صحيفة المثقف

المومياء ومسمار جحا

صحيفة المثقفصبيحة ذلك اليوم حين قرعت المومياء باب المبنى المهيب ولمّا يزل الوسن ملتصقا بعينيها بمادة صمغية فعالة ساح بعضها نحو الموق ملتمعا، لم تستطع الإنتظار طويلا، ذلك إن عظمتي ساقيها المغزليتين كانتا قد بلغتا حدا كبيرا من البلى إذ كانت هشاشة العظام قد أكلتهما تقريبا . لذا كررت الطرق بعجالة بضع مرات . آنذاك وآنذاك فقط برزت المنظفة الشابة وبيدها أداة تنظيفها الطويلة - الممسحة - وقد بدا بوضوح على شفتيها بقايا ابتسامة كبيرة إذ كانت طرقات المومياء قد نزعتها من حديث شيّق كانت تسبح في خضمه ولذلك أيضا فقد حاولت التخلص من المومياء .

لم تعد المومياء تتوقع أن يجفل أحد لرؤيتها، فقد مضى ذلك العهد حيث كانت المومياوات تُرعبن من يشاهدهن، بل توقعت بعض الاحترام فقط، غير إن ذلك لم يتحقق بل تحقق نقيضه .... السخرية المبطنة والاستهانة، وإذ بسطت المومياء ما جاءت لأجله أخطأت أولا وطلبت شيئا آخر ربما بفعل ما جوبهت به من سخرية فإن ذلك أربكها بلا ريب . وبعد أن صححت طلبها نظر اليها متغطرس ما برز لها من داخل المبنى كما ينظر الجبل الى نملة لعينة قطعت عليه سلسلة أفكاره النيّرة وحكمته المعهودة . ثم ارتحل عنها برما ....دون أن يقول شيئا أو يبدي ملاحظة من أيّما نوع .

وللمومياء في هذا المبنى مسمارٌ كمسمار جحا، فهي لا تنفك تأتي لتفقده كلما سنحت لها الفرصة . وفي ذلك الصباح انتزعت من قبرها بضراوة إذ كان عليها أن تتفقد مسمارها .

قبل خمسين عاما بالتحديد كانت المومياء أشبه ما تكون بذلك المتغطرس وكان صوتها مسموعا ومهيبا فكانت تصول وتجول في محورها وتملأ ساحتها وسرادقها وجودا وهيبة ولأن الشباب قرينها ومطيتها فما كانت بحاجة لهذا العكاز أو الكرسي الصغير القابل للطي والذي يرافقها الآن في جولاتها الفارغات غير المجديات و اللاتي خلون من الصولات . - ويؤسفها كثيرا إنها كانت تتسم بعض الأحيان بالقسوة، وتذكر جيدا إنها غرقت في موجة ضحك عارم لمّا تدحرجت إمرأة عجوز في الشارع وهي تخرج مسرعة من صيدلية خافرة . ومع إنها اعتذرت للعجوز بإن لديها متلازمة سخيفة بين السقوط والضحك غير إن ذلك لم يطفىء حقد العجوز عليها - .

عادت بكفين نصف فارغتين لأن ما أرادته لم يتحقق ولم يقرّ أحد بأحقيتها باستعمال المسمار وصرفت كما تصرف متسولة ما بعد إعطائها كسرة خبز . قالت المومياء وهي تنظر الى عظامها المتهرئة : هذا جزاء من يفرّط بحقه ولا يرعى ما يملك بل وينام عنه سنينا . بوركت يا مسماري العزيز الغالي فإن أهملتك طويلا كسلا مني عسى أن أعطيك حقك من رعايتي الآن .

كانت تعرض بضاعتها للعيون والأنظار حينا، وحينا آخر كانت تكدّسها حيثما اتفق وشكا منها ومن بضاعتها كل ركن في بيتها وكل درج فيه ولكنها لم تأبه أبدا بل استمرت في الإنتاج ذلك إن أسواق تقبل بضاعتها تبعد عن بيتها أميالا وهي مشدودة الى بيتها وعملها كما يشد ثور الى ساقية . فلا تستطيع الوصول الى أيّما سوق لتعرض ما تنتج، حتى ورثت ذلك المسمار من جهة ونفعها مرض أُصيبت به، فتفرغت شيئا ما وأخذت تزور مسمارها لتعلق ما تشاء من بضاعتها عليه بين آن وآخر غير آبهة لمرضها ولا للكهف المتنامي في فمها ولا لبحيرة الماء الأبيض التي سكنت عينيها الكابيتين.

***

 

سمية العبيدي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم