صحيفة المثقف

فنطق الطّريق

قصي الشيخ عسكرانصرمت ثلاثة أشهر، فنطق الطّريق عن نفسه، وسقطت كلّ التّخرصات والأقوال، وزالت الشّكوك، والهواجس، فكان البشر يرتسم على وجوه، عمرت بالسعادة، بينما لاحت على وجوه آخرين حيرة، وقتام.

الحكومة نفسها قدمت.

والوحش على الأبواب.

ذلك الفأل النّحس بدأ يتململ.

شيء غريب، يضطرّون أن يتبعوه إلى حيث يشاء، وإلى حيث لا يعلمون، وكانت الأيّام تجري، فيحسّون بثقلها عليهم، ففي يوم مشمس نهاية الصّيف، حضرت لجنة عن البلديّة يرافقها مهندسون، وعمّال، فتمّ مسح البساتين، ثمّ شخصت الإشارات الحمراء على النّخيل، والشّجر الذي يطاح به عندئذ تنفّست الدّاهية الصّعداء، وانزاح عن صدرها الإحساس ببعض الخوف، مع ذلك، أدركت أنّ الحظّ وحده، وقاها كارثة الطّريق الّتي كانت يمكن أن تمسّ الضّريح، فعلى خطّ واحد توازت بساتين الباشا، والمكبس، والضريح، مع أملاك عبد العليم، وهو وفق رأي الكثيرين، لابدّ أن يكون قد سلّط كلّ نفوذ له على اللجنة، والمهندسين، ليرسموا الطّريق باتّجاه آخر لا يضرّ مصالحه، عبر الشّمال، في أراضي الجلبي، وابن المسعود.

هذا هو الذي اقتنعت به تماما.

وكان لابدّ أن يكون هناك لغط ما يمسّ الدّاهية نفسها، ولو لفترة قصيرة!

فقد كثرالقول حول عبد العليم، ونفوذه. قيل تعاهد هو، والدّاهية على أن يدفعا بالطّريق نحو الشّمال، فنجت أملاك كلّ منهما. كم دفعت له؟اللّه أعلم، وربّما، وليس ببعيد أن تتطوّر العلاقة بينهما إلى معان وأهداف أبعد، فتطرد المراقب ابن الرّوّاس، وتدفع بإدارة أملاكها إلى أبي مصعب. الأحلام، والآمال- وفق الأقوال - طافت بها أيضا حول مشاريع بعيدة. مشروع في مصر، فالرّجل مؤهّل خلال هذه الظروف، لمنصب مهمّ ينتظره في العاصمة، ثمّ إنّ صوره المعلّقة في غرفة الاستقبال الّتي تجمعه بعبد النّاصر، وعبد الّسلام تشهد بذلك، والدّاهية أعرضت عن الزّواج طويلا، ثمّ رضيت بالباشا مبعوث نهر جاسم إلى القصر الملكيّ، وحلمها المنتظر في ارتقاء كرسيّ الوزارة. ولعل بعض المتضررين اتّخذوا موقف الدّاهية اللين من عائلة أبي مصعب، زمن المدّ الشّيوعيّ، وإبقائها على العلاقة معهم متعللة بكون الضّريح يقبل المؤمن، والكافر، ولا يقطع الصّلة بأيّ كان، لعلّهم اتّخذوا من ذلك حجّة لحملتهم الجديدة الّتي سلّطوا نارها بالأساس على عبد العليم، وشمل شررها الدّاهية. هكذا ثار المتضررون، ثمّ قبلوا الواقع على مضض. الحق كان ابن المسعود أكثر عرضة للضرر من غيره، حيث نخرت السّوسة أرضه، فشقّت البستان إلى نصفين، ولم تخنه الكلمات حين أسلمه الحظّ للنحس، فسبّ، وزعق، وشتم الدّاهية، وذكر أمام الملأ، أنّه ينوي التقدم بشكوى إلى رئيس الجمهوريّة بسبب ما لحقه من ظلم. قال ذلك على الرّغم من أنّه يعلم سلفا خسارة أيّة دعوى يثيرها، ثمّ كظم غيظه، وقبل كالآخرين بالأمر الواقع، ليلتفت فجأة إلى مرض ابنه…فيدرك أيّة مصيبة هو فيها، ويسأل نفسه، كمن كان في غيبوبة طويلة:أهو السّحر أم عقاب من اللّه؟الطّريق لم يشقّ الأرض، ويشوّه البستان، بل التفّ على رقبة ابنه الذي تغيّرت كلّ ملامحه: وجه انقلب، وبانت عليه ملامح الشّيخوخة. الشّفة السّفلى ارتخت. في وقت واحد اختلطت الأمور. الغضب على الدّاهية. الغضب على صاحب النّفوذ عبد العليم، بل كاد الطّريق يُنسى لولا إشارات حمراء ارتسمت على جذوع النّخيل، مذكّرة النّاس بالقادم الجديد، أمّا الإشاعات فقد تناثرت حوله هذه المرّة: منهم من ذكر أنّ جدّ المسعود أصيب بالجنون، وهام على وجهه بالمقابر، وأنّ عمّ أبيه ليلة مصرع الملك غازي، دفعه هاجس ما إلى الخروج ليلا، بالضّبط مثلما فعل الفيل، فركبه طنطل حتّى مطلع الفجر، وكانت الجرأة تواتي بعض النّساء، فيقلن إنّ الصبيّ ضحية لإحدى تجارب أمّه في السحر، وهناك من يذكر أنّ التّطاول على الوليّ هو السّبب فما كان على الغضب ساعتها أن يجرف المسعود ليقول إنّ الأحياء أحقّ بالأرض ممن ماتوا ولا نفع فيهم. أمام تلك الهواجس تعلّق الأب ببصيص من الأمل. لام نفسه على كلّ ما بدر منه بحقّ الدّاهية، والتّطاول على الضّريح، وصاحبه الوليّ ذي المعجزات الكثيرة الظّاهرة للعيان في أكثر من مشهد ومقام خاصّة أيّام الفيضان، وعلى عهد المستر" دوسن". مهما يكن، فما كان عليه أن يصل إلى هذا الحدّ، وإن سمع الآخرين ورآهم يتطاولون، وهاهم، بعد مرض ابنه، يقصدون الضّريح، ويسألون الدّاهية، العفو، والصّفح، فلم تعرض عن أيّ منهم، أو تردّ أيّ اعتذار!

كان يجلس قبالتها، وعيناه لا تجرؤان إلى النّظر بعينيها. خجل، وندم. لاشيء في رأسه سوى قبول العذر، وطلب الشّفاء:

ـ لا يهمّني كلام الآخرين يا ابن المسعود، بل ماذا قلت أنت بالذات؟‍‍‍

أيّ عذر؟صعبة هي لحظات المواجهة، بل ماعساه أن يقول:

ـ يا ابنة الوليّ، يا داهية، قطع اللّه لسان الّذي يمسّك بسوء.

ـ الحمد للّه على أيّة خسارة وربح، مادام العِرض بسلام.

فردّ، ولمّا تزل عيناه تنبشان في الأرض:

ـ يا ابنة الوليّ الشيطان في لحظة ما يمكن أن يدخل أيّ رأس.

وبعد صمت ثار التّأنيب:

ـ ألم تطعن الضّريح وأنت تعرف كرامة صاحبه؟ألم يصل إليّ الشّرر، ومنك أنت أوّل الخائضين في الكلام؟

من الأفضل له أن يلوذ بالصّمت، فواصلت بحماس:

ـ أترى أني صاحبة الأمر على الحكومة؟أليست هي المسؤولة عمّا حدث؟لو كان بيد المالكين أمر لغيّروا الطّريق على هواهم. الزّمن يجري يا ابن المسعود، ولسنا في أيّام زمان. ولّى عهد غازي، ونوري السّعيد، وإلا لالتفّ طريق نهر جاسم مثل الأفعى، كما حدث لطريق أبي الخصيب.

ـ يا ابنة الوليّ أنتِ ذات علم وحلم. لم يخطيء أبدا من سمّاك الدّاهية، ولكنّه الغضب يدفع الإنسان إلى قول مالا يقال، وفعل مالا يفعل، والعفو تقوى.

ـ لو كان في قلبي غلّ تجاهكم، لما سألتك أن يركب ابنك في العربة هو وحسن مع عبد.

قالت عبارتها، وبودّها منذ أوّل يوم، لو دعت حسن وحده، لأنّها لم تكن لترتاح من الأساس، للفيل، كونه مفرطا في السّفاهة، فربّما يلتقط عبد بعض حركاته، يزيدها برما ما يذاع حول جلسات مغلقة لنساء المسعود في تحضير الجنّ، لكن صعب عليها أن تدع عبد يستقلّ العربة وحده كلّ يوم، أو أن تدعو حسن، وتتجاهل ابن المسعود:

ـ أنت أهل للفضل.

باحتقار أقرب إلى النّفور، وهي أبعد من أن تنسى أيّة ذكرى:

ـ دعنا الآن من أيّ قيل وقال. انس الماضي وحدّثني كيف حدث الأمر؟

كمن يشخص من كابوس:

ـ تلك الليلة المشؤومة استفقنا على صرخة. زعيق حادّ، فهرعنا إلى مكان نومه، فوقعت أعيننا عليه، وهو في حال يُرثى لها، هكذا فجأة، تغيّر شكله، وكان جسده مبللا، كما لو خرج من بركة ماء.

كانت تهزّ رأسها حتّى خيّل إليه أنّها تسرح في قصّة بعيدة، ومن خلال الصّمت سألت:

ـ هكذا من دون مقدّمات؟

ـ العجيب هكذا هجم المرض فجأة، والأعجب أنّا وجدنا باب البيت مفتوحا، على الرّغم من أنّي أغلقت المتراس بيدي.

ـ غريب؟أتشكّ في شخص ما؟ لص؟ أو…

ـ أبدا فالكلب كان يربض عند العتبة.

ـ كلّ ما أظنّه أنّه حاول التّسلل من البيت، أو أراه كان يسير في نومه مثلما يسير النّائم ففتح الباب لكنّ أعصابه لم تحتمل الظّلمة، وسواد الليل، فصرخ من الرّعب، والخوف.

قال كأنّه وجد العلاج النّاجع الذّي يريحه، وربّما كان يبحث عنه قبل لقائه الحالي بالدّاهية:

ـ أنا أرى ذلك يا ابنة الوليّ، على الرّغم من أنّ مرض السير في النّوم لم يداهمه من قبل.

تقريع. لوم. عتاب. تأنيب:

ـ يا ابن المسعود ما كان عليكم أن تشجّعوه، وتنصتوا لأقواله حتّى تتطوّر حالته إلى ما هي عليه (صمتت، ثمّ تابعت) لِمَ لم تردعوه؟(لم تدعه يقاطع، وواصلت) مرارا وتكرارا تحدّث للصّبيان والمعلّمين في المدرسة، عن شجاعته، ومقدرته على السّير في الظّلام، والنوم في المقبرة، وأنتم تسمعون، وتغضّون النّظر حتّى كاد يفسد ابني عبد، وحسن العمران.

ـ كنّا نعدّ كلامه من باب المزاح.

ـ لا أحد مثلي كان يحبّ المزاح. أنتم تعرفونني قبل وفاة الأحبّة، لكنّ المزاح إذا خرج عن حدّه أصبح سفاهة لا يقبلها العقل والأخلاق.

ـ يا ابنة الوليّ، أنت نفسك، قلت لننس ما فات، وهاأنا أعترف أنّي أخطأت.

فتطلّعت إليه بنظرة ثاقبة:

ـ ما هو مطلبك؟

ـ السماح أوّلا.

ـ المسامح هو ذو العزّة والجلال.

ـ ثمّ تأذنين لي بربط عبد بضعة أيّام في الضريح لعلّ الوليّ ببركته يأخذ بيده، فيشفى بإذن اللّه.

وهي تهزّ رأسها كأنّها ترثي له أو تتحسّر:

ـ لك ذلك يا ابن المسعود.

الحقّ إنّ الدّاهية ارتاحت إلى زيارة ابن المسعود، فقد أصبح الرّجل عبرة تلوكها الألسن، تحدّث الصّغير، والكبير، عن جنون الفيل، وخصّوا، بالثّناء، الدّاهية الّتي سارت مع العائلة إلى الضّريح لتربط المعتوه هناك، وتدعو له بالشّفاء، وكانت تعلن خلال أيّ لقاء لها بمن تقابله في طريقها أنّها سامحت كلّ الّذين أساءوا إليها ولأبيها الوليّ، وكلّ من نهشوا لحمها بالباطل، سامحتهم من كلّ قلبها، والمسامح هو اللّه.

[7]

على أنّ كلّ شيء سار على ما يرام.

وقد أخذ الخبر القديم يتجسّد للرؤيا، ويتّضح للعيان.

تضيف، لما سبق، راوية نهر جاسم:

كالدّيناصورات القديمة تحرّكت الرّافعات، ذات اليمين والشّمال. الجارفات ذات العجلات الحديد المدوّرة سوّت الأرض، ثمّ أقام العمّال الجسور على الأنهار، ولكثرة ما تساقط من النّخل من أجل فتح الطّريق فقد تنعّم بلبّه الأبيض الشّهيّ القريب والبعيد، والصغير والكبير، وبالغت الأخبار في أنّ الجمّار غطّى أسواق البصرة، وبيع بسعر التّراب ليبقى طعمه على الألسن بضعة أيّام فتبيّن أهل نهر جاسم بعدها، وقد انفتحت قريتهم على التّنّومة أنّ الحكومة اكتفت بشقّ الطّريق فقط، ولا تنوي تعبيده. كانت الدّاهية أسعد النّاس بالوضع الرّاهن: لم يعد الغالي عبد يقطع طريق القنطرة إلى مفرق البرّ قبل أن تقلّه من هناك العربة إلى المدرسة، بل أصبح بإمكان الحوذيّ أن يتوغّل إلى الجسر عند النّهر الأعمى، والذي أشاع الهدوء في نفسها، وزادها انشراحا أَكثر من أيّ أمر هو بقاء الطّريق من دون تعبيد، فالنّبوءة من عهد حمده والنّسر، والجمل البربريّ، افتتحت عهدها عن الحرب بالطريق، وربّما، في وقت متأخّر، وردت إشارة إلى القير. الواضح في نهاية أحلامها ذات لحظة سرقتها غفوة، داخل الضّريح، فرأت الشّيخ يحدّثها بالخبر ذاته، فاستفاقت على رائحة زفت محروق. على الأقلّ المظاهر الحاضرة تشي بخير إلى حدّ ما، كأنّ النّبوءة تحاشت أن تلتفّ حول نهايتها، فتنقلب في وقت مبكّر إلى صورتها القاسية الأولى، فأشفقت الأقدار من أن تجتاح الدّرب بحسّها الصّارخ. لقد أمن النّاس نبوءة الحرب مع إيران، واستبشروا لتحسّن العلاقات بين البلدين، فأمنوا فحيح تلك الأفعى الّتي انبسطت بين البساتين بجلدها التّرابيّ الدّاكن، من غير ما حلّة جديدة. في هذه الحالة استند ذهن الدّاهية إلى طريق آخر ينبثق في آخر الزّمان غير هذا الذي ألفه النّاس بعد بضعة شهور، بل كاد ذكره ينسى أمام العارض الجديد، وهو جنون الفيل. كان الانطباع العام يتلخّص في أنّ القرية دفعت ضريبة الدرب. ما من حدث يأتي من الخارج، وما من جديد يحلّ إلاّ وله ثمن، ولا غرابة في أن تكون عائلة المسعود وفق البرهان الجليّ الظّاهر للعيان هي الضّحيّة لأنّ الرجل ـ أبا الضّحيّة ـ كان أكثر حدّة، وطول لسان في حديثه عن الدّاهية والوليّ، وهو أوّل من اتّهمها باستمالة أبي مصعب، ثمّ إنّ العائلة نفسها مؤهّلة بالموروث، وليس غريبا على أحد أبنائها مرض مثل الجنون.

هكذا سارت الأمور وفق هوى الجميع.

الكلّ راض إلى حدّ ما.

والكلّ تنفّس الصعداء، وإن كان هناك توجّس ما عند البعض ممّن لم يأمنوا الزمن، وإن بدا في أحن حالاته.

نهاية المطاف رافق الانتهاء من الطّريق، عند الحدود، لغط عن زيارة رئيس الجمهوريّة إلى البصرة. كأنّ الطّريق أخرج النّاحية كلّها من نسيان موغل في القدم. كان عبد العليم نفسه يروّج للخبر، ويذيع في النّاس أنّ الرّئيس المؤمن، أقدم على أعمال كثيرة لم يسبقه إليها أحد من قبل، ويحكي عن التّأميم، وتفقّده القرى المنسيّة، والمناطق النّائية، وبعد أيّام، وبينما التّلاميذ في الصّفوف إذ دخل عليهم مدير المدرسة، ليذكر الخبر، وجهود الإدارة، والتّلاميذ، لتبدو مدرسة الدّعيجي بمظهر لائق، وطلب من كلّ تلميذ أن يعتني بهندامه، ويلبس أحسن ما عنده، فيقع اختيار الإدارة على أحسن ولد أو صبيّة يقدّم للرّئيس طاقة ورد.

كان عبد ـ شأن التّلاميذ الآخرين ـ يودّ لو ينصرم الوقت ويحين اليوم الموعود، فيرى ذلك الرجل الكبير الذّي يملك زمام كلّ شيء في البلد. إنّها المرّة الأولى الّتي يزور فيها رئيس الدّولة القرية، هكذا يقول المعلّم. ترى ما شكله؟كيف يكون؟وهل يشبه الصّورة الّتي يراها في المدرسة، وعلى جدران الدّوائر الحكوميّة؟حين ترجّل من العربة، وعبر درب المكبس الضيق، مال باتّجاه المراقب، فقد اعتاد بعد شقّ الطّريق أن يهبط من العربة ويتوجّه إلى المكبس قبل البيت فيداعب المراقب، ويأنس إلى نكاته، وقد خلا له الجوّ في غياب الدّاهية:

ـ حان الآن موعد نشرة الأخبار.

حرّك المراقب شفتيه، دافعا بهما إلى الأمام، وقلّب طقم أسنانه الذّي ركّبه قبل أسبوع، ثمّ مدّ الفكّ السّفليّ على طرف لسانه، وابتلعه ثانية، وهتف مؤكّدا:

ـ هنا لندن، هيئة الإذاعة البريطانيّة. بغداد العاصمة العراقيّة. قام الرّئيس العراقيّ عبد السّلام عارف بزيارة إلى نهر جاسم، وضواحيها حيث استقبله هناك السّيد عبد النّمر، وإلى جانبه مدير المدرسة.

فقهقه عبد وقال:

ـ سوف أدير المؤشّر على موجة أخرى.

ـ ما زلنا نواصل الأخبار من واشنطن. نهر جاسم. ذكرت وكالات الأنباء أنّ السّيد عبد النّمر فارس الصّفّ استقبل هو ومدير المدرسة السّيد رئيس الجمهوريّة، هذا وقد تبيّن للعيان أنّ رئيس الجمهوريّة مثل بقيّة خلق اللّه له عينان، وأنف، وأذنان، وشفتان، ومن غير ذيل.

قهقه عبد، وهزّ كتفيه، فغاصت فيهما رقبته:

ـ هذا وقد كان في استقبال السّيد الرّئيس سيدة نهر جاسم الأولى ذات المحروق الذّي لا يسمّى …

قطع عبارته دخول الدّاهية. كانت قادمة من الضريح حيث حلّت هناك الفيل من رباطه:

ـ بعد غد يصل رئيس الجمهوريّة، فلماذا لا تربطينه في الضّريح بدلا من ابن المسعود؟!

قال ذلك المراقب، ولعلّها لا تقصد السّخرية والهزء، بقدر ما تعبّر عن سخطها:

ـ هذا مصاب بداء الكلب، ولا ينفع معه أيّ علاج حتّى لو ربطناه في الكعبة!

واندفع عبد يحثّ أمّه:

ـ داهية. المدير يقول البسوا أحسن ما عندكم.

لم تكن الدّاهية ليساورها أيّ شكّ في أنّ اختيار الإدارة، سوف يقع على جميلة بنت عبد العليم، لذلك لم تكن لترغب أن يدخل ابنها في منافسة مع ابنة صديقتها، بغض النّظر عن ذلك، والأهمّ أنّها لم تكن لترغب في أن يؤدّي عبد الدّور خوفا عليه من العين، فالغالي أنيق دائما. مرتّب الهندام، والحاجّة تتأكّد كلّ يوم من حبّات الملح في جيبه، لكنّه يبدو ملحّا في بعض الأحيان:

ـ مالها ملابسك. ستلبس مثل كلّ يوم. [لكن لا تنفع معه إلا الحدّة] ستلبس ملابسك التي ترتديها كلّ يوم، وكفى كلاما فارغا.

كان الصّبيّ يحلم باليوم الجديد.

وقد بدت نهر جاسم نظِرة، ذلك اليوم، كأطفال المدرسة. وجه غضّ ينفض عنه رتابة الأيّام العاديّة. مشهد غير عاديّ تجدّد به القرية شبابها. على الأقلّ نحن نذكر العالم. نعرف بغداد، والموصل. موسكو. واشنطن. فليعرفنا العالم. لعلّ كثيرا من الأمور تبدو لا طعم لها، لكنّها تنقلب إلى مزحة حلوة. القرية، وحلمها العريض بدء من عهد التّرك، وبعدئذ طموحات الباشا، وقالوا كان الزّعيم، قبل الثّورة يمرّ مع الجيش من هنا، وراء طريق البرّ، وجبل عريزة، وتقسم الدّاهية أنّه بعد الانقلاب المشؤوم عام1963 مرّ بالقرية في طريقه إلى إيران. لم تكن هي أو غيرها، ليصدّقوا أنّ الزّعيم قتل، لكن رغم الحسرة على ما فات فهو يوم غير عاديّ.

صباح آخر.

نهر جاسم كخليّة نحل.

التّلاميذ يصطفّون على جانبي الطّريق يلوّحون بالأعلام، وصور الرّئيس. الفلاّحون. الملاّك. سيّارات الشّرطة، والأمن، تروح، وتغدو. عمّال البلديّة في حركة متواصلة، وبين فترة وأخرى ترش الطّريق شاحنة الماء حتّى لا يثور التّراب أثناء مرور الموكب. النّسوة تأهّبن لإطلاق الزّغاريد، وبعضهنّ تعجّلن فزغردن قبل فوات الأوان. الوجهاء أحضروا ذبائحهم من الخرفان، أمّا عبد العليم الذّي كان ينتظر الرّئيس والمتصرّف في مقرّ اللواء، فلم يكتف بتزيين واجهة منزله بصور عارف وناصر، والعلمين المصريّ والعراقيّ، بل أحضر بعيرا وربطه عند مدخل القرية، أمام المدرسة، فيكون أوّل من ينحر ضحيّته عند قدمي الرّئيس. للمرّة الأولى تقع أنظار التّلاميذ الصّغار على بعير حقيقيّ بشحمه ولحمه، بعير مثل جمل حمده التّي خطفها نسر وفق رواية نهر جاسم الأولى : جمل حمدالبربري الذي ياكل عصيده وينفري. في تلك اللحظة، والأغنية تملأ ذهنه، كأنّه يضع رأسه على فخذ الحاجة، ويتابع الصّوت الشّجيّ، انتبه إلى البدويّ الواقف أمام البعير، وقد همس، وأشار إليه بيديه، فأخذ البعير يهبط، ويبرك على الأرض. العيون كلّها معلّقة باتّجاه باب المدرسة حيث الحيوان الضّخم. الصبيّات السّتّ التّلميذات بقين في مكانهنّ يحطن جميلة بنت عبد العليم التّي بدت بحلّتها المدرسيّة الجديدة، وتسريحة شعرها، وفي يدها إضمامة الورد، أشبه بدمية شقراء زاهية الألوان، في حين غادر الأولاد أماكنهم ليروا البعير عن قرب.

ـ أصغر من الفيل.

فيرد حسن:

ـ لكنّ رقبته أطول.

ـ والأذنان؟

ـ هل تستطيع أن ترسمه؟

ـ ليطلق عليك الآخرون كلمة البعير مثلما حدث للفيل.

ـ لم أر بعيرا من قبل.

ـ أمّي الحاجّة الكبيرة يمكن أن تكون رأت جمل حمده البربري!

- ولعلّ جدّتي أيضا.

حرّك البعير مشفره، فظهرت بعض أسنانه، فبدا كما لو كان يضحك. الحركة لفتت نظر الصّغار، فراحوا يقـلدونه ضـاحكين بصوت صاخب النّبرات :

ـ اضحك… اضحك.

حسن يتوقّف عن القهقهة فجأة:

ـ اضحك يا غبي بعد ساعتين يأتي الرّئيس، فيذبحونك.

زمن يطول بهما. رغبة تتلجلج في ذهنه أن يرى ذلك الحيوان الضخم يذبح عند قدمي الرّئيس. كيف تتقدّم نحوه جميلة بنت عبد العليم، فتنحني، وتقدّم إضمامة ورد. الوقت طويل، فمتى يأتي الرّئيس. لم يذبح خروفا بعد. دجاجة، وما أكثر الدّجاج في بيت الداهية!. حسن مثله ذبح دجاجا. هكذا. ضع قدمك على رجليها. قل باسم اللّه ثمّ حزّ الرّأس، لكنّه وقد طابت له اللعبة، وحلا بعينيه المشهد، رفع الجثّة في الهواء، رفست برجليها، وقد تطاير الدّم منها على ثياب المراقب، والدّاهية. الأمّ الكبيرة صرخت:

ـ العتاب على الكبار الذّين قالوا لك اذبحها.

يأتي صوت ابن الرّواس فيما بعد:

- دعينا ياداهية نعلم أبناءنا منذ طفولتهم على الشجاعة!بطل عبد! نمر!

ـ لماذا كلّما أردنا ذبح دجاجة ذهبت بها ملكة الليل إلى المكبس ليذبحا أحد الرّجال هناك. أنا رجل البيت، واللّه سأذبح كلّ الدجاج، وخروف العيد أيضا.

وإذ زجرته الدّاهية ساخرة هتف بها ملوّحا بالسّكّينة تقطر دما:

ـ أنا ابن النّمر وجدّي الوليّ!!

لكن آخر ما كان يخطر بباله البعير ذو السّنام العاليّ. مخلوق غريب، ومفاجأة للصّغار والكبار أيضا. كان عبد وحسن يتحدّثان عن الدّجاج، وأوّل عهدهما بالذّبح، حين برز، تلك اللحظة، الفيل. في البدء اندفع، مهرولا خلف الصّفّ، وعندما أصبح على بعد خطوات، تثاقلت خطواته، وعيناه تحملقان في المخلوق الغريب. كلّما اقترب خطوة أخذته دهشة، فمدّ عنقه حتّى كاد ينخلع، ثمّ تجرّأ، واندفع نافثا الهواء من منخريه. كان من عادة الأهالي ألاّ يحجزوا المجانين عن شيء خشية من عفاريتهم، فصعد على ظهر البعير، لامزا خاصرته برجله. كان يصفق جذلا، وراح يهتف بكلمات مبهمة، تفلت مع اللعاب السّائل أسفل شفته:

ـ آش. إير. إيس. آش. ~يس.

كلماته أخذت منحى آخر في السّاعات القادمة، فأوّلها الأهالي حسب هواهم، قبل أن يلعق لعابه، ويترجّل من على ظهر البعير، لينطلق بكلّ الاتّجاهات إلى حيث لا يدري أحد أو حسبما يدّعي أهل القرية:إنّك لا تحتاج أن تسأل أين هو لأنّك يمكن أن تجده في كلّ مكان. لحظتها كان عبد يسأل حسن باهتمام:

ـ أتراه فعلها؟

ـ الفيل يمكن أن يفعل أيّ شيء !

ـ الحمد للّه أنّ الدّاهية جاءت في اللحظة المناسبة وإلاّ لكنّا مثله.

هزّ حسن رأسه، ولم ينطق بأيّة كلمة، كأنّه ينصاع للهدوء الدّخيل الذّي حلّ في غير وقته. كانت الضّجّة قد هدأت تماما. ولا أحد يريد أن يصدّق ذلك السّكون العميق، والصّمت المطبق اللذين خنقا خلال لحظات كلّ الصّخب الذي زاده حدّة حضور المعتوه، كأنّما كلّ الواقفين انقلبوا، فمسخوا بأنامل ساحرة شرّيرة إلى تماثيل حجريّة. سكون تذكره القرية عن زمن مضى. يوم صمت كلّ شيء حتّى الهواء. الطّيور ذاتها خرست. الحيوانات…ثمّ هبّ شيء فضيع. أقوى من كلّ شيء. جرف أمامه التّراب، والماء، والنّاس، والغنم. طوفان يشبه غضب نوح.

فجأة…

والصّمت يطبق بحدّته المفاجأة…

والهدوء غير المألوف يخيّم على الواقفين المنتظرين…

الأطفال أنفسهم لم تصدر عنهم أيّة أصوات…

وكأنّ كلّ الأحاسيس اقتربت من شيء مجهول، فسكتت عن الحركة، ولاذت بالسكون وحده هاربة من شيء ما مخيف حتّى يعلن عن نفسه المجهول. وسط ذلك الترقّب، ولم يكن هناك إنذار ما يسبق الحدث، مما ذهل له الجميع، لأنّ الأحداث الكبيرة تدرك وقائعها في بغداد. منها تأتي. هي التّي تخلقها، فترويها الألوية والقرى، أمّا الخبر الجديد فله طعم آخر، ووجهة قريبة المنال…وأمّا تلك الحشود، فإنّها انفضّت ساعة شُوهد مدير المدرسة يأمر التّلاميذ بالانصراف إلى بيوتهم، وربّما كانت هناك مبالغة على ألسن النّساء حين قلن إنّ زوجة عبد العليم سقطت مغشيا عليها حال ورود الخبر المشؤوم…وهناك بلا شكّ أكثر من امرأة زغردت مدّعيات أنّهنّ لم يسمعن الخبر بعد، ويتلهّفن لرؤية الرّئيس!!

للأسف!!للأسف!

قالها الجميع صادقين أو كاذبين.

هكذا انفجر السّكون.

ولعلّها المفاجأة الموعودة أو غير المعهودة.

مات الرّئيس…

قتل بحادث طائرة.

سكون آخر …

وبعد دقائق لن يبدو من المألوف أن تظلّ القرى منتظرة على الشّارع التّرابي، وفي المظهر تبدو الخيبة، والمرارة، والأسف، أمّا أعماق النّفوس فلها حساب آخر لا تبديه الظواهر. كان الحادث يتّسع فوق الشّفاه. عبد وحسن، والتّلاميذ، تخيّلوا أنّ الجسم المعدنيّ يهوي مثلما يسقط حجر في الماء. رغم ذلك يظلّ الأسف يحتلّ جانبا من النّفوس. كان يمكن أن يحدث كلّ شيء بعد أن يصل الرّئيس إلى نهر جاسم. أمان واسعة عريضة اختارتها القرية لنفسها:الصّغار حلموا برؤية الرئيس، والقرية ظنّت أنّها سوف تكبر، وتصبح ناحية، يعكس وجهها عبد العليم. لقد خشيت الطّريق، وحين أصبح حقيقة، وجد النّاس أنّ شيئا أفضل من لاشيء، فأيّة صورة رسمتها لأيّامها نهر جاسم: يكون لها مدير، فتتسيّد على قرى تتبعها، وإذ تكثر نفوسها في يوم ما ليس ببعيد تكون قضاء، ذلك الوقت يصبح عبد وحسن، وتلاميذ المدرسة أجدادا. النّاس يتكاثرون، والزّمن يتقدّم، والمعلّم بطريقته يجلب كثيرا من الأشياء البعيدة والغريبة الغائبة عن العيون، فيكاد يتحسّسها الصغار بأيديهم، أمّا الكبار ممّن وعوا الحياة قبل دوسن والملك، فإنّهم، إذ راهنوا على عبد العليم، يقسمون أنّ أجدادهم الأوائل سكنوا هذا المكان يوم كانت حمده وجملها البربريّ، فأيّ مكان يوغل في القدم مثلنا، مهما يكن من أمر، فإنّ عبد العليم منّا وابننا، وإن اختلفنا معه، لكنّه يريد لنا أن نكون متبوعين لا تابعين، وكم اختلف بعضنا أيّام زمان مع الباشا، ووددنا لو فاز ببغداد قبل أن ينطق القدر، ويكشف الزّمن عن وجهته، والآن ظهر الطّريق، ولم يحدث أيّ مكروه، فلم لا تكون نهر جاسم ناحية؟!وربّما كان ابن الرّوّاس من القلائل الّذين لم يبالوا بالتّغيير المرتقب. ماذا يعني أن نصبح ناحية؟ يساعده على التهكّم صوت يصدره من فكّيه الصّناعيين، فيما يشبه عفطة مخنوقة. نكبر، ويكون لنا مدير. أهذا كلّ شيء؟الأفضل أن تكون نهر جاسم صغيرة، وجميلة، فليس كلّ كبير فيه الخير. الحمار كبير، والغزال صغير، والأدهى من كل ذلك أنّ نهر جاسم هبّت كلّها واقفة على جانبي الطّريق لاستقبال الرّئيس باستثناء الحاجّة التي ظلّت في مكانها مع تأمّلاتها وتسبيحها، والمراقب، وكانت الدّاهية تصحب ملكة الليل، وتذهب مع النّاس إكراما لأمّ مصعب، وهي واثقة تماما، كالآخرين، بأنّ عبد العليم سوف يمارس نفوذه أثناء حديثه مع الرّئيس. هذا أفضل. ليكن في نهر جاسم شيوعي، وقومي، وملكيّ، وو…فالزّمان لا أمان له، والأيّام غدّارة حتّى إذا دار الدّهر دورته، وغلب حزب ما على الآخرين، وجدنا من يدفع البلاء عمّن غلِبوا من أهلنا. عبد العليم الّذي جرّحناه، وهدّدناه، وأطلقنا عليه من الشّتائم ما لم نقله بحقّ اليهود والنّصارى، يكشف الآن عن معدنه الطّيب، ويرفع رأس نهر جاسم أمام الرّئيس. يريد أن نصبح كبارا. نسي كلّ شيء. مثل الباشا. صاحب قلب كبير. والحقّ إنّ الدّاهية لم يساورها القلق بعد أن هدأت الأحوال، ولم يظهر شؤم الطّريق المفترض، فلم تتصل النبوءة بذروتها، بل رأت في تحوّل القرية إلى ناحية زيادة لمكانة الضّريح. سوف يأتي أهل القرى التّابعة لتقديم معاملاتهم، ومراجعة سجلّ نفوسهم، وتجنيدهم، وتقديم شكاواهم، عندها يشخص لهم الطّريق في غدوّهم، ورواحهم، فأيّة منزلة تثلج القلب وتحيي الذّكر أكثر من أن يكثر زوّار الضّريح؟!

كانت تحدّث ملكة الليل حين أبصرت المعتوه ينتفض فجأة أمام مقام أبيها الوليّ، ويهرول صوب الدّعيجي. لم تكذّب قلبها ساعة الصّفاء. وخز كوخز الإبرة. لا أكثر. لابدّ من وقوع أمر، ثمّ أسف وشماتة في الوقت نفسه. قد نبكي بعين، ونضحك بأختها، وإذ وصل عبد كان يحكي لهنّ ما وقع بالضّبط:

ـ أمّي لم يقف عند الغنم المربوطة للذّبح، بل شقّ طريقه، واتّجه نحو البعير، ركب ظهره، وصاح:ئير. . ئير. . ئيش، وهو يضحك ولعابه يسيل أسفل شفته، وحالما نزل، وذاب، كأنّ الأرض ابتلعته، هدأت الضجّة، وبعد دقائق، جاء المدير، وأمرنا بالانصراف إلى بيوتنا.

صمتت الحاجّة قليلا، خلال إطراقة، ثمّ رفعت رأسها:

ـ أتدرون ماذا قال؟هل أنت متأكد؟

ـ نعم يا أمّي الحاجّة، فكلنا سمعناه.

ـ يعيش البعير. البعير يعيش. صحيح. المجانين يتنبّئون بالمستقبل، وفي صغري سمعت إمام الجامع يحدّث أبي فيقول له كان الكفّار في الجاهليّة يسمّون الأنبياء مجانين لأنّهم يشكّون حين يتنبّئون، فيظنّونهم مجانين.

ـ إنّه مثل جمل حمده البربريّ. ما أطول رقبته، وما أصغر أذنيه، سأرسمه.

فتدخّلت الدّاهية لتقول:

ـ كان جمل حمده مدللا لا يأكل إلاّ السكر، والعصيدة، قبل أن يخطف النّسر حمده، فيهيم على وجهه في البراري يأكل الشّوك، والعاقول.

ملكة الليل:

ـ كم هو محظوظ بعير عبد العليم !من كان يصدّق أنّ الآية تنقلب. الرّئيس يموت، والبعير يظلّ على قيد الحياة. (ثمّ استدركت مباشرة)استغفر اللّه العليّ العظيم، لا دافع لبلواه، ولا رادّ لما أراد.

وتحرّك الصّبيّ إلى الرّفّ حيث دفتر الرّسم، وانزوى منشغلا بالورقة والقلم، فسألته الحاجّة الكبيرة:

ـ ماذا ترسم؟

لم يرفع إليها عينيه:

ـ سترين فيما بعد.

وهرعت ملكة الليل، على نداء ما في الخارج، ثمّ عادت تعلن عن وصول المراقب الّذي قدم وإمارات الغبطة والانشراح ترتسم على وجهه، قال يستبق الخبر قبل أن يجلس:

ـ واللّه أنا والحاجّة بطلان، فنحن الوحيدان لم نقف مع الواقفين، ولم نخرج مع الخارجين. أليس كذلك يا حاجّة؟

احتجّت الدّاهية:

ـ كفى الآن حديثا عن بطولاتك، وأخبرنا هل من جديد؟

ـ كلّ ما عرفته أنّ الرّئيس قتل في قرية اسمها النّشوة للأسف الشّديد.

فرغ صبر ملكة الليل، فتعجّلت الاعتراض:

ـ قبل قليل كنت لا تحبّ أن تراه، وتفخر بتأخرك عن الركب، والآن تتأسّف.

ـ أنت آخر من يفهم.

ـ نوّرنا يا أستاذ فهيمه!

فاجأته حدّة لسانها على الرّغم من حذره الشّديد:

ـ أنا آسف على شيء واحد، هو أنّه قتل في قرية أخرى، لو قتل في قريتنا أفضل.

الدّاهية مستنكرة:

ـ جزاك اللّه خيرا، أتريد أن تجلب لنا تهمة!!

ـ شبهة، وعار. نهر جاسم لا تقتل ضيوفها. (قالت ذلك ملكة الليل).

ـ الآن سجّل التّاريخ اسم(اسم النّشوة)حيث قتل الرئيس، وعادت نهر جاسم إلى النّسيان.

في هذه اللحظة، ضخّم عبد صوته، ونفخ خدّيه، وأخذ في الكلام من دون أن يرفع عينيه عن الورقة:

ـ هنا لندن. وردنا حالا هذا الخبر. موجز النّشرة. في قرية نهر جاسم اغتال أحد الأهالي ويدعى الرّوّاس المراقب رئيس الجمهورية…

ـ عال. لتأت التّهمة من عندك. حمّتنا من رجلينا.

الدّاهية بحماس:

ـ أنت الذّي رغبت في ذلك.

ـ حسنا سأعترف، ولا حاجة إلى التّعذيب يا سيادة المحقّق(بدأ يلوك فكّه الصّناعيّ)لم أكن وحدي كان معي غير عبد ملكة الليل.

ساخرة:

ـ واللّه لو كنت مكان المرحوم لقمت بتأميم أسنانك الصّناعية بدلا من تأميم السّينالكو، ولكان استغنى عن لقب الحاج مشن!وبطل السّينالكو. !

ـ عال الآن، وقد فهمت معنى التّأميم تستطيعين أن تسجّلي في الإتّحاد الاشتراكي، فتستدعيك أمّ مصعب لحفل استقبال الرّئيس.

ـ كفى اللّه الشّرّ. تلك امرأة احترقت قبله ذات يوم !

أثارت عبارتها قهقهته، وتركت ابتسامه على وجه الدّاهية. كاد عبد يعلّق بعبارة لولا خوفه من أمّه الّتي قالت:

ـ وأين هو الاتّحاد الاشتراكيّ، وماذا فعل؟

ـ على أساس أن يفعل في المستقبل(بتهكّم منصرفا إلى ملكة الليل) لنفرض أنّ عند ملكة الليل بيتين، وبقرتين، ودجاجتين، وجارها فقير لا يملك شيئا، في هذه الحالة، يستطيع أن يأخذ منك بقرة، وبيتا، ودجاجة. هل اقتنعت لتنضمّي إليهم؟!

لم تخف السّخرية انفعالها:

ـ لعنهم اللّه، هل هناك أغلى من العرض، والشّرف، والمال!

ـ سلم فمك يا ابنة الأصول.

كانت تلك عبارة الحاجّة التّي نطقت بعد صمت.

ـ هل سمعتنّ آخر نكتة؟

ـ قلبي نفسه أصبح نكتة تحت وطأة الأيّام

ـ دعينا يا داهية، ويا حاجّة، من الأيّام، فلن يرتاح الإنسان إلا في القبر!

ـ يرتاح؟ ومنكر ونكير، وكلبة الزّمهرير التّي تنهش الميت.

ـ خلاص يا ستّي المرحوم قبل أن تنهشه تلك الكلبة زار الموصل فخطب في أهلها قائلا يا أهل الموصل يا من موصلتم الاستعمار، وفي الرّمادي قال يا من ذررتم الرّماد في عين الاستعمار، وخلال زيارته لكركوك قال يا من كرككتم الاستعمار، وعن أهل القرنة أنتم جعلتم بنضالكم للاستعمار قرونا، المهمّ، لا علينا، من كلّ هذا، ما عساه أن يقول في أثناء زيارته لمناطق، التّنّومة، وأمّ الدّجاج، وبيت زعير، ونهر جاسم، والدّعيجي، والبوارين، والكباسي، وأم الكلاب ! كانت تكون مصيبة واللّه !.

ملكة الليل تكتم ابتسامتها:

ـ نكتة؟أيّة نكتة هذه تنتهي بمصيبة؟

ولمّا تزل الدّاهية شبه معترضة:

ـ يا جماعة المثل يقول اذكروا محاسن موتاكم. لقد قلت دائما إنّ الله يسامح عبد السّلام على كلّ أخطائه لكونه خلصنا من الحرس القومي، وأفعالهم السّود، ولو امتدّ به العمر لكان يمكن أن يقنعه عبد العليم، فتتحوّل شطّ العرب إلى قضاء، ونهر جاسم تصبح ناحية.

ـ يا داهية يا بنت الولي، القوميّون من نفس عجين البعثيين، أمّا أن تصبح نهر جاسم ناحية، فلا أظنّ أنّ لعبد العليم ذلك النفوذ، أو سيتغيّر الحال إلى أحسن، فنهر جاسم دائما تتقـلص، وتكبر مثل المطاط.

الدّهشة، والاحتجاج:

ـ لماذا؟ كم عدد نفوس شطّ العرب؟

صمت يطبق فجأة حيث انتهت تلاوة من القرآن، توقّع الحضور أن يذاع خبر جديد، ثمّ بدأت تلاوة جديدة، فعاد الرّوّاس إلى الحديث:

ـ يا ستي نفوسنا بحدود مائة ألف.

ـ بقدر أبي الخصيب، والقرنة، والزّبير، لماذا هذه أقضية، وشطّ العرب ناحية، ثمّ لا تنس الجامعة الطويلة العريضة التّي جذبت إلى التنّومة عددا من العمّال والموظّفين من خارج البصرة.

بلغ الحماس بملكة الليل ذروته:

ـ واللّه أنا متأكدة أنّ عبد العليم بمقدوره أن يفعلها مع الرّئيس الجديد.

ـ يا ملكة الليل بأذنيّ هاتين سمعتك تقولين لو كان يحمل اسما آخر لأطلقته على أحد الكلاب.

ـ نعم ولكنّ الحقّ يقال!

ـ كفى نقارا، كأنّكما ديكا مصارعة( أردفت بعد لحظة صمت ) من تتوقّع أن يكون الرّئيس الجديد؟

ـ عبد الرّحمن البزّاز أو العقيليّ.

ـ يا ساتر استر من العقيلي.

ـ المثل يقول المبتلّ لا يخاف المطر.

أخيرا يبدو أنّ عبد فرغ من رسمه، فلوّح بالدّفتر أمام العيون، وقد اندفع يثرثر:

ـ بعير. انظروا. إنّه البعير البربريّ.

تلك اللحظة، توقّف المذياع عن بثّ التلاوة، ثمّ انطلقت موسيقى عسكريّة، فزجرت الدّاهية ابنها:

ـ كفى ثرثرة ودعنا نسمع الخبر.

وساد صمت قصير، قبل أن ينطلق المذيع، ليقرأ بلهجة باكية تفاصيل البيان الحكوميّ الصّادر حول مصرع الرّئيس. كان الجميع ينصتون باهتمام إلى القصّة، أمّا عبد، فقد عاد إلى دفتره، وراح يضيف بعض الرّتوش إلى البعير.

 

د. قصي الشيخ عسكر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم