداهية السنوات الطويلة المستكينة في غبا ر القلب لتفاجأها بالخبر الجديد، فما كان منها الاان تعقّب:. - لم أفهمك لحد الان؟

- ستفهمينني بعد ان تنتهي من حكايتك.

نظرت اليها نظرة طويلة:

- ألن يكفي ما قلته؟

- حدّثينى عن كلّ شئ

بعد تأ مّل بعيد:

- وما نفع الخصوصيات؟

وأعرضت لحظة عن الكلام، فبادرت الداهية:

- حتى الخصوصيّات تنفعني.

لكن ماذا تقول والحبّ يأ تي فجأ ة؟ عنيفا كفيضان عا رم اجتاح نهر جاسم ذات يوم، بل اقدم من كل التواريخ. تلك الأيام تجرّأت وطاوعت قلبها، وحين يأتي الحب تتغيّر الاشياء… فجأة يصبح للحياة طعم آخ. يذوب الخوب، والوحشة تزول، وتبقى المظاهرالحلوة فقط. للماء وهو يلامس شفتيها حلاوة تغزو القلب. مشت، وليس الطريق كما هو كل يوم، عينا ها تبصران ارضا جديدة وسماء ناصعة الزرقة. دنيا لا تعرف الالم والحزن كل ما في الارض يرقص ويغني. النجوم كل ليلة يأتين اليها يلعبن معها حتى يشرق الفجر ثمّ يصعدن الى السماء، فأيّ جرح جئت تنكئينه يا داهية اليوم، ومن قبل سمعت عنك رقية وانتم عائلة ناقصة: رجلان وطفلة، فليس من المناسب ان يزار بيتكم من قبل النساء، ثم عرفت عن طريق والدها أنّ عبد يقرأ ويكتب، وببال الحاج فكرة أن يعينه كاتبا عنده لئلا تشعر العائلة الجديدة بالغربة. الخطوة تدفعهم ان ينضووا تحت جناح العشيرة، وربّما دفع رقية الفضول فذهبت الى المكبس. هناك ابصرته بين العمال. وللحب لحظة سابقة على اْيّ زمان كان. ما زالت تعيش تلك اللحظة. خدر لذيذ. تيّار دافيء يفوح في الجسد وقت الشتاء القارص. ، وفي اللحظة الاؤلى كل السحر والفتنة. كان يقطع الممر الفاصل بين العمّال والعاملات، يملي عليهم اْوامر الحاج. في صوته حدّة وليونة، وقبل ان تسحرها عيناه، وقامته جذبتها قسوته الحلوة. شيء لم تجده في شباب القريّة. الى الان لا تدري ما هو. شيء سهل يلوح على الالسن غير اننا لا ندركه. كانت قد سمعت عن بعض مغامراته فاْعجبت بها. بعضهم قال انّ العائلة هربت من الاهواز بعد هزيمة الشيخ خزعل وتخفت خوفا من قسوة الشّاه الى ان يسّر االله لهم الوصول الى بيت جوك، والشك يحوم حول عبد الذى كلف باغتيال ضابط ايراني كبير، ومنهم من رآى، خاصة بعدالحدث التالي الذي شد رقيّة واذهلها، انّ العائلة بالاساس تركت بادية الشام لنزاع بينها وسلطة الفرنسيين، فاندمجوا مع الناس في بيت جوك وتخلّوا عن مذهبهم الأصلي. لذلك غير سلوك عبد الأخير الحكايات الاؤلىالتي ارتأت هربهم من نزاع عشائري. ذات يوم حضر جابي الضرائب ومعه شرطيّان، الحاج عبّاس يدرك تماما انه كلما حلّ في الناحية مدير جديد اظهر القسوة في ايّامه الاؤلى ولا بدّ من مرور وقت تلين فيه عريكته، فكيف يتطاول جابي الضرائب على الحاج، ساعتها طار عبد كالصقر، مثلما قالت العاملات، وجذب الرجل من تلابيبه، ثمّ لطشه باّحد الشرطيين، وهتف، وهو يمسك يد الشرطيّ الاخر، مانعا ايّاه من ان يسحب سلاحه:

- لم اضربك او اعتدي على جلال الدولة لكن وراْس الملك سأقتلك اذا تطاولت على الحاج.

وسرعان ما صارت الواقعة حديث القرية، واخضرّت وورّقت، وأزهرت، حكايات أخرى، ولاح النّشوة على وجه الحاج الذي سارع ولفلف القضية، فانقلبت العداوة، بينه، وكبير الناحية، بعد حين، الى صداقة حميمة. ولعلّ الطفلة تذكّرت الحادث، وسمعت الاب يحذّر ابنه :

- لا تعد الى القتل. لا يدفعك الغضب اليه لا بوجه حقّ ولا بوجه با طل.

اما رقية نفسها فقد رأت أباها الحاج يقبل عبد بين عينيه، ويذكرللحاضرين أنّه يعدّه واحدا من ابنائه، وبغض النظر عما جرى، فا نّها تعلّقت به يوما بعد يوم، ولأجلها هي انهمك في العمل بأ قصى جهد حتى اصبح يمين الحاج وساعده، يراقب العمّال.. يضبط المواعيد.. يدقّق السجلات.. يصرف الاجور والمكافآت. يوما عن يوم مهام عبد تكبر، وكانت رقية تراقبه وتزداد به هياما والحبّ على سعته يضيق بالعاشقين، فما أصعب أن يلتقي عاشقان في قرية صغيرة مثل(بيت جوك)، بل ما أصعب لغة العيون. كان الوقت ظهرا، وقد فرّت الىالحقل الواسع، شأ نها كلما أرادت أن تسرّي عن نفسها. اعتادت ان تذهب الى الطرف الآخر جنوب نهر(الكودي)، تراقب النعاج وهي تلتهم الحشائش. امتد بصرها باتجاه الساقية الى قنطرة (الحورية). في هذا المكان بالضبط خلعت أوّ ل سنّ لها وتحدّثت مع الشمس. لم تعدإلا صبيّة عمرها خمس سنوات تركض بين الغنم، تلعب، وتضاحك الصبايا، تمدّ يدها الى لثتها، وتلمس سنّها، فاذا به يسقط في فمها : ثرسي ثرسي. الصبايا يأ خذن بيدها، وهن يضحكن مقلدات كلامها: ثرسي ! درداء! ايتها الدرداء، كم عمرك ياعجوز الخير…تعالي قفي فوق القنطرة، وارمي سنّ اللبن الى الشمس..... كالوزة تهادت، وهي تغنّي بلكنتها الجديدة، وعيناها تقبلان الشمس:

يا شمس يا شمّوسه يا حلوه يا عروسه

هاك سن الحمار واعطيني سنّ الغزال

سنها طار في الهواء، ثمّ سقط في الماء أسفل القنطرة، وصدقت الشمس وعدها، فجاءت أسنانها كاللؤلؤ صافية، ناعمة كالحالوب، وللسنين دورتها التي لانحس بها حتى نستفيق في يوم ما على حدس جديد يأخذنا الى حلم آخر كأ ن يكون شيئا ما لايخطر على البال قط، واذا بها تنتبه الى نعجة تجمح نحو بستان دوسن، همّت ان ترفع صوتها لتنبه الراعية التي استظلت تحت شجرة سدر، ثمّ استثنت. يمكن ان يكون قلبها ردعها، ليس غيره يأمرها الا ترفع صوتها، فتطيع. بعد تردد قفزت الى الساقية راكضة خلف النعجة.. هكذا استعانت بقلبها، وكأ ن كل شيء يسير لموعد سابق من الطفولة يوم خلعت ضرسها، وتكلمت مع الشمس الى حيث فرّت النعجة، هناك عند قنطرة الحورية قابلته عائدا من(المكبس)، وفي حمى اللقاء الأول تموت الكلمات على الشفاه. احمر وجهه وارتعشت شفتاه. الفارس ذو القلب الحجر يذوب رقة وحياء، آلف من الحمل. كادت لولا الحياء تشهق وهي تقابله وجها لوجه. مرّت لحظات حملت اليهما نسمة من نسائم الجنة في عزّ القيظ، فانتبها الى ما حولهما، طلب منها بصوت مرتعش ان تقف عند القنطرة لتسد الطريق، ثمّ ركض خلف النعجة الى ان أدركها، ومع اوّ ل لقاء لها بـ(عبد) رأت نفسها وريثة الحوريّة، فربّما هي حفيدة تلك التي اكتشفها أحد الملالي ذات ليلة ولمجرّ د ان انبلج الصباح حتى تراقصت الحكاية على الشفاه وحملتها، من بين أوراق الشجر وغناء الطيور، الرياح الى البيوت والآذان. كان الملا عائدا في احدى ليالي رمضان من مجلس امتد الى منتصف الليل، وقد اهتدى على ضوء النجوم المتراقص فوق السعفات، واذا به يفاجأعند القنطرة بالمشهد. ارتعب. كاد قلبه يهبط الى رجليه. ليس معه ايّ سلاح. قاطع طريق او هو (الطنطل) الذي يضع عصا في دبر أيّ عابر سبيل ثمّ يركب ظهره ويحرث عليه الى بزوغ الفجر. هذه المرّ ة جاء الصوت عذبا رقيقا رخيما بلغة لا يفهمها البشر، والملا ينظر، ولا يشعر بالوقت الذي سرقه الى ان شحبت العتمة، رويدا رويدا اطمأنّ قلب الملا.. وزال عنه الخوف، هو في الجنّة. المكان مفتوح أمامه. الحوريّة تمتطي القنطرة كالفارس. شعرها ينسدل الى اسفل ركبتيها. وجه نورانيّ رائحة ياسمين، عنبر يذوب. والحورية تضرب بيديها وتدفع راحتيها نحو الملا:

يا ملا ياعلوان قنطرتي من ريحان

تاخذها من عندي تعطيها للحلوة

قنطرة الملا او الحوريّة لا يهمّ، بل المهم انّ رقيّة التقت عبد عبد، هناك على انفراد، فعرفت أنّها ورثت القنطرة بعد تلك السّنوات من الحورية. لحظات دام اللقاء، مع ذلك كان الحلم الجميل يضمّ جنحيه على قلق، وهواجس أقرب الى المحال، لأنّ مهام عبد الكبيرة واعجاب الحاج به لا يغطيان نسبه المجهول. القرية ترى الثلاثة غرباء عنها، آوتهم في ظرف غامض، وكم من مرّة ترددت، وهي تسأله:

- من انت حدثني عن نفسك،

فبدا كما لو انّ صدره يضيق وخيّل الى الأب الشيخ انّه يتمرّد، فالسؤال بحد ذاته كان مفاجئا:

- لماذا لاتفكّر بالزيارة ؟مجرّد زيارة!

فتساءل الشيخ بحزم:

- هل جدّ شيْ ما؟

- قلت زيارة لعلّ الأمر يتمّ على خير.

- بيتنا هنا. وطننا هنا. مأوانا هنا الم تشتر بيتا؟

- لا يكفي. الناس يسألون من نحن؟

- يكفي انّك تعرف من انت.

- حتّى الغجر لا يأنفون من ذكر اصولهم.

- لكنّ للضرورة احكامها.

في عيني عبد شيء ما، التردد، الخجل.. الخوف.. من الشيخ.. وقبل ان يفلت الزمام من الشيخ لجأ الى لغة التحذير:

- اسمع يا عبد. بكفيك ان تفهم لغة الاشارة. انا ميت. معكم ولست معكم، فالأعداء قتلوني ولم يقتلوني.

على ايّة حال عبد يتغير يوما عن يوم، يزداد شرودا، وتنقلب حدّته الحلوة المعهودة الى ضيق صدر. في السابق لم يكن ليجادل الأب الشيخ، فبعد الاستقرار في بيت جوك، انصرف الشيخ الى تأملاته وصمته. اعرض عن الكثير، ونطق كلمات تنبع حكمة صافية ومعرفة، والمفروض ان يميل عبد الى الاستقرار بعد كلّ ما حدث، وللمرّة الاؤلى تعترف رقية لأحد انّها كادت تطاوع عبد، فأدركت الداهية ايّة كارثة ستحدث في بيت جوك فيما لو طال العمر بالابن. غاية ما انصرف ذهنها اليه انّ اخاها يزوغ الى مكان خرجوا منه ان حالفه الحظ واهتدى اليه فيخلط الاوراق من جديد، وما كانت الصورة لتكتمل في ذهنها لولا اعتراف الشيخ قبل ان يموت، والسرّ الذي باحت به لها الحاجة رقيّة. لقد انتهت حياة الاب العنيفة يوم ظنّ الناس انّهم قتلوه، ووقفوا في العتمة يلتمسون بركاته، وهو مرتد ملابس الضحيّة، فبفضل الوليّ الشيخ اهتدوا الى مجرم عنيد ومزّقوه اربا اربا،، عندئذ أدرك الاب الشيخ انّ في ظهور هؤلاء الأعداء بذرات خيرة، حتى خشي ان يطلع الفجر، فيبين لهم وجهه، والداهية، مهما شحذت ذهنها، فهي تظل لا تعي كثيرا من الاحداث، حقائق غائبة عنها، ودت ان تسأل أباها فيها، خاصة بعد ان لاذ بالتأ ملّ، لكن الوفاة داهمته فجأ ة، فضاع كلّ شيء. وإذ كشفت النقاب عن عالم الحاجة، فكأنّها استعادت ذاكرتها هي. كان لا بدّ ان تبسط عينيها الى عالم بعيد، يسري في الطفولة الى ما قبل الحلول بأرض بيت جوك. ذكريات اجبرت عليها نفسها، وهي تنصت الى الحاجة رقيّة. كانت طفلة عمرها ثلاث سنوات فقط. فتحت عينيها على زمن الرحيل، والعنف، وكا ن فارق العمر كبيرا بينها وبين أخيها عبد. تكاد تكون ابنته، فمن هي امّها، ومن هي امّه. ربّما ينتميان الى أمّ واحدة، ولعلهما من أُمّين سباهما الشيخ نفسه، أو.. بالتبنّي، لم يحدّثها عن امّها رغم التصاقها الشديد به، ولم تسمع من عبد حديثا يخص الموضوع، لو امتد العمر بهما لأثارت الحديث، كان الشيخ لهما امّا وأبا. كانت تجاهد شوقها في ان تعرف كلّ التفاصيل واذا بها تودّ لو اصابها صمم. اخوها عبد يريد ان يحدث أمرا ذا بال في(بيت جوك) كما لو انّ الاستقرار والهدوء يكبلانه بقيد ثقيل لا يقدر عليه، فلا الارض، ولاالبستان الذي ملكه يضفيان عليه هالة من الاستقرار مثلما صبغت الملابس الجديدة ولو على مضض الاب الشيخ بمسحة من الهدوء، وكما تسقط صخرة في بئر ذي ماء راكد طالعها بقوله:

- ليس هناك من حل سوى الرحيل !!!

- ماذا ؟

- قلت نرحل الم تسمعي؟

- لاأصدّق.

- إنّه الحل الوحيد.

- هل أعيتك السبل؟

- حتى لو كنت اعرف من اين جئنا لما فعلت لانني اعطيت أبي الشيخ وعدا.

ترددت في البداية، وقلبت افكارها. سرحت مع هواجسها بعيدا. اية حياة ستعيشها في احضان رجل غير عبد. تعرف سلفا لمن تكون. النمر. .. ثمّ لانت أخيرا. كانت تدرك جيدا ايّ صنف من الرجال هو خطيبها. ليس بالغريب عنها، فبغض النظر عن موقفه من أهله، فهناك رابطة الدم التي تجمعه من جهة الأمّ بالحاج ألأمر الذي جعل أعما مه يلمزونه في أثناء الوقائع القديمة بالمثل الشائع: ثلثا الولد على الخال، وقبل الكلام في الخطبة وشيوع أمرها، اعتاد الحاج عباس ان يستقبل النمر في بيت جوك التي ما فتئت تحلم بمناطحة مناطق البصرة الاْ خرى خاصة بعد حصوله على لقب(باشا). كان يبدو واسع الصدر لايستأ ثر برأيه. بارد. هاديء، والبرود والهدؤحققا له من المكاسب خلال مدّ ة قصيرة ما لم يتحقّق لغيره. كانت رجلاه في البصرة وعقله في بغداد، وحين سأ له الحاج خلال جلسة عائلية ذات مساء عن عدم رغبته في الترشيح للوزارة او البرلمان، أجابه أنّ الابواب مشرعة الآن للوجوه التقليديّة. آل الجلبي. باش أعيان. آل خضيري... انّهم أسنّ من النمر، فليتقدموا، وحين تُستهلك وجوههم، يجدهم نزلوا له مرغمين، معنى ذلك انّ المدّة تطول وسوف يبقى أطول فترة ممكنة، وعندما سأ له الحاج متى يتوقّع ذلك ردّ بثقة : في نهاية الخمسينيّا ت!. كان صبورا كالجمل يجاري أصدقاءه، وأعداءه، كلّ شيء لابدّ ان يأ تي في حينه، والمعروف عنه أنّه يحسب ألف حساب للعادات والأعراف. رفض ان يخلع الجلابية ويبدلها بالبنطلون، وتواضع للصغير والكبير الى جانب ذلك اختلف نمط تفكيره عن أثرياء شطّ العرب من ملاكي البساتين. لم يكتف بالأرض، فاشترى سفينة(دوبة) تنقل البلح الى البحرين، وتعود با لسمن، وعلى الرغم من وضوح النمر، وتواضعه الا ان هنا ك أمرا جهلت سببه قرية بيت جوك وهو زياراته السنويّة كلّ عام للندن حيث يظل شهرا او يزيد، فمن يرى أنّه يذهب لمتابعة علاج لمرض مزمن، ومن يذهب إلى أنّه ينفس ويروّ ح عن نفسه فترة الزيارة حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت، وتميل طائفة أخرى الى انّه يحضر سنويّا دورة تأ هيليّة تعدّه لمنصب مرموق في المستقبل. المهمّ أنّ(النمر) كان يمثل طموح شطّ العرب كلّها في الاطلال على بغداد من شرفة نهر جاسم، ولم يقتصر هذا الطموح على مؤيديه بل يشترك فيه حتّى الاعداء الذين يبحثون عن معا يبه، ومثا لبه، وكان الحاج بمنا سبة أو غيرها يتلو على مسامع ابنته تلك الفضائل، مع اعتقادها الراسخ في انّها لاتجرؤعلى أن تقول(لا) أو تعترض، وما كانت لتريد ان تقول لا.. ابدا، فهي لاتكرهه، ولا تحبّه، وتحمد الله على انّه قريب العائله، يزورهم، فتراه، من دون حجاب، وإلا كان شأنها في الزواج شأ ن أية فتاة من بنات بيت جوك لا تعرف من هو عريسها إلا ليلة الزفاف، هي ارادة الله شاءت أن يظهرعبد في حياتها لتستيقظ كوامن كثيرة في أعماقها، فتحسّ أنّها تعترض، وتستطيع أن تقول لا أو نعم باختيارها حتى لو همست باعتراضها مع نفسها، وقد آن الأوان لتقول لعبد نعم آن الأوان. الرحيل، وليكن مايكون…

ذلك، وهي تهمس الكلمة باذن عبد، ثمّ تفلت من بين ذراعيه، وتعود عبر القنطرة، غفلت عن عينين تطلانّ عليهما، هما غير عيني الداهية، كان شبح النمر يحث الخطا بين النخيل، فيسبقها بمسافة غير قصيرةالى الطريق المحاذي لضفة نهر الكودي. ترددت تحبس أنفاسها عند الساقية، وتساءلت "هل كان هنا"؟هل سمع أو رآى؟ منذ متى وهو يقتفي الأثر؟، وحاولت ان تقتنع: ربما كان مروره عابرا. الآن البصر وقع عليه وهو يمشي أو يتخفّى بين النخيل، وما الصوت الذي قطع عليهما حلمهما وهي مع فارسها إلاّ حجلة أو طير ما انحشر داخل الأجمة، فذعرت له.

هكذا خيّل اليها وان بقي في نفسها شيء ما تثيره الوساوس. وحين هبط المساء، وعاد الحاج عباس الى البيت، قرأت العاشقة قلقا ما تخفيه سحنته الحائرة. بدا مضطربا يهمّ بالكلام، ويعرض عنه، أو يماري ان يكظم غيضه، وقال وهو يتصنّع البرود:

- غدا صباحا نستعدّ للذهاب الى العشار. سأشتري لكم ملابس ولوازم. صحيح انّ المكبس هذه الأيام بحاجة اليّ لكنّ البركة في عبد فهو بمنزلة ابني، وقد أمنته على مالي وعرضي، وهو كفء لذلك، كما أثبتت الأيّام.

تلك الليلة لا تنسى اذ جاء عبد متسللا الى البيت. الكلاب لزمت الهدوء لأنها الفت رائحة الشبح الغريب، وبعض أهل بيت جوك يطلقون على النمر لقب"كلب الإنكليز". كيف هداه أنفه الى الأجمة ؟الآن خلا الجوّ، فلا حاسد ولا عذول، هيّا.. هيّا.. الوقت يحاصرنا، أنا معك، فوضعت يدها بيده وسارا باتجاه البستان. كانت الداهية بانتظارهما. قصد الثلاثة الاب الشيخ، وامامه صرخ عبد:

أمرتني من قبل وآمرك الآن. قلت الق سلاحك واتبعني. اتبعني. اتبعني

فلم يتحرّك الشيخ قيد أنملة او ينطق ببنت شفة. كان ينظر بعينين جاحظتين، حائرتين، وسقط على وجهه من دون حراك

قبل ان يلمسه أحد. الأب مات. الشيخ.... ومن هول المفاجأ ة ضرب عبد جبهته بيده، وصرخ: أفي مثل هذا الوقت؟ ايعقل ذلك؟

وفي لحظات انقلب الحلم الى طعم مرّ: فرّت الغزالة بعيدا عن يدي عبد. النجوم عند قنطرة الحورية انقلبن الى ساحرات متلفعات بالسّواد، يلدن نجوما سوداء، وحمراء، بالوقت نفسه، يلدن، فيفرشن على القنطرة، مواليدهنّ، ويذبحنهنّ، بمخالب كالمدي، في حين راحت الجثث تغني بالرؤس المقطوعة:

آني طير أخضر امشي واتمختر

امّي كتفتني ابوي ذبحني

اختي العزيزة لمّت عظامي

وعلى انغام الرؤس بكين، وصرخن، وندبن. رحن يضربن بالدفوف. كانت بين أيدي الساحرات، وشرطهن الوحيد على النمر إمّا أن يقتلن سبيّة الحرب أو لن يتزوّجها إلاّ أن تكون عاقرا. ووافق. وافق من دون تردد، وها هي تخشى أن تنزل عليها أيّة ضّرة، لكن حلمها البغيض انقشع حيث أطلّ الفجر...

فنهضت مرعوبة،

وانسلّت بصمت...

وكا نت تستقلّ مع العائلة زورقا الى العشّار.

وفي اليوم نفسه بعد منتصف النهار، ورقيّة بعيدة عن"‏بيت جوك"، دوّت طلقة عند أجمة البردي... وفرّ شبح ملثّم هاربا كالذئب، فلم تتبيّنه عينا الصبيّة التي فرّت كقطة مرعوبة، ثمّ شاع في القرية أنّ غريبا أو غرباء تتبّعوا عبد فاغتالوه في"بيت جوك"

أوّل جريمة في هذه القرية الصغيرة التي فتحت عينيها على الهدوء والأما ن....

فصدق الناس كلّهم الحكاية، وكان الحاج عبّاس وعائلته اخر من يسمعون بالخبر... ما عدا رقيّة إذ وخزها قلبها أنّ أمرا ما سيقع في هذا اليوم، ولتستفيق من حلمها بعد سنوات طويلة مأهولة بالحيرة على خبر تزفّه لها شقيقة الغالي الداهية:

- سأكون لك ضرّة!

فابتسمت الحاجة، وأخذت احداهما الأُخرى بالأحضان.

 

د. قصي الشيخ عسكر

...............

فصل من رواية: نهر جاسم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم