صحيفة المثقف

الشبكة

قصي الشيخ عسكرلم تكن بعيني الداهية تلك هي قريتها نهر جاسم التي صغرت وكبرت بوقت واحد، فأيّ صبح هو الذي حملته على ظهرها قنطرة الحوريّة في ساعات الصباح الأولى؟

كان كلّ شيء هادئا وساكنا ومن السكون والهدوء ما يبعث الريبة والشّك في النّفس. هكذا حدّثها قلبها كلّما رأت هدؤا غير مألوف شبيه الوجه بالكفن! ومن نافلة القول أن تضيف الراوية:في مثل ذلك اليوم عند قنطرة الحورية، وقفت مبهورة الأنفاس، كما لو أنّها تتوغل في كابوس لا عهد لها به، ومن حولها الدقائق تسري كالعقارب، ليدور الحديث بعدئذ عن شبكة للتجسس، وأوّل خسارة تعتري أملاك الداهية الواسعة العريضة، وإذ تعود الأشياء كما هي، وحيثما دارت، فلا مناص من أن يجري القدر كالسيف، وكلّ ذلك يحدث، والطريق لمّا يشقّ بعد .

كانت ترمق الصورة المعلقة على جدار المكبس، وكان طعم الأشياء يتلاشى. يذوب مع الأيّام. الماء تغير والتراب. لم يفلت أيّ مخلوق من الرّيبة والخوف. كلّما ذهبت حقبة رحل معها خير كثير، وعمّ خوف جديد. أين هي أيّام نوري السعيد، والملك، وعبد الكريم قاسم، وأين هو عهد عارف، وهاهي تبصر وجه السلحفاة، فلم يكذب ابن الروّاس في وصفه الذي أطلقه على الرّئيس الحالي. برحيل الملك اختفت أشياء، ولمّا تزل إلى اليوم تختفي، حتى الموت نفسه أصبح أكثر حنانا. لقد جاء بالعذاب ولم يأت بالشّقاء، فللصورة حكاية منذ أن نطقت بعينيها تلك الأفعى، وقبل لحظات شغلت بمشهد يكبّل كالقيد نظراتها بالدهشة، فما أغرب هذه الدنيا التي تستوي فيها القرون والسنوات والدقائق. رمضان 1963 هو نفسه تمّوز 1968. موعد مع رجل السلطة، وصوت سيّارة تهدر. - هاهو قادم ياداهية.

قال ابن الروّاس، والداهية هذه المرّة حذرة، لقد تغير كل شيء. الإنكليز سمّوها داهية، لكنّ نظرتها ما عادت لتنفع، واليوم تعجز عن فعل شيء يرضي الدّولة. الرجل الضخم ذو النّظرات الثّاقبة الذي تستقبله على مضض، يعدّ من يسكت عدوّه. ليس هناك من يقف على الحياد. المستقلّ كلام فارغ، كان النّاس بسطاء لا يقرؤون أو يكتبون. أذلّتهم الحكومات السّابقة، فخشوا السياسة والسلطة. الآن بنت الحكومة المدارس. طبعت الكتب. أممت النّفط، فأمّا أن نكون مع الدولة، أو من أعدائها، فاحفظ لسانك يا بن الروّاس واصمت، نهر جاسم عادت إلى الزمن الأوّل، يوم تكلّمت الحيوانات، والطيور، وخلعت أجنحتها ورؤوسها، ونامت مرتاحة، حتى ظهرت الخيانة، فعاقبها اللّه بالخرس وثبات الأعضاء ثمّ عادت كما كانت :تكلّم كلّ طير وحيوان، وصار لكلّ شيء جامد لسان، وشفتان فهل يأمن أحد لسانه، وللحيطان آذان تشهد بها، وشفاه تنطق عنها بحضرة الشخص الذي رأته للمرة الأولى.

ـ إذن أنت الداهية. أنت ابنة صاحب الضريح، ومالكة المكبس.

- وهل يسرّ الداهية أكثر من أن يزورها ممثل الدّولة.

الرجل الأبيض ذو الوجه العريض والعينين الخضراوين يرتاح للإطراء:

- يا داهية يا ابنة الولي ألا يحقّ لنا أن نفخر بالرجل الذي خلّصنا من عهود الظلام فنضع صوره في كلّ مكان .

في كلّ مكان نعم! . وجه السلحفاة كما يقول ابن الرّوّاس قبل أن يصمت، ويعتزل الحديث. الزّعيم علّقنا صورته من غير أن يرغمنا أحد، أحببناه، فرأيناه في كلّ مكان، وربّما بالغ بعضنا فظنّ أنّه شاهده في القمر، ولولا الحياء من أمّ مصعب لما وضعت الدّاهية على الدّكّة، في مكان يكاد يكون نائيا صورة صغيرة للمشير. لم تكن لتحبّ أن تعادي أحدا وإن كان الحكومة، وهي التي ذاقت مرارة العداء، طفلة وصبيّة، وفقدت الأخ والزوج. رحم اللّه أيّام المشير كانت العاملات يتّخذن من صورته مرتعا للنكات، والسباب، ولا يتوقفن إلاّ حين يبصرن أمّ مصعب في زيارة خاطفة، فيصبح ذلك الأرعن، الحاقد الأعوج، الحاج سينالكو الذي انقلب بقدرة قادر إلى 7up

وتاجرالعهر، والفساد، وهو يصلّي الجمعة من كثرة إيمانه يوم الخميس ليستبق الثّواب، ذلك في حضور المحظور، والممنوع يصبح سيد العرب والفارس الذي خلصنا من حكم البعث إلى الأبد، وبقدرة قادر ينقلب المحال إلى واقع، فيأتي رجل الأمن بصورة الرّئيس أبي الجميع. المهيب، ولم يهن على ابن الرّوّاس أن يضعها في المكان ذاته الذي كانت عنده صورة الزعيم، لسانه طلق إلى هذه السّاعة، والهموم لا تعلو وجهه. مازال يرى الحياة نكتة وإن ساورها خوف رهيب، لكنّه حين قذف به في زنزانة الأمن سكت عن الفرح، لقد كنت يا بن الرّوّاس على حق يوم قلت للداهية، وأنت تطلق النكات فيضحك من في المجلس وتظلّ الداهية وحدها، قلت:يا داهية لم تصومين عن الضحك أنت كنت مثلي ترين الدنيا نكتة تنتهي نهاية حزينة. لا بدّ من النّهاية الحزينة إن عاجلا أو آجلا، أمّا الفرق فأنت تراهاضحكا طويلا وأنا أراها نكتة كبيرة لا نقدر على أن نفارق السخرية منها فالقلوب إذا خلت من المرح أضحت خواء، ومرحنا نحن ليس عبثا وإن خالطه لغو الحديث واختلط به الحلو والمرّ وإلاّ فنحن بأحسن حال نسخر يا أمّ عبد يا داهية من أحداث جسام وأشخاص كبار تردد الإذاعات والصحف وقائعها وأسماءهم، فرحم اللّه الأموات والأحياء معا إذ الرحمة للحيّ والميت هؤلاء الذين غرفوا من بحر نكاتك يا ابن الرّوّاس، ورحم اللّه إمام المسجد الذي كان يزجّ بنكات في خطبة الجمعة ينسبها إليك، فيأتي للصلاة خلفه بعض من سكان القرى البعيدة ممن يستهويهم الحديث عن الأوضاع الحاليّة، والسياسة، فكان ضريح الغالي يتنفّس بالرّحمة على هؤلاء الزوّار، وهم يمرّون به، فيلقون عند بابه النذور، وعلى شفاههم آخر نكتة نسبَت إلى ابن الرّوّاس قبل موت الإمام بأسبوع في ثالث يوم للانقلاب، هاهم يعودون! لكن كيف عادوا؟ومتى سيرحلون؟رحم اللّه عبد السّلام كنّا نسميه مشن و سفن أب أمّا هؤلاء فعصير صعب الهضم. الباء بعوض، والعين عثّ، والثاء… المهم نترك هذا الكلام ربّما ابن الرّوّاس لم يقل هذا الكلام والانقلاب جديد مازال يلمع لم نعرف خيره من شرّه بعد، لكن معظم النكات قد لا تكون خرجت من شفتيه، وأصبحت بحكم العادة تنسب إليه حتّى تحين ساعة الحزن التي تبرز لنا مثل الشيطان من حيث لا نحتسب، ويحقّ لابن الرّوّاس أن يسأل وهو يتلاشى بصمته

أهي المصادفة وحدها؟

أم الحظّ وحده؟أم الاثنان معا؟

وهل ينفع الكلام حين يلمع العهد البعيد من بين الرّماد، وتتململ شرارة السنين. من كان يصدّق أنّ ابنة دوسن تزور نهر جاسم قبل يومين من الانقلاب. طفلة صغيرة ضاعت على ملامحها الشّمس بمرور السّنين، ونسيها أهل القرية، مع ذكريات تلاشت جنيّة خطرت بين النخيل، غنت ورقصت. نبتت في مكان، وترعرعت بآخر ورغم ذلك فمن رآها تكاد تأكل التراب وتضمّه بعينيها، فلا يشكّ في أنّ الشوق دفعها للقدوم، وليس الفضول. مثلما يهاجر السمك إلى مسقط رأسه جاءت إلى نهر جاسم تلك الجنيّة الشّقراء ذات الشعر الأصفر الحرير، وقد أبصرناه يخطر معها متهاديا كالدّيك. كالطاووس. آه لو دام الحلم طويلا! وهل خالق هذه التي مثل الزبد والقيمر المصفى وخالق أمّ الرّوّاس واحد؟بعدئذ حين لم يعد لثرثرة المراقب أيّ معنى مضحك، عرفنا القصّة كاملة:كانت قد قدمت منذ أشهر موظّفة في القنصليّة الإنكليزيّة بعبادان. الحنين أو الفضول أغراها إلى مكان الولادة، وملعب الطّفولة، فذهبت إلى بيت والدها حيث يسكن ابن الرّوّاس. جلست بضع دقائق، وتوجّهت إلى المسبح الذي هجر منذ زمن وملأته الأشنات والسلاحف. هناك جلست وبكت بحرقة، ثم غابت مثلما أطلّت مثل أيّة ساحرة تركب عصاها وتختفي عن الأنظار. صديقة ابن الرّوّاس اللدود، ملكة الليل، داعبته، قائلة بلسانها السّليط:

ـ ما الذي يفعله الاستعمار عندك يا ابن الرّوّاس؟

فيرد على كلامها ساخرا، قبل أن تجفّ النكتة على شفتيك:

ـ أتظنين يا ملكة الليل أنّ الاستعمار يتركنا أم تظنينني على هواك مثل قطعة من قطع تلك اللعبة التي لو قلتها بصورة صحيحة لأهديتك أيّ شيء ترغبين!

ـ حتّى لو كان بعيرا على غرار بعير عبد العليم!

ـ يا ساتر !

ـ هل رأيت أنت لست كفئا مثله لتقدم بعيرا هديّة.

ـ حسنا لك ذلك وإن كان رأيك فيّ هكذا فأنت برأيي أفضل من الرّؤساء سأهديك حتى لو كان أبو مصعب نفسه .

ـ سأقولها:سطرنج!سطرنج!

ـ عظيم ألم أقل لك إنّك ستخسرين الرّهان!

والحقّ إنّك يا ابن الرّوّاس خسرت الرّهان حين أطلِق للسانك العنان، فقد جاء هؤلاء هذه المرّة من غير طعم ولا لون . لا أحد يعرف هويّتهم، مرّة مع الدّين، فغطّت الإذاعة كلّ المناسبات، ثمّ شئنا أم أبينا اختفى الأذان من الإذاعة، مثلما لم يحلّ أحد مكان الإمام الراحل، فكان بعض الأهالي يذهبون يوم الجمعة للصلاة في الدّعيجي أو التنومة. بعد كلّ هذا طالعتنا كلمة جديدة. لا أذان. لا حديث في الدين. كلّ عهد يأتي يجرف معه لفظة نعتاد عليها مع الزّمن وإن لم نفهمها. بعد انقلاب رمضان عام1963، فما عسى ابن الرّوّاس أن يقول عن كلمة علمانية، وكيف يفسّرها لملكة الليل، وليس هناك من يدري ما يخبّؤه القدر للرجل، فمع وقوف الدّاهية عند قنطرة الحوريّة، وقبل اعتقاله المفاجيء نطقت الأزمات. الجيش على الحدود. أخبار عن اكتشاف شبكة للتجسس. سلع تشح في السوق، ولعلّ لسانه فلت بكلمة تزعج الحكومة وهم لا يعرفون تماما نقاء سريرته. ما أشقّ عليه أن يذهب إلى التنّومة ليتبضّع التموين الشّهريّ فيقال له هناك غابت السمنة اليوم لكنّ الرزّ موجود لابدّ أن يفلت لسانه بكلمة غير مقصودة، وكلّ التأويلات جرت بعد أن ذهب معهم ولم يعد في اليوم نفسه، حتّى إنّ ملكة الليل ظنّت أنّ اعتقاله في البدء نكتة، فعلقت ساخرة بطيبة قلب سوف يستشيرونه كيف يوجّهون ضربتهم إلى إيران، وكيف يحررون فلسطين، ويتخلصون من أزمة المعجون والسمنة إنّه مثل الطماطم يصلح لكلّ شيء، أمّا الداهية فلم تنظر إلى الأمر بمثل ذلك الارتياح . كانت تجد نفسها مثل نهر جاسم وسط فوضى غريبة عنها. وجدت أنّها كقريتها تكبر وتصغر فلا تدري بنفسها. تمرّ بها أحداث فلا تحسّ لها طعما أو لونا. أمور أكبر من اعتقال المراقب الذي ظنّته في البداية مجرّد استفسار عن العمال في المكبس والفلاحين بحكم موقع القرية على الحدود. كانت نهر جاسم تكبر، وكان هناك من يرحل عنها إلى التنّومة أو العشّار أصبحت الدّعيجي قضاء. دخلت الكهرباء القرية. تلفزيونات ثلاجات، الجيل الجديد يعرف أبطال السّينما ويتابع المسلسلات، ويعتزّ بصور لاعبي كرة القدم، بالضبط مثلما قال رجل الأمن الذي أحضر الصورة إلى المكبس، واعتقل المراقب:سيتغيّر كلّ شيء، وما أصعب أن تجد نفسها غريبة في هذا الإطار. لقد استدلت على هواجسها بالأفعى التي رأتها صباح ذلك اليوم، وكانت تبحث في النبؤة التي دقّت الأبواب قبل الأوان. عينا الدّاهية لا تخدعانها، والحقيقة تشخص أمامها بشكل دائرتين جاحظتين تثبّتان النظرات الصّلبة القاسية عليها حيث وقفت مبهورة الأنفاس لا تتزعزع من مكانها. قنطرة الحوريّة ناصعة كالبياض رقيقة كالفراش، وادعة أليفة، شهدت ولادة نهر جاسم الأولى، ومنذ ارتقت عليها حوريّة طاهرة عرفت الأمان، والحبّ، والحزن، فكيف ارتقى عليها رسول العفريت، ونمت عندها بذرة الشيطان، والعين قد تكذب، ولا يكذب البصر: تلك إذن أفعى ذات بقع سوداء رأسها للشمال، وذيلها باتّجاه الشرق. الدّاهية تعاند قلبها. الدّهشة ترتسم على ملامحها حتّى لتكاد تأكل وجهها. لا تخافي يا ابنة الوليّ إنّ ما مرّ بك أقسى وأمرّ. كان قلبك حجرا، وأنت طفلة، فما عسى أن يكون الخطب؟أفعى تخرج في عزّ الشّتاء. المنظر الغريب رأته في كلّ مكان!يقال في مثل هذا اليوم احترقت بغداد. القتال من بيت لبيت، والإذاعة تعلن عن مصرع الزّعيم، وخلال زيارتها السّنويّة لإيفاء النّذور جلست قبالة الرّجل ذي الملابس البيضاء واللحية الغزيرة الكثّة:

ـ هل الأحبة راضون؟

الصمت علامة الخير. تسأل ثانية:

ـ الشّوق إليهم دفعني…

- حين يحنون إليك يطلبونك!

- متى؟

ـ لن يراهم أحد إلاّ مرّة واحدة

ـ والشّوق؟

ـ إذا اشتاقوا إليك جاءوا إمّا عيانا أو في المنام.

ـ إذن ليست الأفعى السّوداء منهم؟

ـ إن كان راودك خوف فهي ليست منهم.

ـ كيف يراودني الخوف وما رأيته في صغري أعظم!

ـ علام الإلحاح والأمر لا يخيفك؟

ـ لست وحدي في هذا العالم، وكل سؤالي متى تنجلي الغمّة عن هذي الأمّة؟

أشبه بالمعترض:

ـ لا تسألي عن شيء لا يعنى به العالم المخفيّ.

لكن ….

والضّحى يفصح عن أمر ما، يأتي اليقين من عالم اليقين الغائب. إنّ كلّ هذه الشّواهد لا تستحقّ الاهتمام، فلِمَ تطبع المدينة بطابعها؟حواجز على الطّرقات. حرس قومي. مفرزة عند أسد بابل. مسلّحون يندفعون داخل مقهى قديم يقلبونه رأسا على عقب بحثا عن هاربين، فيشيع خبر في نهر جاسم مباشرة يعقب الأفعى السوداء التي جثمت فوق قنطرة الحوريّة، مفاد الخبر أنّ الأمن داهم المقهى بحثا عن الزّعيم المختفي الذي شرب الشّاي، وغادر المكان قبل خمس دقائق من حضور المسلحين. كلّ يوم تسري قصّة في شطّ العرب. امرأة اغتصبت. بيت تهتك حرمته. قنينة في دبر سجين. عيون مقلوعة. صور كثيرة رجعت إلى عهد حمده والعبد الزّنجيّ بداية ظهور نهر جاسم. كانت الدّاهية تسأل من هؤلاء، كأنّها رأتهم ذات يوم، وحين عرفتهم فيما بعد تذكّرت الأفعى السّوداء المرقّطة. كادت ترجع من حيث أتت، ثمّ استعاذت باللّه. أيّام تتقشر فيها الأيادي والأطراف من البرد، فما معنى أن تخرج الأفاعي من جحورها، السؤال يرتسم على شفتيها وما زاغ بصر أيّة منهما عن الأخرى، كأنّهما غريمتان. وبغضّ النّظر عن كلّ شيء. المظاهر المسلّحة. الأفعى. الإشاعات عن الحرب. نجاة الزعيم، واختفائه. فقد دقّ الخطر أبواب نهر جاسم بعد عدّة أشهر. ضحى أحد الأيّام افتتح ملفّ البعير، حضرت مفرزة الأمن. جنود ينتشرون في البستان، ما كنّا نظنّ أنّهم يعودون، فهل رجعت أيّام الحرس القومي، وكان اللّه في عونك يا أبا مصعب. كانت النسور تخطف العذارى، والجنّ في أوقات ما يسرح ويمرح مع البشر بصور آدميّة، وكانت الدّماء تكاد تسيل من أهل القرية، ألم يختم مصرع الغالي أخر الحروب، ويمسح دمه ما قبله من عداوة بين أل الباشا وآل الحاج عبّاس، ويجبّ مصرعه كلّ نزاع، ويوم كانت الحروب تستعربين الأهل، والدّماء تجري، لم تعرف الحكومة إلى نهر جاسم طريقا. ظلّوا يتعاركون، ويتصالحون، يفتك بعضهم ببعض، ليتناسوا فيما بعد العداء، ورحم اللّه نوري السّعيد والزّعيم، ومن قبلهم من الحكّام ممن تجاهلوا الطريق الذي آذن بالمصائب، وأوّلها وصول الأمن إلى القرية.

كانت الدّاهية أوّل من يتجرّأ، من بين الرّجال والنّساء، فتزور بيت أبي مصعب. وجدت الأمّ والبنت تعيشان في عزلة. خشية الشّبهة. ابتعد الأقارب، ونأت المعارف، لكنّ خطوة الدّاهية فتحت الباب أمام النّساء الأخريات. لم تدفعهنّ هذه المرّة الشّماتة، ولا الفضول. بدت أمّ مصعب تحتفظ بتوازنها، وهي تستقبل كلّ زائرة بجملتها المعتادة:

ـ لا أدري أيّتها الحبيبة ماذا فعل أبو مصعب حتّى يحدث له ما حدث!

ـ يمكن أن يكون الأمر مجرّد اشتباه.

ـ لكن ألم تعرفوا مكانه إلى الآن؟ لاأدري!

ـ سيخرج بإذن اللّه!

الدّاهية وحدها تعرف كلّ شيء، فهي التي رأت ما لم يره أحد، فلا فرق في الزّمن. رمضان هو تمّوز، وقد عادوا في البدء من دون وجوه، حتّى وقعت الضربة في الرّأس، ومن كان على جهل أدرك أنّ هناك شيئا ما، نطق عنه حال عبد العليم الذي رجع من المعتقل بعد أسبوع بشكل آخر. شبح. هيكل. وجه أصفر. سحنة حزينة. كان متحفّظا في كلامه، كأنّما يزن عباراته بميزان، والرّجل الوحيد الذي لم يزره هو ابن الرّوّاس إذ ردّ على اعتراض الدّاهية قائلا بتهكّم:

ـ حين انقلب القوميّون على البعثيين وأرسلوهم إلى السّجن استقبلهم الشيوعيون وهم يغنون: سبحان الذي جمعنا بغير ميعاد، وهاهم الشّيوعيون بصفتهم خميرة يستقبلون القوميين بالتّرحاب ذاته، وذاكرتي تعي يا داهية اليوم الذي ذهب فيه عبد العليم إلى الحدود مع رجال الأمن ليعود بشاحنات من السّياسيين الهاربين الذين سلّمهم الشّاه إلى انقلابيّ رمضان!

ـ مهما يكن من أمر يا ابن الرّوّاس فإنّ أبا مصعب ابن نهر جاسم.

ـ سامحك اللّه يا داهية!ألم يقاتل أهل نهر جاسم بعضهم بعضا في الأيّام السالفة قبل أن يختم أيّ نزاع صلح آل النّمر وبيت الحاج عبّاس!. نحن فاسدون من البيضة أساسا.

ليس جديدا ذلك على الدّاهية، لكنّ الضربة، هذه المرّة تأتي من الدولة، فكيف نقدر على أن نقف بوجه المخابرات، وهاهم يصلون إلى أجمة الخنازير المهجورة، ويحشرون أنفسهم بين المستنقعات، فتصغر كالحلزون، وتكبر نهر جاسم خلال شهور وسنوات، ولا أحد يعرف ما يخبّؤه له القدر. كانت الدّاهية تنطق عن حكمة إذ زجرت ابن الرّوّاس، فقبل أن يصمت، آذى بسخريته السّيد عبد العليم:

ـ مادامت المصيبة في بيت جارك، فاحسبها في بيتك.

ذلك ما كانت تخشاه، فبعد سنة على اعتقال عبد العليم ، تعرّضت تركة المرحوم الباشا لهزّة، واضطرّ المراقب نفسه، بعد فترة، لأن يلتزم الصّمت. كانت الدّاهية تهمّ أن تطرح أمامه موضوعاعن شراء سيّارة أثاره الغالي، فسكتت عنه فترة ثمّ أقرّت صوابه. ذلك الوقت كان عبد الغالي في الثالثة عشرة من عمره. صبيّ، مراهق، مدلل، ابن باشا، ذو طموح يفوق الحدّ. ينظر إلى نفسه، والآخرين، فيجد فروقا كثيرة. هم الأغنى. والدته من ذوات الأملاك، وربّما شجّعه حسن من غير أن يتعمّد على أن يرى الآخرين أقلّ منه. كانا لا يفترقان طوال اليوم اللّهمّ في الجمع والعطل. ينهضان مع الفجر ينتظران على الطريق مرور أيّة سيّارة إلى التنّومة حيث المدرسة المتوسّطة، ولم تكن هناك من وسيلة في أثناء المطر إلاّ الزّورق، وربّما بدا للصبيّ أن يفكّر بطموحات أكبر من سنّه، ومن حسن حظّه أنّ حسن اجتاز معه المرحلة الابتدائيّة وانتقل إلى المتوسّطة، وإلاّ لأحاطت به الوحدة وسط مجتمع غريب يبدو فيه تبدّل الدوام بين فترة الصّباح والظّهر من أثقل الأمور التي يكرهها الاثنان حتّى قال حسن ذات يوم عن حسن نيّة:

- حين كنّا في الابتدائيّة كانت هناك عربة تقلّنا إلىالمدرسة

تستوقفه العبارة . لحظتها ذهنه مشغول بسيّارة فارهة يقودها ابن الرّوّاس، ومجرّد أن يبلغ الرّشد يقودها بنفسه. كان لا يباشر الدّاهية بطلب لا خوفا من أن تردّه بل اعتاد أن يطرح كلّ مطالبه أمام الأمّ الكبيرة:

- يا أمّي الحاجّة نحن أغنياء، فهل من المنطقيّ أن يدخل ابن الحاجّة الكبيرة والداهية نجل النمر الباشا الزحام مع آخرين على حافلة قديمة كلّ يوم ليصل إلى المدرسة!

ـ آل العطبي أغنياء. السّيد عبد العليم. آل عبد العليم. آل فلان الفلاني وفلان، مع ذلك يركبون سيّارات الأجرة، ويدخلون الزحام على الحافلات، يا ابني يا عبد اصبر حتّى تبلغ سنّ الرّشد، وتعفى إن شاء اللّه من العسكريّة، تستطيع حينئذ أن تتولّى الإشراف على أموال والدك، أمّا الآن فمازلت قاصرا والطريق لمّا يعبّد بعد، فما نفع السّيّارة إذا ما أمطرتالسماء، وقد يظل الطين يعرقل السير عدّة أيّام.

ـ يا أمّي الحاجّة الطّريق مثل قصّة عنترة لن ينتهي، ولن تعبّده الآن أو في القريب البلديّة، معنى هذا سوف لن نشتري سيّارة إذا انتظرنا أن يعبّد الطّريق.

ـ ما من شيء إلاّ وله نهاية.

ـ إلاّ الطّريق يا أمّي الحاجّة.

وبعد صمت وتأمّل:

ـ وماذا عن عيون النّاس؟لماذا نلفت إلينا الأنظار؟

ـ أنت كلّميها فقط.

ـ قل إن شاء اللّه .

والحقّ إنّ الدّاهية وجدت الصّبيّ محقّا في طلبه. كأنّها استفاقت من ماض بعيد فرض جذوره عليها وعلى الأغنياء الآخرين، فلم يتخلّصوا منه لحدّ الآن. أيّام الباشا والجلبي لم يكن هناك من طريق، فلجأ الأهالي إلى طريق البرّ أو الزوارق عند هطول المطر، ويبدو أنّ ذلك التّقليد استمرّ، فأعرض الأغنياء عن أن يشتروا سيّارات، ولم يتحرّج أيّ منهم أن يستقلّ الحافلة الخشبيّة أو سيّارات الأجرة، متجاهلين أيّ إزعاج يسببه لهم زحام الطّريق، مع ما يصحبه الفلاّحون من سلال أو طيور في بعض الأحيان خلال رحلتهم إلى المدينة. كانت الدّاهية تنتبه إلى إلحاح عبد، وطلبه الجديد المفاجئ. لقد فكّرت بسيّارة صالون للمكبس، بالوقت نفسه تنفع في نقل عبد إلى المدرسة. الخبر نفسه رسم الارتياح على ملامح ابن الرّوّاس على الرّغم من أنّه لم يقد أيّة سيّارة منذ أنهى الخدمة الإلزاميّة زمن الملك، لكنّ الحكمة التي نطقت بها الدّاهية أمام المراقب، وهي تحذره من أن يشمت بالسّيد عبد العليم، أكلت حلم الصّبيّ، وطموح المستقبل، ففي الأسبوع الذي طلبت الدّاهية منه أن يتأهّب لشراء سيّارة، حضر أولئك الأشخاص أنفسهم أو هم آخرون يحملون المهمّة ذاتها. الضّحى أو العصر، أو أيّ وقت آخر لا يهمّ. المهمّ الأبصار تنظر، والأفواه، في اللحظة ذاتها، لا تجرؤ على السّؤال. المهمّ أنّهم جاءوا، يستدعون ابن الرّوّاس للذهاب معهم. في البداية كلّ شيء غامض مثلما تتيه نظرة حائرة في ضباب كثيف، ثمّ بعد حين، وعندما لم يرجع قبل أن تغرب الشّمس، تبيّن للقاصي والدّاني الخبر اليقين. شيء ما مبهم تكشفه الأيّام، وهناك حصّة لنهر جاسم في القضيّة. الصّخب ينفجر من جديد. الشّمس تطلع في سماء بغداد ذات يوم بصفرتها الشّاحبة. وتظهر لوحة غريبة. أيّام زمان ولّت، وولّى معها ربيع الجواسيس حيث يسرحون ويمرحون، والرّئيس ذو الوجه السّلحفاة يطلّ من الشّرفة يردّ على صخب المتظاهرين:

ـ إعدام الجواسيس.

ـ الموت.

الحكومة أعلنت عن اكتشاف شبكة للتّجسس في البصرة. الشّيوعيون يستبشرون للخبر. بارجة روسيّة كانت ترسو في شطّ العرب التقطت أجهزتها إشارات مشبوهة تصدر عن جهاز رادار مزروع في برج إحدى الكنائس بالعشّار. ربّما يبدو الأمر أقرب إلى الواقع، بصيغته التي شاعت على ألسن النّاس. أمّا ما يهمّ نهر جاسم، والدّاهية بالذات، فهو أنّ أحد المتّهمين في الشّبكة المزعومة يهوديّ كانت عائلته تسكن في يوم ما نهر جاسم. وهو شريك الباشا المرحوم في مؤسّسة النقل البحريّ. الحقّ لم ترد أيّة إشارة أو تلميح عن الباشا، أمّا ابن الرّوّاس فإنّه استدعي بصفته شاهدا يعرف أدقّ التّفاصيل عن المكبس والنّقل البحريّ، وحياة الباشا وابن لاوي، وقد يكشف التّحقيق معه أيّ ملف أو خبر قديم عفا عنه الزمن ربّما ينفع الدّولة. ومثلما سرت أقاويل عن عبد العليم أيّام اعتقاله، ذاعت تخرّصات، وحكايات كثيرة عن ابن الرّواس. كان حلقة وصل بين اليهوديّ ابن لاوي وأعضاء الشّبكة، ولكي يبعد عنه الشّكّ ويطرد العيون، راح يغطّي على عمله بالنّكتة، والضحك، وحسب أهل الفطنة أن يشكوا فيه من قبل، وقد دفع اللّه ما كان أعظم. منذ اليوم الأوّل للثورة استهزأ بها، كان يقول كنّا قبل الثّورة نحفر طويلا في الأرض. مائة متر. أكثر، ألف متر، حتّى نجد النّفط بالكاد، أمّا الآن فمجرّد أن نضرب المعول بالأرض، وإذا بالنّفط ينبجس من الأرض. خائن. جاسوس. بينما الجيش على الحدود في مواجهة قوّات الشّاه قدّم خرائط تفيد العدوّ. نقيب في الموساد. غاب ولا أحد يعرف له خبر. مظاهرات يشترك فيها شيوعيون تطالب بإعدام الخونة، ومع كلّ خبر وصيحة يهبط قلب أمّ الرّوّاس، فتلوذ بالدّاهية وتقول على سذاجتها:

ـ هؤلاء هم الذين كان يتألم لهم عام 1963.

وليس بإمكانها أو الدّاهية، مهما أنفقت من مال، ولجأت إلى الوساطات، أن تعرف أين هو. الضابط الذي حضر لصحبته مرّ بأمّ الرّوّاس، وسألها الكفّ عن زيارة أيّة دائرة حكوميّة للسؤال، أو الحديث مع أيّ كان، وبدا أنّ المراقب بعيد عن الشّمس والنّور. التّحذير منع زوجته من مجرّد التّفكير بزيارة فتّاحي الفال أو السّحرة، فأسلمت أمرها للّه بانتظار المعجزة، وهي تسمع عن زوجها كلّ يوم حكايات أيسرها عقوبة الإعدام للجواسيس، أو نكتة لشامت عن بكتريا بطول السّبّابة نمت في رطوبة الزّنزانة، وعشعشت بين أصابع رجليه. وفي ظنّها بعد كلّ ما قيل من إشاعات أنّه نقل إلى سجن ببغداد، ليكملوا التّحقيق معه، لكنّه على الرّغم مما قيل، وعلى الرّغم من قسوة الأقاويل، والحكايات المختلقة، لم يُعذّب. من حسن حظّه أنّه رأى كلّ شيء بعينيه قبل أن ينبس ببنت شفة. لقد أدرك معظم الأمور من دون أن يرفّ له جفن. ربّما كان يرحل مع الجنّ والنسور، والعبيد السّود أشباه الجنّ، كلّ ساعة، بل كلّ لحظة. مرّ بحوض يلتهم الأحياء. يذوبون فيه. غفا، وصحا على صرخات، وإذا بزمن حمده والنسر يشخص إليه عيانا من عهد قديم. يوم كان طفلا صدّق الحكاية، وتخيّل وجوه الجميع فيها، ثمّ أنكرها، وفي سرّه تشخص الوجوه من جديد حكايتك يا نهر جاسم تفصح عن نفسها. جثث وحدها من غير رؤوس، ورؤوس من غير جثث ترقص وتدمدم:

ما قلت لك ما قلت لك يحتيي ويقتلك

يا خالنا يا خالنا كلّ السّبب من أمّنا

أهناك زمن آخر للعذاب غير زمن حمده؟وكنت أنام فأرى في الأحلام النّسر يعذّب الرّجال، ويقطع النّساء. وعندما استفقت وجدت العبد ذا الشّفتين الغليظتين يصرخ عاريا:

ـ منذ زمان لم أنكح أحدا!ماذا سيدي الضابط؟هل تسمح لي أرجوك!أقبّل قدمك!

يا سيدي الضّابط:البارحة كلّها لم أنم. كان الرّأس المقطوع الذي ورثته عن الحكاية القديمة، يغنّي حولي، وسوف لن يُعمّر العالم هذه السّاعة على حساب خراب دبري، سأقول أيّ شيء شرط أن تأمر هذا العملاق الأسود ذا الشّفتين الغليظتين والمنخرين الشبيهين بمدخنة تجمّع فوقها السّخام، أن ينصرف عنّي بقضيبه الغريب، ومادامت الحكاية قد وصلت إلى هذا الحدّ، فلست معنيّا بتوافه الأمور. حياتنا قبل 17ـ30تمّوز كانت مركّبة من غلط في غلط، وها أنا اعترف عن نفسي، وليسقط كارل ماركس، والرّئيس كنيدي، وعنترة بن شدّاد، ومحمّد عبده، وجمال الدين الأفغانيّ، وهارون الرّشيد، والحجّاج، ومحمّد الفاتح، وسواهم ممن لا تحبّه، وعليّ أن أقول الحقيقة من دون أن تكون مؤخّرتي هدفا للخراب. لقد مات كلّ هؤلاء الذين ذكرتهم، واختلف النّاس إلى فرق، وأحزاب، فلِمَ ينجو الجميع على حسابي أنا!

ـ أنا على استعداد يا سيدي الضّابط.

صمت مطبق.

أين ذهب الضّابط، وفي أيّ مكان يختفي؟ العبد العاريّ. ربّما هو حلم بغيض، أو خرافة عشعشت في خياله، وتعسّرت عن أن تغادر إلى مكان آخر. لا يمكن أن يكذّب عينيه، وأذنيه. كيف اختفت الضّجّة، وتلاشى النّور، وأين ذهبت الشّمس، بل أين هو ابن الرّوّاس، وعلى أيّة بقعة من هذه الأرض الشّاسعة المترامية الأطراف يقف. عجيب أن تغيب الشّمس فجأة، والأعجب أن يحلّ ظلام مطبق، ولا صوت، ومن الممكن أن يتفق العالم على كلّ شيء، إلا أن يحلّ ظلام تام. وأن تختفي الضّجّة كلّها من الأرض بلحظة واحدة.

ومثلما اختفت الحياة، وتجمّدت، عادت فجأة هكذا، من غير ما مقدّمات. النّور الخافت توهج مثل خدّ مريض بالسّل. الحركة دبّت في مفاصل المكان. كم استمرّ الصّمت؟ والظلام كم امتدّ؟ لحظة. ساعة. شهرا. أكثر. أقلّ، ومع ذلك، مازال الآخرون ينأون عن الكلام معه، وقبل الوجبات، يطوف به شخص، غير الأسود الشّره، على أناس يعيشون الموت وهم أحياء، بأشكال مختلفة، فتنأى نفسه عن الطّعام، وكلّ ما رآه تكاد تضيق به غرفة معتمة أضيق من أنفاسه، فكيف حملته على راحتيها حكاية قديمة طوال تلك العهود، وكيف عادوا من جديد، وابن الرّوّاس على وشك أن يغادر المعتقل مغتصبا. سلم لسانك يا ابنة الوليّ، وسلم من سمّاك داهية، لقد سخرنا منك يوم ترحّمت على عبد السّلام إذ خلّصنا منهم. الحاج( مشن-سينالكو) كلّ المشروبات يمكن أن يجلبها له المحقّق شرط أن يكرعها من تحت، فقد اختفت النكتة ومازال طيفها يطلّ عليه في الغرفة المعتمة، وهناك نكات في الخارج تتكاثر كالأرانب وتروى عنه، وهي غريبة السحنة عليه، أمّا الحكاية التي سمعها كلّ جيل، بصيغتها التي لم تتغير طوال سنين، فإنّها تتجسّد الآن أمام عينيه. كانت يشمت بالسّيد عبد العليم، وكانت ملكة الليل تطلق عليك كلمة شيوعيّ لأنّك أحببت من دافعوا عن الزّعيم بغضّ النّظر عن أفكارهم، وعندما طرقت بابك الحسناء الشّقراء(روزا) وعرّفتك بنفسها تذكّرتها. ابنة (المستر دوسن) التي رحلت مع أبيها وكان عمرها ستّ سنوات. يا ترى كيف مرّت الأيّام بتلك السّرعة العجيبة. كاد الزّمن يغفو والأجيال الجديدة تنسى، فإذا طفلة الأمس تعود، وهي فاتنة حسناء، تطرق بابك كالطيف. . . حلم…لحظة عابرة. أتراها حنّت إلى مسقط رأسها؟استعمار. أنت استعمار. ليكن يا ملكة الليل، هاهو ابن الرّوّاس يرى مالا تراه عين، فكيف يكون يساريّا وانكليزيا بالوقت نفسه؟

ـ يا سيدي الضابط من سوء حظي أني اشتريت بيت (المستر دوسن ) قبل أن يترك نهر جاسم . ، ويبدو أنّ ابنته التي وُلدت في البيت ذاته، وحصلت حسبما عرفت على وظيفة في عبادان، دفعها الفضول أو الحنين إلى مسقط رأسها، ومربع طفولتها حيث قدمت إلى بيتنا واللّه العظيم، يا سيدي الضابط، جلست عند المسبح، وبكت، ولا علم لي لم جاءت… زجرة قاسية، ونظرة ساخطة:

ـ نحن نسأل ونستنتج، وعليك أن تجيب فقط.

ـ أمرك.

ـ ليس من أجل هذه الحكاية دعوناك، فقد رجعت بك إلى تلك القصّة من أجل التّذكير فقط لكي تعرف أنّا لسنا بغافلين عن كثير من الوقائع وإن تكن حدثت في غير عهدنا.

ـ أطال اللّه عهدكم فعليكم الأمر وعلينا السمع والطاعة.

النهاية حلّت يا ابن الرّواس. ماذا لو وصل إليه تشبيهك وجه الرّئيس بالسّلحفاة؟هل يكون أحد أولاد الحرام نقل اليه الخبر؟أنا أتحمّل الخطأ وحدي. ابن الرّوّاس كان غبيّا إلى حد ما حين ظهر هؤلاء وادعين في بداية أمرهم، فجعلونا نتجرّأ، ونطلق لألسنتنا العنان، وربّما اختلفت مع الدّاهية، لكنّي أتّفق معها الآن حول نهاية النّكتة. ولعلّ النكات التي أطلقتها حرّفت لتعني أناسا آخرين لا أقصدهم، والدّليل على ذلك أنّي اعتدت كما اعتاد غيري أن نؤرّخ للحوادث المشهورة بتواريخ مختلفة تنشّط الذاكرة ولا ترهقها. ، جدّتي، وربيباتها، وأمّي، والحاجّة الكبيرة، والكثيرات أرّخن لحوادث نهر جاسم القديمة بالخرافات، وأنا من طبعي أن أؤرّخ للحوادث المشهورة بالمعاني الغريبة، فعلى الرّغم من حبّي للزّعيم، فإنّي سمّيت ثورة 14تمّوز بسنة الأرنب إذ لفتت نظري أذنا الأرنب الطويلتان وأذنا الزعيم، هذا الحدث كان يمكن أن يقع في مصر لأننا نسمع كثيرا عن الملوخيّة بالأرانب، هناك حيث سمّيتها السّنة الطويلة لطول وجه عبد النّاصر. وظهرت في الجزائر سنة الغراب، فوجه ابن بللا أشبه بالغراب، أمّا سنة القضيب، وما ذُكر عن التّأميم العظيم، فلا أحد يجرؤ على الطعن فيه وأقصد نفسي أنا إذ لاسلطان لي على غيري، ثمّ ليست كلّ النكات من صنعي، قيل عن لساني أنّ لي قريبا في العشّار. ليس قريبا بالضّبط بل معارف دفعه الخجل ليلة زفافه أن يبحث عن حبوب مقويّة للجنس، لكنّ الغبيّ بدلا من أن يلتهم حبّة واحدة قبل دخوله على عروسه بساعات، تناول الزّجاجة كاملة، فانتصب قضيبه ولم يرتخ من ساعتها. ثلاثة أيّام في المشفى قبل أن يتمكّن الأطبّاء من إعادته إلى وضعه المألوف، الى هنا والخبر عاديّ يثير الضحك إذ قيل قديما شرّ البليّة ما يضحك، فقد قيل إنّ ابن الرّوّاس شفع زيارته بنكتة، وهو لا يدري كيف نسبت إليه. هذه ثاني حادثة عن العورة تخصّ أهل نهر جاسم، وإذا كانت الحادثة التي اعترت أمّ مصعب حدثت في زمن القوميين، فهل عجزت الثورة العظيمة التي تحدّت الإستعمار وصنعت المعجزات، وأممت النّفط عن أن تعالج مشكلة قضيب قريبنا أو معارفنا، أمّا السّلحفاة، ووجهها، فأقسم أنّي أطلقتهما على العهد العارفيّ الذي انقلب عليكم. أنتم سمّيتموها ردّة تشرين، وأنا حرّ في اختيار التسمية، أسمّيها السّلحفاة أو سنة البعير، إسألوا عبد العليم أبا مصعب الذي استضفتموه عندكم بضعة أيّام مثلي، لكن كيف انتقلت تسمية السّلحفاة من عبد السلام إلى رئيسنا الحاليّ، فأنا علّقت بيديّ هاتين صورته على الحائط. لعلّهم الشّيوعيّون، أو بعض القوميين، وربّما حسّادي ادعوا أني أعنيكم، فلهم بلا شكّ القدرة على التّلاعب بالألفاظ، ويمكن أن تعرفوا الحقيقة بأساليبكم الخاصّة، هذا إذا حملنا مشكلتي علىحسن نيّة، أما إذا أُوّلَت عن سوء فيمكن القول إنكم جدد في الحكم ولا أعرف هويّتكم فكيف أذكر بسوء من لا أعرفه؟

ـ سنسمع منك، إضافة إلى ذلك سوف تكتب كلّ شيء.

-أنا بأمرك ياسيديّ.

ـ تذكّر أنّ كلّ شيء تذكره ينفعك، وكلّ شيء تخفيه يدفعنا إلى الرّيبة فيك.

ـ اللّهمّ إلاّ النسيان !

صمت مرّة أخرى وسؤال مفاجيء:

ـ كم مرّ عليك في عملك بالمكبس؟

ـ عمر من عمر الفيضان الكبير.

أجل الملفّ سيفتح. ملفّ نهر جاسم كلّها. أيّة سنة هي البداية. لا يهمّ، غير أنّ الشّك يحوم في الصدر عن ساعة الختام. الباقون في القرية ومن هاجروا إلى عناوين مجهولة، ومعروفة. عمّن تريدني أن أتحدّث؟ الدّاهية صالحت عدوّها اللدود الذي قضى عليكم. ملكة الليل تعتزّ بجلدها الأسود، وتقرف من الأبيض لأنّكم من البيض، وآل فلان وفلان فيهم الشّيوعيّ والقومي والبعثي، والمتديّن أيضا، وإذا لم يكفك ياسيديّ ملفّ نهر جاسم فلي القدرة على أن أفتح لكم ملفّ البصرة. البلد كلّه من أعرفه، ومن لم أعرفه، وإلاّ فلم أكون أنا رأس الحربة والضّحيّة وحدي. العالم كلّه تحدّث عنكم بسوء. (صمت قصير خلاله راحت عينا الضّابط تحومان على وجهك، وفجأة يبرز سؤال):ماذا تعرف عن ابن لاوي؟

ـ رأيت بعينيك ماذا يحدث للآخرين الذين مكننا اللّه منهم.

كلّ المعادلة انقلبت الآن، ولمّا يتجل الإبهام بعد:

ـ ياسيدي كلّ ما أعرفه أنّ المرحوم ابن النمر شريك ابن لاوي في النّقل البحريّ، ومن واجبي إدارة المكبس اللّهمّ إلاّ إذا كلّفني الباشا ومن بعده حرمه بمراجعة الحسابات في شركة النّقل البحريّ.

ـ تقصد أنّ الدّاهية لاتتّصل مباشرة به.

ـ أبدا والحقّ يقال، فهي تثق بي ثقة مطلقة، عِشرةعمر، والمال الحرام لا يعرف الى فمي أيّ سبيل.

ـ حسنا(عينا الضّابط تخفّ حدّتهما قليلا، وتميلان إلى الألفة)عال، وماهي انطباعاتك عن الباشا؟

بيت القصيد. الدّاء الذي من أجله استدعيت، وكاد لسانك يفلت بأمور أخرى لو ثرثرت بها بعد أن مررت بمشاهد الموت، لأوقعت نفسك، ومن حولك بإشكال صعب والحمد للّه أنّ لسانك تريّث إلى هذه اللحظة:

ـ كلّ خير، لم أشكّ فيه قطّ، ولو ساورتني أيّة ريبة، فيما يخصّ الوطن لكنت أوّل من يخبر عنه، ويفارقه إلى حيث لا لقاء.

أسبوعا كاملا الأسئلة ذاتها تتكرّر. ينام. يصحو. يرى سائلا يبتلع الأحياء. يدخل زنزانته، وبرفقته حزمة أوراق. يكتب. المشاهد تسطع من زمن الجنّ والنّسور، وخطف حمدة. ألم يقل له الضّابط أنّ كلّ معلومة حتّى وإن كانت تافهة يمكن أن تنفعنا. ثمّ إنّ السّيد الضّابط أكّد له أنّهم أحضروه بصفته شاهدا وليس متّهما، فرأى مشاهد العذاب، ولم يطله عقابها، وقبل أن يخرج حذّره الضابط من الكذب. مادام مخلصا إلى هذه الدّرجة للباشا، وحرمه، فالوطن أحقّ به، والذي لايخون ربّ عمله لايخون وطنه، فما على ابن الرّوّاس أن يترك عمله ياداهية يابنت الوليّ، إفهمي بالإشارة، وإن كان لك صدر يحفظ السّرّ، فاعلمي أنّي سوف أصمت، وكأنّك لم تسمعي أيّة همسة خفق بها صدريّ.

والواقع لم تترك الدّاهية عائلة المراقب فترة اعتقاله. كانت تزور أمّ الرّوّاس كلّ يوم، وأبدت استعدادها لأن تتحمّل أيّة نفقة، وتبعات، بالوقت نفسه اندفعت بشجاعتها المعهودة تتصدّى لأيّة إشاعة تخصّ المراقب، بل كانت تدعو له في الضّريح علنا بحضور الزّائرات.

كان إطلاق سراح ابن الرّوّاس مفاجأة للقرية كلّها، لأنّ الحكم على المتّهمين لمّا يصدر بعد، وبدا لمن لم يمارس الإشاعة بحقّ المراقب أنّ حدثا غريبا التفّ حول القرية. المراقب ثاني شخص من أهل نهر جاسم يصبح قيد التحقيق مدّة طويلة لأمر سياسيّ. هناك أمور نجهلها وتعرفها بغداد، وحين دخل النّاس في تفصيلات الشّبكة معتمدين على الإذاعة، وتأييد الشّيوعيين، ازداد الوضع تعقيدا، فكثير منهم لم يصدّق الخبر خاصة الجيل القديم من أتراب الدّاهية والحاجّة، على أنّ نجاة ابن الرّوّاس كانت العلامة الأكثر سطوعا في إثبات براءته من كلّ عيب أُلحق به في المعتقل، وخلال الليالي التّالية، تابع أهل نهر جاسم، شأن كلّ العراقيين، محاكمات بغداد، وفي آخر ليلة من ليالي المحكمة، أذيع قرار الإتّهام. كانت الدّاهية أكثر المتضررين، فقد صادرت الحكومة أموال ابن لاوي، ليشمل الضّررشركة النّقل البحريّ التي يملك الباشا ربعها، وحسابات مالية أخرى. من دون أن تفصل السّلطة أموال الشّركاء، وليس ببعيد أن يخطر ببالها سعد النّمر شقيق الباشا الذي سطع نجمه بعد الإنقلاب، وأصبح من عداد أصحاب الملايين. ثمّ طردت الخاطر من ذهنها تماما. كان سعد يزور القرية لماما بعد وفاة الباشا، وبمرور الأيّام انقطعت زياراته تماما خاصّة عندما شاركه في التّجارة مسؤولون حزبيّون، وعسكريّون، وصار المحافظ نديمه وصديقه، وفقما يتهادى إلى سمع الدّاهية من أخبار. وعندما انتشرت حكاية الشّبكة، وأوشك النّقل البحريّ على الضياع لم تبدر منه أيّة محاولة للاتّصال بالدّاهية، والتّدخّل لإنقاذ مايمكن إنقاذه. كان عليها أن تنسى الأمر تماما، فالمسألة تتعلق بالتّجسّس، وأياد أجنبيّة تعمل لهدم الدّولة، ولاغرابة أن ينأى ثعلب مراوغ مثله بنفسه عن الموضوع، وقد يتنكّر للداهية ويسمعها مالم يجرؤ أحد على النّطق به. كانت كرامتها فوق أيّ اعتبار، ولاتريد أيضا أن تسيء إلى الباشا الذي رفض أهله وخلع نفسه منهم. وعلى الرّغم من أنّ أصابع الإتّهام لم توجّه إلى الباشا، أو يذكر اسمه بسوء إلاّ أنّ الدّاهية أعرضت عن رفع أيّة دعوى للاستئناف حول الفصل في قضيّة النّقل البحريّ، خشية من أن تفتح عليها بابا يصعب إغلاقه، فخصمها في هذه الحالة الدّولة ذاتها، ولا أحد له القدرة في مناطحة الحكومة التي تملك قرونا من حديد، وأمامها الموت الذي أبصره المراقب على بعد خطوات منه في المعتقل، يتوزّع في البصرة وبغداد.

كان فجر ذلك اليوم يستوعب كسفينة نوح خلق الله المتّجهين إلى ساحة صغيرة يحيطها سياج واطيء من قضبان حديديّة. ذلك الصّباح وجد عبد وحسن المدرسة تغيّرت تماما عمّا هي عليه كلّ يوم. شأن آخر، ووضع غريب. القسوة انمحت من وجه المدير. أشبه للطلاب بالصديق. المدرّسون كخليّة نحل، وحين اصطفّ الطلاب في السّاحة العامّة، واتّخذ كلّ مدرس موقعه أمام تلاميذه، تحدّث المدير مباشرة من دون مقدّمات: منذ سنوات والجواسيس يعيثون فسادا في بلادنا. نشروا أسرارنا لإسرائيل، وتكاثروا تكاثر الصّراصروالذباب حتّى كدنا نراهم في بيوتنا، واعتقدنا أنّهم مدسوسون بيننا، ومع إطلالة العهد الجديد انتهى عهدهم، ولكي يكون ذلك عبرة لذوي النّفوس الضّعيفة نراهم اليوم معلقين في ساحة أمّ البروم. قاطعت مجموعة كلامه بالهتاف، واجتاح الحماس حسن فهتف مع الهاتفين. على خلاف المعتاد أعجبت اللعبة التّلاميذ، ثم نزلوا إلى الشّارع. هناك عبر النهر، عند ساحة أمّ البروم، يرقد الموت بشكله الغريب. سوف يرونه عن كثب. موتى معلقون بالحبال، وحين سار الموكب، وابتعد عن المدرسة، إلى النهر زاد الحماس، وارتفعت الهتافات، في الزّحام ترك حسن عبد، وانضمّ لجماعة الهاتفين، لينطّ على الأكتاف، ويزعق بالهتاف حتّى لاح لعيني عبد عرق رقبته يكاد، وهو ينتفخ من الزّعيق، يفلت من جلده. وخلال المسيرة تسلل بعضهم، وكاد عبد يهمّ بذلك، لكنّه تذكر تأكيد الدّاهية في أن لايبدي أيّ تصرف يلفت النظر، ثمّ إنّ والده صديق اليهوديّ المعدوم وشريكه. مهما يكن فلابدّ من المجاراة:

ـ ليت هذا يحدث كلّ يوم فنرتاح من الدّروس.

قال ذلك حسن حالما نزل من الأكتاف، وعاد يلتقط أنفاسه. حلم واسع ينبسط أمام عينيه. ماذا أخسر إذا انضممت إلى الإتّحاد الوطنيّ. بعض الامتيازات. . سفرات. . رحلات. الأمر أشبه بنكتة يا عبد، ولن نخاف من انقلاب جديد، فيحدث لنا مثلما كان مع السّيد عبد العليم. كلّ النّاس يقولون جاء هؤلاء ليبقوا، مثلما هو عليه حالتهم في سورية التي مازالوا يحكمونها الى اليوم، ثمّ إنّ أيّ انقلاب جديد لايستطيع أن يزجّ الناس جميعا في السّجون:

ـ للمرّة الأولى أرى ميّتا حقيقيّا بأمّ عينيّ.

على الشّطّ كانت الأجساد تتراقص مع الأمواج، كأنّ سورة المياه الهائجة أضفت على النّفوس مزيدا من الحماس، واختلط الهتاف بصوت المحرّك، ثمّ بعد دقائق ابتلعت الضّفة الأخرى أمواج البشر المتلاطمة من مختلف النّواحي. نساء. أطفال. شيوخ. عمّال. موظفون. طلاب. كأنّ البصرة تقيّأت كلّ أبنائها باتجاه ساحة أمّ البروم التي اعتادت في يومها الهاديء المنبسط مع نهاية الظّلمة وإطلالة فجر يوم جديد أن تلبس حلّة أخرى تطلّ بها على المدينة، فتفتح مطاعمها، ودكاكينها، وعربات الباعة المتجوّلين، فتنبسط أوانيها، وقدورها، وتجذب روائحها العمّال والجنود المبكرين، فيتحلقون حول الصّحون وهم واقفون أمام العربات، أو في المطاعم يلتهمون رؤوس الخراف المسلوقة، وأرجلها، ثمّ يغادرون السّاحة من دون صخب قبل حلول الموت في السّاحة بساعات. يحيا العراق. الموت للخونة. والعيون تتعلّق، تلك اللحظة، بالمشهد المثير الذي يمتدّ إلى الأعلى:جثث مزرقّة. ملابس حمراء. كانت عينا عبد تلتهمان الحبال، والأعواد، وتغيب أذناه عن الأصوات، ثمّ تعود حواسّه الأخرى من إبحارها في صورة الموت المرتسمة أمامه وسط الصّخب. ربّما هو صوت حسن أو أيّ متظاهر آخر قريب منه:

ـ مسلم مسيحيّ يهوديّ كوكتيل.

عاش العراق. يسقط الخونة. لم يجرؤ على أن يقترب من السّياج، كما لو أنّه يخشى أن يلمس الجثث. وفي لحظة ما فكر أن ينسلّ، لكنه خلال اللحظات الأولى تردد، وخانته حواسّه، وهي تذوب، وتتلاشى مذهولة في الضّجيج والحماس، أو خيّل إليه أنّ أحدا يراقبه حين يولي عن المكان. كان يتسلل، فيلتفت إلى الوراء كلصّ، وفي عينيه صورة ذكرتها الدّاهية، عن البصرة القديمة، وحادثة إعدام، فيرى الأصوات أخفّ، والعدد أقلّ عند السّاحة ذاتها التي تعلّق فيها على الأعواد، ثلاث جثث اليوم. ولولا أنّ الآذان كانت مشدودة إلى المذياع لما ذكرت الدّاهية إعدام يهوديّ في أمّ البروم زمن الوصيّ، فلم تقذف المدينة أحشاءها باتجاه أمّ البروم، كانت وادعة أليفة ألفة الحمام، ثمّ تذكرت، وأعرضت عن التفاصيل خشية من أن يفلت لسان عبد. ومما زادها انقباضا أنّها كانت مع القمر وجها لوجه. هبّت من نومها، وكان الجوّ رائعا، وصامتا، والأغرب من ذلك هدوء الحيوانات في الحضيرة. الصّمت، وصفاء السّماء. قيل إنّ الخسوف يكون مدمّرا إذا رافقت هالة القمر حمرة داكنة، ومن العجب أنّ النّاس لم يتذكروا الخسوف إذ شُغلوا بالشّبكة والمشنوقين، وبدا أنّ القمر ذاب وحده تلك الليلة الصّافية فهجره النّاس. ولعلها نسيت أن تذكر الأمر فيما بعد. كانت تخشى أن تُؤوّل كلماتها إلى معان، وتُحمَّل أكبر ممّا تستحق، فخالطها يقين أنّها عاشت بكلّ مشاعرها حلما من أحلام اليقظة، فاستحوذ على مشاعرها إلى درجة أنّها ظنّته واقعا، وإلاّ كيف تكون آلام الطلق وصراخ المخاض، والطبيبة قريبة ابن لاوي تزرقها الأبرة فتسهل بإذن الله الولادة لم تكن بالطّبع لتعلم أنّ بعض الجثث سيعلّق في أم البروم، وأنّ من بينها جثّة ابن لاوي حتى أبصرت أمامها عبد، والوقت لمّا يزل مبكرا عن نهاية الدّوام:

ـ ماالخبر هل هناك من شيء؟

ـ الدّروس ألغيت وعُطّلت المدرسة بسبب المشنوقين.

ـ هل أعلنوه يوم عطلة؟

ـ أنت غبيّة. ليس كلّ سنة اليوم فقط. ( قال يجيب على سؤال ملكة الليل، ويلتفت ثانية إلى الدّاهية):المدرّسون رافقونا إلى ساحة أمّ البروم لنرى المشنوقين بأعيننا.

الدّهشة سرحت بها، وراودها غيض، لجمته، لتتساءل بنفور:

ـ أطفال ويصحبونكم إلى مثل هذه المشاهد.

ـ أطفال؟! يا داهية نحن رجال. أنا رجل البيت.

ملكة الليل تعترض ساخرة:

ـ العتب على المعلمين.

ـ مدرسون يا ملكة الليل. المعلمون في الابتدائيّة. !

ـ ليكن الزفت نفسه، هؤلاء عبيد مأمورون، هل عدت مع حسن؟

ـ لم تنته التظاهرات بعد وحسن اختفى عنّي وسط الحشد. (ثمّ وهو يهزّ كتفيه) هي كلها ضايعة.

ـ كان من الأفضل أن تبقى.

كانت ذاكرة ملكة الليل تعود إلى مساء ما، وهي صبية، ذهبت مع عبيد الباشا إلى طريق البرّ لتشاهد فيلما من سينما متجولة في سيّارة :

ـ أين يبقى. هل هو فيلم؟ مرّة واحدة حضرت ذات ليلة سيارة تحمل سينما متجوّلة، فهبت نهر جاسم كلها باتجاه الباحة في طريق البرّ: عجيب أمرك ياداهية! -

ـ كان عليه البقاء مادام المدير والمعلمون هناك، فقد يفتقدونه، ويدخل في سؤال وجواب.

 

د. قصي الشيخ عسكر

.........................

فصل من رواية: نهر جاسم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم