صحيفة المثقف

ديني لنفسي ودين الناس للناسِ

رائد جبار كاظمكثيرة هي المواقف التي تواجه الانسان في حياته اليومية باختلاف الالوان والاشكال والطبيعة البشرية، والحكيم والعاقل من يواجه تلك المشكلات والمواقف بوعي تام غير منفلت، دون عراك أو قتال أو عنف أو أدلجة، وبموضوعية تامة مجردة عن كل أنانية ومصلحة ذاتية مطلقة، بقدر طاقة الانسان ووعيه اللطيف المتأني، كي يضبط ميزان تفكيره ووعيه وطريقة تعامله مع الناس والحياة بصورة دائمة لا تؤذي نفسه ولا خصمه، عن طريق حوار عقلاني هادئ يؤمن بالاختلاف والتنوع وحق التفكير والتفسير والتفاهم الانساني المشترك، بعيداً عن منطق التكفير والارهاب والدمار، الذي يجعل عملية التفاهم والتحاور مستحيلة بامتياز، وعلى اثرها يخسر الانسان كينونته وحياته وعلاقته مع الآخرين والكثير من الاشياء في هذا العالم الرحب. ومن تلك المواقف التي يتعرض لها البعض هي قضية التشكيك في تدين البعض ممن يقفون موقفاً نقدياً من الدين والمتدينين، فحين يَقدم شخص ما على تقديم موقف نقدي وتجديدي واعي من الدين ومشكلاته من المفكرين والمثقفين والدارسين يتعرض له الجمهور بالطعن والتشويه والتكفير، وكأنه خرق قانوناً سماوياً أو أرتكب جرماً بحق الانسانية، ولا يعرف الجمهور والعامة ان المشكلة تخص فهمهم وعقولهم القاصرة التي ألفت الجمود والتقليد، ولم تجدد وعيها وفكرها وتخرج من قمقمها القديم، لتقديم صورة جديدة وواعية عن الدين بدلاً عن تلك الصورة المشوهة والزائفة التي يتمسك بها الكثير في الدفاع عن النمط التقليدي للدين، الذي ملأ الأرض شرقاً وغرباً، وتلك المسألة لا تخص المسلمين فحسب، بل تخص المتدينين عموماً ممن دأبهم اتباع دين معين للدفاع عنه وعده الدين الوحيد الذي يجب أن يتبع، وغيره باطل ومزيف من الأديان والمعتقدات، وهذا ما جعل الشعوب تتقاتل فيما بينها للدفاع عن معتقداتها ونشر دينها بقوة السيف والنار والحديد.  

كنت قد مارست التدين بطريقة عفوية وبصورة تقليدية بحتة قد ورثتها من المجتمع ومن المحيط الضيق الذي أعيش فيه، متأثراً مثل كثيرين غيري من أبناء جيلي ومحيطي بالتوجه نحو الصحوة الدينية التي غمرت الكثيرين في فترة التسعينيات من القرن الماضي، وكنت قد أنتقلت من التدين العفوي الأسري الفطري البسيط زمن الطفولة الى التدين الصحوي الجماعي وقت الشباب، من خلال الاصدقاء والمسجد وممارسة العبادات وقراءة الكتب الدينية الممنوع منها والمسموح به، وخاصة ما كان يتم تداوله بين الشباب من كتب مصورة يتم أستنساخها في المتنبي في بغداد أو في النجف وكربلاء بالخفاء، خوفاً من أعين الرقباء، ومن هذه الكتب المقروءة الكتب العقائدية التي تحفز وتدفع الشباب والقارئ للأيمان بدينه ومذهبه دون غيره من الاديان والمذاهب، مما تجعل الشخص يسير باتجاه واحد فقط لا يحيد يميناً ولا شمالاً، وتلك الكتب العقائدية والدينية لها تأثير سحري كبير على من يقرأها، مما يجعل الشخص ممن بعمر الشباب سريع الذوبان فيها دون تفكير أو مراجعة أو نقد ما، فهو مؤمن أيمان تام ومطلق ان ما جاء في تلك الكتابات هو عين اليقين لا جدال فيه ولا نقاش، لأنه مسدد بالحجج والبراهين الدينية والعقلية المذكورة في تلك المؤلفات.

وقد أنتجت تلك الحقبة من الصحوة الدينية تياراً واسعاً من الجماهير المتدينة ممن تسير خلف قادة وزعماء وفقهاء دين تدعو لنفسها ودينها ومذهبها، ومن يخالفها فهو في شك من أمره ودينه وخارج عن ملته، وقد سار على ذلك قطاع كبير من الناس مندفعين بعاطفة قوية لا تقف أمامها اي قوة تواجهها وتثني عزيمتها، ما دام تلك الجماعة تعتقد بصحة ما تسير عليه وتمارسه، دون وجود وعي ديني وعقلاني يشخص الصح من الخطأ من الأمور، ويدعو الناس لكشف الزيف القابع وراء بعض تلك الحركات والدعوات في الكثير من العالم العربي والاسلامي، وبيان أن هناك مؤسسات كبيرة منتفعة من تلك التوجهات، وتوضيح المخاطر الاجتماعية والحياتية والفكرية والثقافية التي ستؤدي بالمجتمعات وأحتقانها ودمارها المستقبلي، من خلال الاقتتال الطائفي والمذهبي والصراع الفكري والاجتماعي بين الاديان والقوميات والمذاهب.

بالنسبة لي شخصياً قد وعيت اللعبة متأخراً، وغادرت ممارسة الكثير من الأفكار التي كنت قد تبعتها في فترة الشباب والمراهقة، لأنها كانت تجربة ثقيلة ومتعبة وشاقة جداً وتعيق وتعوق الانسان كثيراً، وكنا في تلك الفترة قد توجهنا توجهاً أيديولوجياً بامتياز، وكنا كحراس دين الله والناطقين باسم الشرع بصورة مستميتة لا تخضع لمنطق وعقل تماماً، وتلك فترة عمرية وفكرية متشنجة ومتفجرة لا تؤمن بالتنوع والاختلاف والآخر تماماً، وهذا كان بفضل تلك الكتابات والصيحات الضيقة التي صفق لها الكثير، وكنا حطب ووقود تلك المرحلة، ولذلك تقوم الحركات الدينية بجذب الشباب وكسبهم في مرحلة عمرية شبابية مبكرة، للسيطرة عليهم ولممارسة غسيل الدماغ وتوجيههم الوجهة التي تريد، وهذا ما شهدناه مؤخراً من خلال ظهور الحركات التكفيرية والأصولية التي مارست تلك الأساليب بصورة كبيرة على الشباب في العراق وفي العالمين العربي والاسلامي.

ومما يؤسف له أن ذلك التوجه الطائفي والديني في فترة الثمانينات والتسعينات قد أتسع بصورة كبيرة من خلال الجامعات، التي يعدها الكثير ميدان التوجه الحقيقي للكسب والانتماء للأحزاب والحركات الدينية الاسلامية، في داخل العراق وخارجه، من خلال بث الافكار والدعاة والنشرات الممنوعة، وينجذب الشباب عاطفياً وبقوة للأيمان بتلك الافكار وللدفاع طوعاً وبالمجان عن تلك العقائد، مما أودى بحياة الكثير من الشباب من رجال ونساء وخسر البلد طاقات بشرية كبيرة من خلال حملات السجن والاعتقالات والاعدامات والتعذيب التي مورست في زمن النظام السابق، وعدم السماح للناس بممارسة حرياتهم الدينية والفكرية المتاحة وفق قوانين حقوق الانسان.

والحمد لله على المستوى الشخصي استطعت التحرر وبصورة واعية ومتدرجة من بعض تلك الافكار الزائفة والمميتة والمتشنجة التي تبيد الانسان والمجتمعات، والايمان الكبير بقيمة الانسان اينما كان بمختلف معتقداته وثقافته والوانه، لأنني أدركت أن الرسالة الحقيقية للأديان هي رسالة السلام والمحبة والتسامح، وعدم الاقصاء والتكفير والارهاب، ورسالة الدين هي أن تصلح ذاتك أولاً وأن لا تتهم الآخرين بالخروج عن الدين والملة والاعتقاد، وللإنسان حق الاختيار لكل طريق يسلكه، ما دام له عقل وفكر ومشاعر وحواس مستقلة بذاته عن غيره، وكما قال تعالى : " لكم دينكم ولي ديني " وأن الله يحاسب المرء بصورة فردية على ما يعتقد وما يؤمن به، ما دام خلقه مسؤولاً يحمل أمانة في عنقه وهداه النجدين، فلماذا أذن نتشنج ونتزمت في الكثير من أمورنا في التوجه نحو الدين والمتعقدات والافكار، وأن نتأدلج بصورة مقيتة نخسر من خلالها الكثير، ونتخاصم مع غيرنا من بني البشر، متذرعين بذلك اننا ندافع عن دين الله وطالبين هداية البشر وتوعيتهم نحو الطريق الصحيح، متناسين القوة الكبيرة ليد الغيب في تحقيق تلك الرسالة وأن الله تعالى كما قال في كتابه صادقاً لرسوله الكريم (ص): " انك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء "

وذلك ما جعل الكثير من العرفاء والصوفية يسيرون بطريق النقد والتحرر من الافكار التقليدية الزائفة التي نشأوا عليها في الصغر، وأن يصححوا ايمانهم ومعتقداتهم بصورة نقدية واعية بعيداً عن التزمت وممارسة العنف والاكراه، التي تؤدي بالإنسان الى خسران دينه وايمانه ومغادرة الملة مجبراً على ذلك، من خلال الممارسات الخاطئة التي يسلكها الكثير من الناس، وآمن هؤلاء العرفاء بدين انساني رحماني متحرر من نزعة القتل والعنف والكراهية، لأن الله كله حب ورحمة وسلام لا يؤمن برسالة خلاف ذلك، ولو كان الله كذلك فلماذا نحن نحب ونعبد رباً دموياً لا يحب السلام، حاشاه أن يكون كذلك لأن أول كلمة نطق بها الله هي كلمة الحب والخير والجمال، وعلينا أن نكون كذلك نزرع الحب في كل مكان، وأن نحب الآخرين كما يحب الله البشر، ولا نعادي بعضنا بعضاً تحت منطق الوصاية والسلطة والدفاع المقدس عن دين الله، فـ (للدين رب يحميه) والله أولى وأدرى بحفظ دينه وشريعته، أما نحن البشر فعلينا أن نتبع الله في قلوبنا ونمارس ما يحب في السر والعلن دون زيف ورياء ونفاق، فكثير من الناس قد خرج من دين الله أفواجاً بسبب الممارسات الخاطئة للدين التي نعيشها اليوم في الكثير من مجتمعاتنا، مما جعل الدين كما قال الامام الحسين (ع) : " الدين لعق على ألسنتكم " ، غدا الدين هذا اليوم شعارات وممارسات فارغة لا تسمن ولا تغني من جوع، لا تشبع الروح ولا تبني القلوب ولا تعمر البلدان، وتلك هي الكارثة، أن يتحول الدين الى شعارات جوفاء تزيد الناس بؤساً وفقراً وخراباً، ونتقاتل فيما بيننا دفاعاً عن ذلك الدين الذي أصبح شيعاً وتمزق بعدد الاحزاب والاقوام، ليحققوا بذلك ذواتهم ومصالحهم الشخصية المقيتة، لا عدل الله ورحمته ومحبته. فحقيقة الأمر أننا لا نملك صكاً مصدقاً ومقدساً من الله في أن ما نذهب اليه هو الصحيح وأننا نسير في الطريق المستقيم، فساحة الفهم والمعرفة والتفكير مفتوحة ومتاحة للجميع، ليس هناك من وصاية مطلقة تقيد حركة الانسان وتفكيره وتوجهه نحو طريق ما بعينه، وكما قال أحد العارفين أو الصوفية ونجدد قوله في هذا المقام بأن الطرق الى الله بعدد أنفاس الخلائق، ولكل انسان حق التعبد والايمان بأي دين يريد ما دام هدفه نحو الله. و كما قال تعالى : "فأينما تولوا فثم وجه الله".

وحقيقة الأمر أنني ادافع وأنطلق من جوانية الدين وجوهره لا ظاهره وصورته، فكثير منا يمارس طقوسه وعباداته بصورة مستمرة ولكنها لم تمس قلبه وروحه وعاطفته، ويتلبس بلباس الدين ظاهراً، لكن جوهره غش وزيف وخداع، يخدع الناس بحركاته وسلوكه ولسانه، متصوراً أن الدين هو تلك الممارسات الظاهرية فقط، ولكنك لو أطلعت على باطنه وجوهره لوليت منه فراراً، وهذا ما نلاحظه شائعاً بكثرة بين الناس في الكثير من المجتمعات المتدينة، وأن نسبة النفاق الديني عالية في هذه المجتمعات، مما يجعلها مجتمعات مريضة ومتأزمة ومتشنجة ومنغلقة تختلف عن المجتمعات المدنية المفتوحة والمتحررة التي تفهم الدين فهماً عقلانياً واعياً لا يشكل عائقاً وسبباً في تقبل الآخر والاعتراف به، وهذا ما نتمنى أن نصل اليه في حياتنا، دون عنف وتعصب ديني مقيت يحرمنا من حق الحياة والعيش بسلام معاً في هذا العالم الرحب، وما أجمل قول الحلاج في حرية التعبد والاعتقاد حين قال :

ما لي وللناس كم يلحونني سفهاً       ديني لنفسي ودين الناس للناسِ

 

د. رائد جبار كاظم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم