صحيفة المثقف

كان من الأفضل أن تبقى

قصي الشيخ عسكركانت ذاكرة ملكة الليل تعود إلى مساء ما، وهي صبية، ذهبت مع عبيد الباشا إلى طريق البرّ لتشاهد فيلما من سينما متجولة في سيّارة :

ـ أين يبقى. هل هو فيلم؟ مرّة واحدة حضرت ذات ليلة سيارة تحمل سينما متجوّلة، فهبت نهر جاسم كلها باتجاه الباحة في طريق البرّ:   عجيب أمرك ياداهية

ـ كان عليه البقاء مادام المدير والمعلمون هناك، فقد يفتقدونه، ويدخل في سؤال وجواب.

قال بلامبالاة:

ـ بعض التّلاميذ انسلوا في الطّريق قبل أن نصل إلى أمّ البروم. (ثمّ بوجه منقبض)لعبت نفسي من المشهد:واحد رأسه ملتصق بكتفه كأنّه ينظر إلى إلى السّماء، وآخر كان منكّس الرّأس كما لو أنّه ينظر إلى الأرض.

للمرّة الأولى أبصر الموت، ولم يكن، قبل اليوم، بإمكانه أن يتصوّره. طفل مدلل بصره يخطو باتّجاه جثث معلّقة وسط غابة من حراب البنادق، وصراخ لاآخر له يطالب بالمزيد من الموت. وكان من شأن الحاجّة الكبيرة ألاّ تأكل حتّى يأتي من المدرسة، وحين نادته وقت الغداء، أجاب بوجه كالح:

ـ منذ رأيتهم صدّت نفسي عن الطّعام.

كانت تخشى عليه من أن تراوده الكوابيس والأحلام المخيفة خلال رقاده بعد أن رأى المشنوقين في أمّ البروم، وقد نسيت كلّ منهما في الأيّام الأولى للحادث كلّ شيء، لتراقبا أنفاسه تصعد وتهبط، وهو مستسلم للنوم. ومع مرور الأيّام أدركت أيّة خسارة أصابت أموال القاصر عبد، مع ذلك لم يبد عليها التّأثّر خشية من شماتة الأعداء، وشفقة المحبّين. كانت تحمد اللّه، فأيّ ضرر يمكن أن يعوّض، وأيّ جرح يمكن أن يندمل. النّقود وسخ الدّنيا تذهب وتجيء، فلابارك اللّه في مال لم يسعد صاحبه. ربّما قابلت الآخرين بوجه يخلو من الملامح، شأنها كلما خرجت من أزمة، وليلة الجمعة التي أعقبت الشّنق، فتحت الضّريح للزائرات، كالمعتاد، وفجأة، وبينما هنّ يتحدثن، إذ دخل الصبيّ المعتوه عالم البخور والحلوى والعطور. بحلق في الحاضرات بعينين ملتهبتين، وانتقل إلى مكان الشّموع حيث العلبة المليئة بقطع الحلوى. دسّ واحدة في فمه، وتمتم أثناء ما يلوك، ثمّ خطا قبالة الدّاهية، وحرّك يديه يستعين بهما على الكلام:

ـ الهرب. . الهرب.

هتفت زائرة:

ـ أين ، فأل اللّه ولا فألك.

ـ أتراه يقول الحرب أم الهرب؟

ـ الهرب.

ـ الحرب.

ردّت الدّاهية كما لو كانت تشمت بعدوّ يتربّص بها:

ـ ياسبحان اللّه كلام المجانين ذو وجهين كأقوال الحكماء.

أمّا الحاجّة الكبيرة، فقالت مع نفسها:

ـ كلاهما واحد إذا حدثت الحرب لا قدّر اللّه هرب النّاس!

كان المعتوه رسولا لإحدى النّبؤات قبل أن يطلق لساقيه العنان، فيضفي على الضّريح بعض أجوائه، ويخرج إلى حيث لايعرف أحد. أيّة كلمة ينطق بها يمكن أن تثير تساؤلات عن المستقبل فيتسع التوجّس في القلوب، وتشيع التّأويلات. الم تتحقّق نبؤته عن البعير، والمشير، تلك النّبؤة التي صدقت بعد ساعات، فتمتد الأحاديث منها إلى سعيه في الأرض، أين يبيت؟وكيف يقضي يومه؟إلى أمّه التي نادرا ماتزور الضّريح، وتلتقي النّساء، فهي لمّا تزل مشغولة بالسّحر والشّعوذة اللذين فاحت ريحهما بعد إصابة الابن بالجنون، وهناك صوت لزائراة يقول إنّ الضّريح طاهر يخشى السّحرة وأشياعهم من اللجوء إليه، ومع كلّ ماقيل عن هلوسة المعتوه، وسابق نبوءته في العهد القوميّ، فإنّ النّبوءة الجديدة مازالت غضّة، لم يحن وقتها. الحرب وإن ظهرت ملامحها بأكثر من معنى سواء خطاب الرّئيس، واتهام ايران بتغذية شبكات التّجسس، والتوتر على الحدود حيث يتقابل الجيشان، أم الحملات بين الاذاعتين، إلا أنّها لم تزل بعيدة الاحتمال، ولعلّ هلوسة المعتوه أكثر ماتخصّ، باندفاعه غير المتوقع في الضريح إلى مجلس النساء، الدّاهية بعد خسارة النّقل البحريّ. كلهنّ يدركن خسارتها، ويعرفن سكوتها، وتراجعها عن المطالبة بحقّها، وإلاّ لم اختصّ المعتوه الضريح، ليعلن فيه عن نبوءته الجديدة. كانت تقول للحاجة بعد أن فرغ الضّريح من الزّائرات:

ـ قلبي يحدّثني بأمر آخر قد يكون مصيبة مثل فيضان أو زلزال.

ربّما كانت محقّة، ولعلّ ذلك مايخفف عنها بعض الشّيء:

ـ الله أعلم وهو يضع حكمته في أضعف خلقه.

الزلزال. الفيضان. العواصف. . الكوارث. كلّها أخفّ من الحرب، فلم نهمّ بالهرب، وليت لسان المعتوه لايخلط بين الحاء، والهاء:

ـ نحن لاقبل لنا بمهاجمة الشاه. الشّاه أمريكا. وهو يملك أشدّ الأسلحة فتكا، ومثلما هددته حكومات من قبل تهدده حكومتنا الآن. (وبعد لحظة هدوء، وهي تهزّ رأسها)هل معقول يقسم الرّئيس على الانتقام علنا أمام النّاس!

ـ مثل الذي يضرّط في الهواء!!

بانزعاج أقرب إلى الغضب:

ـ لمّي لسانك ياملكة الليل وإلاّ أخرسوك مثل ابن الرّوّاس!

مع ذلك كانت مظاهر القرية كلّها تتحوّل إلى ظاهرة مسلّحة. في المدرسة يتدرّب الطلائع والفتوّة. اتّحاد الشّباب. مكتب الفلاحين. وسط هذه الأجواء لشدّما خشيت الدّاهية أن تنتقص إحدى النّساء عن عمد أو سهو غير مقصود سياسة الدّولة في أثناء جلسة الخميس، وقد ازداد تحفظها بعد قصّة الشّبكة، فأخذت تغلق الباب بعض المرّات بحجّة التعب، وأعذار ما، وهي تدرك جيدا أنّ الولي لايتخلّى عنها، وأنّه راض كلّ الرّضا عن عملها، ثمّ صمّمت مغتنمة حلول الشّتاء والبرد أن تكون جلسة النّساء كلّ شهرة مرّة بدلا من الجلسة الأسبوعيّة التي تطلق عليها نساء القريةأمسيات الخميس. وكأنّها، على الرّغم من النّبوءة، تحاول أن تجد منفذا تستريح عنده، في الوقت الذي بدأت فيه نهر جاسم تحاصر نفسها من جديد وتفقد ذاكرتها القديمة إلى درجة لم يعد أيّ أحد يلتفت إلى مصرع القمر في إحدى الليالي الصّافية حتّى خيّل إليها أنّها عبرت حلما إلى دنيا الواقع كأيّ حدث من الأحداث الكثيرة التي تختلط في الذهن. إنّها كثيرا ماتحلم، فتسأل نفسها بعد يومين أو ثلاثة أين رأت ما رأته، فليس بالضرورة أن يكون القمر مذبوحا في السّماء، لعلّها لحظة ما هوّمت في ذهنها، إلى أن أدركت الحقيقة من دون شائبة، وهاهي بضعة أيّام تمر على يوم الشنق المشهود في أمّ البروم، وإذا بنذر أمّ مصعب يكشف عمّا التبس عليها بين الواقع والحلم. لقد أدّت نذرها في الضّريح ثمّ طلبت من الدّاهية أن تصحبها إلى البيت. هناك في غرفة الاستقبال التي خلت من الصّور السّابقة انبسطت أمامها السّماء، وانكشف الغطاء. طاهرة واللّه العظيم طاهرة. وقطع اللّه لسان من يمسّك بسوء، فحجب الغيب لاتنكشف إلاّ لحبيب من أحبّاء اللّه أو وليّ من أوليائه:

ـ إمّا أن أكذب أو تخدعني عيناي أو هي هلوسة مرّت.

ـ حاشاك من كلّ ذلك.

من دون مقدّمات تزيح السرّ الجاثم على صدرها:

ـ ألم تري ليلة الأربعاء شيئا مافي السّماء ياابنة الوليّ؟

حيرة على شفتي الدّاهية، وسؤال:

ـ خيرا ماذا جرى؟

ـ يبدو أنّي الوحيدة التي رأت مارأيت. (ونفثت الهواء، لتأوي قليلا إلى الصّمت)حلم أو هو خيال.

أدركت أنّ في الأمر شيئا ما، فغاصت بعيني محدّثتها:

ـ في بعض ملامح يوم الأربعاء أنّ آدم طرد فيه من الجنّة، وفيه حدث طوفان نوح العظيم.

ازدردت أم مصعب جرعة ماء، وتابعت:

ـ غادرت فراشي لقضاء حاجتي، وعندما تطلّعت في السّماء الصّافية، رأيته كالطّير المذبوح. بركة دم. تطلّعت فيه فراودني خوف. استعذت باللّه من الشيطان الرّجيم، ثمّ رجعت ناسية أن أقضي حاجتي، وكلّ ما حولي ساكن. الهواء الذي ضاقت به أنفاسي، وسعف النخيل. الدجاج. الغنم. ليس هناك سوى همهمة خافتة من كلب الحراسة.

هو هو الحلم ذاته، بل هو اليقين ذاته، لكنّ العجلة لاتدفع إلى الدّاهية لتفوح بسرّها:

ـ وأين كان أخي أبو مصعب في تلك السّاعة؟

ـ في سابع نومة، وقد عزّ عليّ أن أنغّص عليه نومه، وعندما أطلّ الصّباح، وفات الوقت ظننت أنّ أمر القمر سيشغل النّاس لكنّ أحدا لم يذكر الواقعة، فعلمت أنّي كنت أحلم حتّى أدركت أحكام الإعدام، فنذرت لضريح أبيك حمدا لله على سلامة أبي مصعب وإلاّ كان يمكن أن يلفقوا له فرية كالّتي ألصقوها بمن نالتهم أحكام الإعدام.

بختام الحكاية تتابع لهاث أمّ مصعب وكأنّها قدمت من مسافة                                 بعيدة، وليس بعد كلّ تلك الصراحة من داع للصمت:

ـ لم تكوني لتحلمي قطّ، فغيرك رآه أيضا!

فهتفت الأخرى:

ـ تعنين أنّك كذلك؟

ـ بالضّبط. الحال ذاتها، والرّؤيا نفسها. وجدته كالطّير المذبوح يستحمّ في بركة دم، وربّما لم يشاهده أحد غيرنا نحن الإثنين، ولعلّ غيرنا رآه فشلّ لسانه الخوف، ومحا الرّعب الصّورة من ذاكرته:

ـ في نفسي شوق لتأويله، فأنت ابنة وليّ ترين مالايراه غيرك.

أغمضت عينيها لحظة دامت سنوات، فذاقت الحلو، والمرّ، ونطقت بالوجهين معا:

ـ سمعت من أبي وهو يتحدّث عن دولة القمر، والشّمس. القمر دولة الكفر، وما دمنا رأيناه مخسوفا، فإمّا تزول دولتهم أو تجري حرب تسيل فيها الدّماء. وجهها ينبيء عن قلق وانزعاج، وهي تقول:

- دعينا من هذا التأويل، فماأشدّ شوقي للوجه الآخر

في تلك اللحظة ينسكب الشّرّ في السّماء، وينبسط الحلم واضحا. سوف يكون هناك دم . لكنّه ليس الآن بل في الزّمن القادم البعيد بعد السّماء عن الأرض. وبين التّرقّب واللهفة كانت أمّ مصعب تنادي على ابنتها جميلة لتجدّد الضيافة إلى الخالة الدّاهية. ظلت طوال اليوم تفكّر بالوجه الآخر النقيّ للنّبؤة. بعض الأمور قريبة منّا وبعيدة عنّا، وقد نسيناها لقربها الشّديد، ألم تنس أشياء تخصّ عبد، ثمّ تنتبه من غفلتها. أين كانت الدّاهية كلّ تلك السّنين عن الصبيّة الشّقراء ذات القوام الممشوق، والعينين الشّهلاوين، وفيها واحة أمان من الزّمن، وأمّها أصبحت قريبة من القلب تفضي بأسرارها للدّاهية، فكانت إليها الأقرب بعد الحاجّة، وما رأته سواء أكان حلما أم واقعا، فإنّه لاينكشف إلا لطاهرة مطهّرة، واللّه يعلم بطهارة الدّاهية، ولو لم تكن أمّ مصعب كذلك لما طالعتها صفحة السّماء. في تلك اللحظة، وقد انسكب الشرّ على صفحة السّماء، خطرت جميلة داخل الغرفة تحمل صينيّة الضيافة، ومن الحكمة أن تبصر الدّاهية بوجه جميلة نبؤة السّماء بملامحهاالجديدة، وتغفل عن الأرض، فلعلّ المعتوه يقصد بكلمة(الهرب) العرب حيث يسمعها تتردّد في التّظاهرات، والإذاعة، وربّما أبصر الطّلائع والفتوّة يمرّون من الشارع حاملين بنادقهم، أو وقعت عيناه على الجيش الشّعبيّ الرّابض خلف طريق البرّ بدبّاباتهم ومدافعهم، فلهج فمه بالحرب، أمّا نبوءة السّماء، فإنّها بعد أن أطلت صورة جميلة، يمكن أن تصبّ بمجرى آخر. لِمَ تتأخّر في عرضها ، ففي اليوم التّالي زارت صديقتها الغالية أمّ مصعب. جلست في الموضوع ذاته، وانبسطت أساريرها بالبشرى، فنطقت بعد الصّلاة على النّبيّ، وعيناها تتابعان جميلة، وهي تغادر الغرفة:

ـ ماشاء اللّه أصبحت أمرأة كاملة.

ـ شاطرة معظم أعمال البيت تقوم بها عنّي.

ـ ياخسارة لو كان في نهر جاسم مدرسة ثانويّة.

ـ الإبتدائيّة تكفي فالمرأة أوّلا وأخيرا لبيتها وأولادها.

ـ جمال وشرف وأخلاق. اللّه يسعد من تكون من نصيبه. واللّه هي ملكة من تكون كنّتها جميلة.

قالت ذلك وقد اطمأنّت إلى أنّ أمّ مصعب أدركت قصدها:

ـ كلّ شيء قسمة، ونصيب.

تجاوب من أمّ جميلة، فما أسعدك ياداهية، ومنية القلب أن يخلو الجوّ من منغّصات، ويصفو الودّ كالنسيم العليل:

ـ هل لأبناء عمومتها ميل إليها؟

ـ ذلك بيدي أوّلا ثمّ بيد أبيها.

بغير ماتردّد، كأنّما دفعتها مجاراة أمّ مصعب:

ـ مارأيك في عبد؟

ـ أنتم سادة النّاس وعبد بن باشا وبن وليّ وأمّه الداهية!

فنهضت إلى مضيفتها معانقة، وهي تقول:

ـ الآن انزاح ثقل عن صدري، وحلت الطمأنينة بعد الوساوس، ويحقّ لك أن تسألي لم اختصّتنا أنا وأنت وحدنا السّماء بقمرها الوحيد، مثلما أنت أمّ لبنت وحيدة، مثلما أنا أمّ لولد وحيد، فلم تدلّ النبوءة على حرب، لم لايكون عذراء جميلة فاتنة القوام، والحمرة دم البكارة المسفوح ليلة الزّفاف! اليقين يملؤها دهشة بين المصدّقة والمتأثرة:

ـ من غيرك ياداهية يستطيع أن يغيّر الشّرّ إلى خير.

ـ إذن نتّكل على اللّه ونقرأ الفاتحة إلى أن يكبر الصّغيران.

هكذا اطمأنّ قلب الدّاهية ولو الى حين…الشرّ انسكب في السّماء، وخسارة النقل البحريّ، وإن كانت عظيمة، فإنّ اللّه عوّض عبد بدلا منها عروسا جميلة، لتعد الخسارة مهرا للغالية وأيّ مهر يرخص لتلك العروس التي يمكن أن تُعادل بوزنها ذهبا. لقد نفثت همّا ثقيلا عن صدرها وإلى حدّما سارت الأمور على مايرام، فرأت كلّ شيء هادئا مطمئنّا مثلها. كان كلّ واحد يعيش ساعته، فينشغل بأيّ شيء يلهيه عن الماضي والمستقبل. خلال ساعات النّهار ينهمك الفلاحون، والمزارعون بالأرض، ويقضي التلاميذ منتصف النهار في المدرسة، ثمّ ينصرفون إلى التّدريب ، أو التجمّع في المقرّات، ولا يعودون إلاّ قبيل المغرب. وفي المساء تشاهد العوائل مباريات المصارعة، وكرة القدم إذ يظل أبطالها مدار الحديث إلى النهار التالي، حتّى إذا طلعت، فجأة، جنازة لجنديّ قتل في كردستان، انشغلت بها القرية يوما أو بضعة أيّام، وبعدها لاشيء. وقد جذبت المصارعة عبد مثلما استهوت أترابه، أمّا الدّاهية فكان يكفيها المذياع كبير الحجم القديم الذي ورثته عن الباشا وعزّ على المرأتين أن تستبدلاه بمذياع صغير الحجم حديث. الحاجّة تذكر أنّ الباشا ابتاع المذياع قبل أن يقتني والدها جهازا يشبهه، ولولا عبد الغالي وإلحاحه على مشاهدة مباريات كرة القدم، ومتابعة المصارعة ذلك الحدث الجديد الذي جاء به الإنقلابيّون، لأجّلت ابتياع التلفزيون إلى وقت آخر، وربّما أعرضت عنه بالمرّة، لكنّ الدّاهية لاتنكر أنّ ذاكرة نهر جاسم اختلفت خلال السنوات القليلة الماضية، وذاكرتها بدأت تتغيّر أسرع من الزمن ذاته، امّا مظهرها فقد بدا بشكل غير مألوف، ولم يبق من علامات الماضي سوى معالم محدّدة غير المذياع الأقدم والضريح، وربّما الثّياب السّوداء، وإصرار المرأتين على التّمسّك بهما لآخر يوم في حياتهما، والحق، مع كلّ ماكانت تراه، وتشكّ به إلى درجة اليقين، فإنّها كانت تهمّ أن تلحق الزّمن قبل أن يغادرها ، وكأنها تحاول أن تخسر كلّ شيء، وتربح كلّ شيء في الوقت ذاته…

فلم تكد تمضي سنتان حتّى عادت بعض الهواجس تعشعش في القلب. سنة أو أكثر ببضعة أشهر، ويبلغ عبد السنّ التي تؤهّله للعسكريّة. لقد حافظت عليه حين قلبت النّبؤة إلى فرح، وهي لاتشكّ في ذكائه، بإمكانه أن يستمرّ في الدّراسة، ويجتاز البكالوريا إلى الجامعة. لو ظلت القوانين كما هي عليه، فيعفى من الجنديّة اليتيم لأُمّه أو الوحيد لأبويه، لما أعارت للأمر أيّة أهميّة، لكنّ العهد الجديد بإلغائه القوانين السّابقة جعل الأمر متشابها بنظر الدّاهية. سوف ينجح عبد، ويدخل الجامعة. . وماذا بعدالجنديّة؟. كيف تحتمل فراقه؟ومن أين تأتي بالجلد؟طوال الأعوام السّابقة منعته من العنف. عارضت أن يدخل الطلائع والفتوّة، فكاد يكون من بين أترابه الوحيد الذي لم يرتد البدلة الخاكيّة المرقّطة أو ينظمّ إلى الإتّحاد الوطنيّ. كانت تشاهد الجثث القادمة من الشّمال، فتزداد قلقا. أكثر من أربع سنوات انصرمت، كانت خلالها، ترعى حلمها الجديد الذي قطفته من سحنة القمر، فلم تغمض عيناها عنه لحظة واحدة. تبقى قضيّة العسكريّة، وقد حان وقت القطاف، إمّا أن يكمل عبد الجامعة، فتزوّجه، وهو طالب، ثمّ يأتي دوره، وذاك بلاء بعيد يمكن أن يتحقّق في أيّة لحظة، وإمّا أن تحوز له على الإعفاء لسبب ما، ثمّ تزوّجه، وما أكثر الأسباب الموجبة للتسريح من الجيش، إذا ماسالت النّقود، وماأكثر أبناء الأغنياء الذين يسرّحون بأمراض، وبإمكانها أن تصرف وتبذل بعدئذ لايهمّها سواء أتمّ عبد الدّراسة أم لم يكمل، عنده المكبس، ووارد الأرض، وزوجة مثل جميلة، هكذا تقرأ كلّ يوم صحيفة القمر، والمشهد الذي ترآى لغير العارف شؤما، لكنّه ينطلق بعينيها إلى ماتسعى نحوه الآن:

ـ اليوم إذ يأتي إليك عبد أخبريه أنّي استشرتك في أمرزواجه، واتّفقنا أنا وأنت على جميلة بنت أبي مصعب.

الخبر أعاد إلى الحاجّة بعضا من ذاكرة مفقودة، استرخت   تتوغّل في الماضي السّحيق وحده:

ـ هل يتقّق ذلك قبل أن يأخذ اللّه أمانته.

ـ لك العمر الطويل(وأضافت)لافائدة من أن يكمل المدرسة، فقد تساوى في الوقت الحاضر خريج الجامعة والأمّيّ، كلاهما يذهب إلى الجنديّة، ولابد لعبد من أن يحصل على الإعفاء، فالأفضل له أن ينصرف إلى أعماله وحساباته، وليس مثل الزّواج أمر يؤدّي إلى الاستقرار.

وبدا أنّ الحاجّة استعادت وعيها تماما، مادام عبد محور الحديث:

ـ لابدّ من الإعفاء، وإلا فالله هو المعين، وما عليه في هذه الفترة إلا أن يراقب بقلب مفتوح ليعرف طبيعة العمل ويزداد خبرة.

ـ العبد يسعى واللّه المعين.

وفي هذه اللحظة بالذّات يخطر ببالها سعد النّمر ثانية. وهي، وإن كانت ترفض التّنازل متشبثة بكبرياء أصيل، وحفظا لعهد المرحوم الغالي الذي ترفّع عن أهله، ولعلّها لمحته أنّه يحتقر سعدا، ويأنف من التّعامل معه حتّى أنّ جهودها في الجمع بينهما لم تثمر إلاّ عن بضع زيارات معظمها في بيت الباشا، غير أنّها هذه المرّة لن تنزل عن كبريائها لأمر يعنيها أو لمصلحة يمكن تحمّل خسارتها. يمكن أن تقبل الذلّ والمرّ والمنّة من أجل عبد، مثل الدواء المرّ نتناوله مادام فيه الشفاء، وللعمّ علاقات كثيرة مع المسؤلين، وبيده حلّ العقدة، وإذا كان بدا ميّالا إلى العزلة أيّام الشبكة خوفا على سمعته، ونفسه، سوى أنّها قضية بعيدة عن السّياسة، هذه المرّة، ولو لم يتخلّ ابن الرّوّاس عن النكتة، ويتعلّق بالتّأمّل والسّرحان، لطلبت منه أن يسعى في الأمر من دون اللجوء إلى العمّ سعد. مهما يكن من أمر فهي بحاجة إلى نصحه أو كلمة منه، ولا تظنّه يبخل عليها بشيء، وإن كان قد استسلم للجدّ والذهول قبل هجرته الأخيرة للصمت، فيطالعها بطلبه المفاجيء:

ـ ياداهية يابنت الوليّ. ليس من المعقول أن أودّعكم صامتا، ولن أطلب منك أيّ شيء ، سوى أن تقدّري الظروف. لقد خدمتكم وأنا في أوج صباي، وهاهو عبد أصبح رجلا كاملا ماشاء الله ، فليتكفّل بالمكبس، وبقيّة أعماله، أمّا أنا فلايسعني إلا أن أجلس في البيت وأرتاح.

لكلّ شيء نهاية. والجدّ يبين على وجهك ناشزا كثياب ملوّنة في مأتم. كنت تلومني على هجران النّكتة، وهاأنت تأوي إلى الجد كما لوكنت تلوذ بظلّ وارف من في يوم ساخن. عمر طويل عرفته منذ اليوم الأوّل بعد مصرع الغالي ، ومن غيرك يستحقّ أن يحلّ مراقبا، وكاتبا بعده؟خبرة كاملة في العمل، ودنيا تزهو بالنكات والسخرية حتى زوجتك اعتادت طريقتك بمرور الزّمن بعد أن كانت تنزعج من سخريتك. جيل من الشباب تقمّص روحك فبهرتهم طريقتك في الكلام قلدوك بغمزة حاجبيك، وهزّك كتفيك، وغمزة الحاجبين ماأصعب الضحك ياابن الرّواس، وماذا أقول، غير أن أواسي نفسي:

ـ في هذه الأيّام يصعب أن نعثر على الأمين الذي يخاف الله، وأنا ياابن الرّوّاس في قلق. ماذا يمكن أن أفعل ، هل يستمرّ عبد في المدرسة، ومافائدة الدّراسة، إذا كانت النّتيجة أن يصبح جنديّا، ولاأظنّ حرب الشّمال، سوف يأتي عليها يوم لتنتهي.

صمت يفصل بينهما لحظات، ثمّ تواصل:

ـ أنا أمّ ياابن الرّوّاس أمّ.

كمن تخاطب صورة من حجر تسمع ولاتحسّ. كم بعثته باسم عائلة المرحوم الباشا لتعزية أيّما عائلة مهاجرة عن نهر جاسم أصابتها الأيّام بمكروه، وحين يعود يصف بدقّة طريقة الموت، والقتل، وهي اللحظات التي ينحاز فيها بعيدا عن النكتة، والسّخرية، مثلما هو الآن في هذه السّاعة، ومنذ سنوات بعد أن غزا الجدّ قسماته، وانتهى به المطاف بين المكبس والبيت، وازنا كلامه بميزان، تكفلت الدّاهية وحدها بالعناء، فلم تخاطبه عن عبد، والحرب، وهو أصمّ يرى ولايسمع:

ـ ماذاقلت. فأنا الآن في حيرة من أمري!

ـ من الآن إلى أن ينهي عبد الجامعة مشوار طويل، سنوات. عندئذ لكلّ حادث حديث.

ـ هذا إذا نجح وعبر البكالوريا.

ـ عبد ذكيّ ولبيب ماشاء اللّه.

ـ لكن إذا تركت العمل فلن يأتي أحد غيرك، وسيضطرّ عبد إلى ترك الدّراسة، ولامجال أمامي إلاّ أن أسعى له لكي يحصل على إعفاء.

صمت آخر لايطول:

ـ وكيف لمن شارف السّبعين أن يستمرّ.

ـ تعرف أنّي لاأستغني عن مشورتك، فمن تظنّه ينفعني؟

وهو يتطلّع بعينيها، قبل أن يقول ببرود:

ـ أنت ياداهية مثل الذي يجري الماء من تحت رجليه ويشكو الظّمأ، ثمّ تظنين أنّ ابن الرّواس بيده كلّ شيء ويستطيع أن يفعل المحال.

- لم أفهم قصدك بعد.

ـ نعم كانت لي معارف، لكنّي بعد أن خرجت من التحقيق…

قالت مقاطعة:

ـ الحمد للّه صحيفتك بيضاء، فمن يجرؤ.

ـ لكنني كالتي تُتَّهم بعرضها باطلا، وتشيع حكايتها في النّاس ، فمذا تنفع براءتها فيما بعد.

لم يكلمها بهذه الحدّة من قبل، أبدا، ولو بعد خروجه من المعتقل. وقد فاضت نفسه بكلّ ماتجيش به ، أتراها لحظة الفراق التي لاتُبقي ولاتذر:

ـ أفهمت ألآن قصدي؟سعد النمر عم عبد التاجر المعروف صاحب الأموال والأملاك والعقارات، ربيب المحافظ، وصديق مدير التّجنيد، وله علاقات معروفة بمسؤولي الحزب، فما الذي يستطيع أن يفعله ابن الرّوّاس إذن؟(وحين همّت بالكلام واصل متجاهلا) ياداهية أنا أفهم قصدك. يصعب عليك أن تتنازلي وتذهبي إليه لأنّه سحب يده من قضية النّقل البحريّ. جبان ثعلب. يحقّ لك أن تسميه ماشئت. أنا وحدي تحمّلت أعباء التّحقيق والسين والجيم، وخضعت لاختبار لاناقة لي فيه ولاجمل…

ـ ومن أدراك أنّهم لم يحقّقوا معه؟

ـ أنا أتكلّم عن نفسي. أخرس أطرش . أبكم. ولو لم أرد أن أستريح وأتحرّر من الشّغل لما فتحت معك الموضوع، ولما تركتك تنزلين عن كبريائك لسعد النّمر. لاتنسي أنّه يعرف مثلما يعرف القاصي والدّاني أنّك حاولت أن تقرّبي بينه وبين زوجك الباشا، لكنّ رتقا فتقه الزمن لم يكن بالإمكان إصلاحه بسهولة، وأظنّ سعدا سيذكر لك فضلك.

قالت بسخرية:

ـ أراه فعل ذلك في قضيّة النقل البحريّ.

ـ آخر ما أقوله لك إنسي النقل البحريّ، أمّا في غيرها فلا أظنّ سعدا يتردّد.

لم يبق أمامها إلا أن تأخذ الأمر على عاتقها، وتباشر مشوارها الجديد، ففاتحت الحاجّة الكبيرة التي دفعها الاهتمام بالأمر إلى أن تتحامل على آلام المفاصل، والرّوماتيزم، ومرض الضغط، وترافق عبد، وأمّه إلى البصرة حيث يسكن سعد النّمر. كانتا تراهنان على رابطة الدّم وحدها، فآل النّمركما يقول المرحوم الحاج عبّاس، ماهم إلاّ أجمة شوك، شاءت القدرة أن تنبت وسطها زهرة واحدة نقيّة هي الباشا. لئيم. جبان، ثعلب، أمّا عبد، فيبدو أنّه أُعجب منذ اللقاء الأوّل بعمّه. كانت مناسبة قرّبته منه. رآه، وهو صغير، ورآه بعد ذلك، ولم تختف الصّورة من ذاكرته، لقد وجده في هذا اللقاء غير بعيد الملامح من هيئة المرحوم أبيه إذ قال لأمّه فيما بعد:

ـ لولا رشاقة أبي، ووسامته، والسّدارة على رأسه، لظننت عمّي صاحب الصّورة!!

فردّت بمكر:

ـ لن تجد في عشيرة النّمر كلها شخصا مثل أبيك الباشا.

وقالت الحاجّة بصوت لاهث كمن يتسلق منحدرا عاليا:

ـ إذا كانت حاجتك عند الجرو سمّه كلب!

ومن حسن الحظّ أنّ كلّ شيء سار على مايرام. سعد النّمر استقبل عائلة شقيقه بما يليق بها، وأعربت زوجته وبناته ـ خاصّة الكبرى طالبة الجامعة ـ عن فرحهنّ بالزّيارة، والأهمّ أنّ العمّ استوعب الطّلب، وأكّد أنّ عبد بمثابة ابنه، وأبدى من الاهتمام مابعث الراحة والاطمئنان في نفس الدّاهية، ولم يغفل أن يلمّح من طرف خفيّ إلى أنّ الوضع ربّما يتطلّب بعض الهدايا الثمينة لمن بيدهم الأمر، وتساءل باهتمام:

ـ لكن لم لايستمرّ عبد في الدّراسة، ليكمل المرحلة الجامعيّة، حينذاك نجدّ له في السّعي للإعفاء عن طريق المعارف والأصدقاء.

وسارعت الدّاهية قبل أن يندفع عبد:

ـ ابن الرّوّاس سيترك العمل، ولعلّني لاأثق بأحدّ

فأطرق لحظة ثمّ تساءل:

ـ هل هناك من شيء.

ـ الرّجل شارف على السّبعين، وبدا يظهر عليه التعب(وأضافت غير مقتنعة بما تذكره) بدأ ينسى، وآفة الكبر النّسيان.

فهزّ رأسه يؤكد اهتمامه:

ـ الواقع لابدّ لعبد من أن يستلم عمله، فيكتسب خبرة، ويباشر الإشراف على أمواله بنفسه.

سارع من دون أن يلتفت إلى الدّاهية:

ـ ياعمّي القوانين كلّ يوم تتغيّر، وربّما من يدري بعد سنوات لن يُسمح للمرضى وذوي العاهات بالحصول على الإعفاء.

كانت الدّاهية تحاذر من أن يشطّ عبد إلى السياسة التي يتحاشى النّمر الخوض فيها، فيفسد كلّ شيء. الآن أفضل. قد تتغيّر القوانين، وقد يتغيّر أصحاب النمر أيضا. المهم أن لايشطّ لسانك ياعبد:

ـ عدا ذلك ياحاج إنّ أمواله في بيروت، وتحتاج إلى متابعة، وأظنّ أنّ من الأفضل له أن يسافر ليطّلع على كلّ شيء.

قال مؤكّدا:

ـ أجل فأجواء بيروت بدت تتقلب، والوضع هناك غير مريح، ولابدّ من نقل أيّة ممتلكات إلى أماكن أخرى أكثر أمنا في أوروبا.

نهاية المطاف تحقّق للداهية ماأرادت. عرض عبد على لجنة طبّيّة عسكريّة أثبتت عجزه عن الالتحاق بالجيش لأمراض منها الكُلى وتضخّم الطّحال، وفقر الدّم، مع ذلك لم تتزعزع صورة النّمر في ذهنها. شيطان. جبان. لئيم، وعندما فاجأها عبد ذات يوم بأوّل تمرّد، وهو يصرخ بوجهها:

ـ تذكّري لولا عمّي لما تخلّصت من الخدمة العسكريّة.

لعنت عمّه، وجميع آل النّمر من دون استثناء. كانت كاللبوة المهتاجة:

ـ لولا النّقود التي دفعناها رشاوى لما حرّك عمّك ساكنا. ملعون أصلك ياابن أجمة الشّوك!

عندئذ أدركت أنّها تعرّضت للرّبح والخسارة في وقت واحد كما هي عليه الحال في كلّ مرّة. ربحت عبد وخسرته في الآن نفسه!!

إذ لم يمض وقت طويل حتّى خرج عبد عن طوعها…

ذلك الوقت كانت عواطفه تنحى باتجاه ينآى بعيدا عمّا أرادته الدّاهية. كان يهمّها بعد حيازة الإعفاء أن تعلن خطبته على جميلة بنت السّيد عبد العليم، لكن يبدو أنّ كلّ التّرتيبات بدأت تنقلب رأسا على عقب. الزّمن يتلمّض من جديد، ويتربّص، وهي تدرك تماما أنّ جميلة لم تكن بعيدة عن عبد. ويوم عرضت الحاجّة عليه الفكرة احمرّ وجهه كالعذراء، ولاذ قليلا بالصّمت. فليكن. إنّ القسمة تجري وفق رغبة الدّاهية، وخياله يتعقّب صور الماضي. هكذا تصبح جميلة محور اهتمامه فجأة، ولعلّه يعثر في صور الماضي على شيء مثيرغفلت عنه عيناه منذ الطّفولة، فتهبّ رائحة لندبة انطبعت على زندها الصّغير البضّ . أيّ لقاح هو الكوليرا أم الجدري. بالقرب من الشّريعة تهادت بزندها المكشوف، فنقر ديك ذو ريش أحمر أثر النّدبة، فصرخت من الألم، وكنت أنت تركض خلفه تهمّ بذبحه انتقاما للصغيرة ناسيا كره النّسوة لأُمّها. وماذا عن عهد المدرسة؟صبيّة شقراء مدللة، كادت تصافح رئيس الجمهوريّة ذات يوم. ليس في حياتها مايثيرك، وكنت تراها كلّ يوم مع خمس تلميذات في المدرسة. بدت العائلة معزولة عن أسر نهر جاسم، ماعدا أُمّك الدّاهية التي لم تبين لأُمّ مصعب كرهها معلنة أنّ صاحب الضّريح لايطرد أحدا من حضرته. ثمّ انقلبت القرية، وغيّرت الدّاهية رأيها، فتعلّقت بآل عبد العليم، واختارت لعبد ابنتهم جميلة. ودفعه الفضول إلى أن يتمعّن خلال لحظات عابرة بوجهها وقامتها حين تقع عيناه عليها. مجرّد رغبة في أن يحتويها، وربّما تمادى، وخرج عن حيائه، فلم يعد يحمرّ وجهه من لقائه العابر بها، ثمّ تجرّأ وسار خلفها. التقطت عيناه الطّريق حذرا من أن تقع عليه عينان، وعندما خيّم الظلام تسلل من البيت كما هو الأمير العاشق الذي حكت عنه الحاجّة. في الموعد المتفق عليه وجد باب المنزل الخلفيّ مفتوحا. بيده عظمة رماها لكلب الدّار، فكفّ عن النّباح. نقيق ضفادع. عواء عن بعد. صرير جندب. أصوات تدفعه إلى داخل الغرفة حيث الأميرة جميلة تنتظره على السّرير، فأخذها بين ذراعيه، وهوى بشفتيه على شفتيها…

خلال لحظات مرّت الرؤيا العابرة، فانكشف له جسدها الأشقر البضّ، وصحا على أشعّة الشّمس تتسلّل وحدها إلى جبينه. كلّ شيء كان يمكن أن يجري وفق تلك الصّورة التي تجلّت في حلم تلاشى من تلقاء نفسه، وقبل أيّام فقط، فتحت له الدّاهية بابا آخرآل النّمر. بدقائق تنقلب الأمور فيجد في نفسه القدرة على التّمرّد، والوقوف بوجه الدّاهية :

ـ عبد عليك أن تزور السّيد عبد العليم.

ـ ماذا؟ هل هناك مناسبة؟

ـ زيارة الجار لا تتطلب مناسبة، فنحن نعيش هنا في القرية كالعائلة الواحدة.

والأمّ الكبيرة تعقّب:

ـ ياولدي عبد العليم جار وأخ. لم نر منه ضرّا، وهو صاحب غيرة.

آه لو تعلمين ياأمّي الحاجّة، لاتتعجّلي، فسأفتح لك قلبي، قبل الداهية، في الوقت المناسب، وللقلب حالات، يدلّ عليها الحال، ولو كنت شاعرا لقرأت لك قصيدة، فتكتشفين من تلقاء نفسك أنّي أحبّ، وأفعل مايفعله بطل قصصك الأمير حين يتسلل إلى غرفة حبيبته ستّ الحسن والدّلال، ولكنّي ياأمّي الحاجّة أزعل مع نفسي في النّهاية، فما مرّة إلاّ وبطل القصّة العاشق، يخرّ صريعا بسكّين غدر.

تلك الأيّام كادت الدّاهية تعلن الخطبة غير مبالية بتمنّع عبد، عادة إيّاه بعض الخجل والتردد لتعلّقه الشّديد بها وتخوّفه من حياة جديدة لم يألفها من قبل. مذكّرة إيّاه بين حين وآخر بآل عبد العليم متّخذة من نقرة الديك لزند الصغيرة ذي النّدبة الحمراء وحماس عبد الصّغير لللانتقام منه علامة تدلّ منذ ذلك الوقت على المودّة، لولا أن حدث أمر جديد أرغمها على أن تتريّث بعض الوقت، ففي إحدى الليالي، شقّت صرخة ما، هدوء الليل، ولم يمض وقت طويل حتّى جاء الخبر ينعي ابن الرّوّاس. مات الرجل ومعه ماتت ضحكة القرية المؤجّلة، قبل موعدها المحدد. وما عرف عنه أنّه منذ ترك العمل في المكبس، هجر الكلام بالمرّة، لامع الغريب أو القريب، ويبدو أنّه هرب إلى الموت حين ضاق ذرعا بالصمت. الليلة ذاتها قبل أن يغادر المنزل تمعّن طويلا بزوجته أمّ الرّوّاس، والأولاد. لم تطرف عينه قيد شعره. وعلى شفتيه ظلّ الصّمت يومض كمرآة صقيلة تنطق من غيرما همس. دقائق بقي على هذه الحال، ثمّ غادر البيت وسط الظلمة موغلا في البستان. كان يخبط في العتمة بين النّخيل، فيصمت كلّ ذي حيّ عن النّطق:الضّفادع تهجر النّقيق. الجنادب تكفّ عن الصّرير. وتخرس الذئاب البعيدة، وكلاب البساتين، وفي الطّريق لم تجرؤ أيّة سيّارة على المرور. صمت مطبق يمتدّ إلى أعماق بعيدة ربّما يلقي بظلّه على البصرة كلّها، وإيران والخليج، ولو انتبه إليه حينها أحد من النّاس لظنّ أنّ عاصفة ما ستهبّ، وتطيح بأيّ شيء يعترض سبيلها. لاشبيه لذلك الصّمت. أخيرا تهادت من بعيد أغنية كادت تنساها الذاكرة. أشبه بالنّواح الذي أطلقته خادم سوداء في طري المستر دوسن ذات يوم:

وادعتها والدّمع من عيني يسيل

كالت اللّه وياك يانعم الخليل

اذكر الماضي ولا تنس عهودنا

كان يغنّي أمام رؤوس أطفال تلمع كعيون القطط والنّمور، ثمّ تدور حواه تناغيه، وماكاد يختم أغنيته وتختفي العيون ذات البريق، حتّى عادت الضّجّة تحفر في الظلام من جديد. نقيق. عواء. صرير. سيّارة تمر عند الدّرب. رصاص يئزّ من مكان ما. في البدء ارتسمت البسمة على شفتي أمّ الرّوّاس، وشكّت، كما هو الحال عليه الأولاد أيضا. هل عاد إلى الكلام ثانية؟فجأة ارتدّ كلّ شيء على نفسه. وخيّم الصّمت بعد لحظات. وقتها خان أمّ الرّوّاس الصبر، فانتزعت روحها من الخوف، وتجرّأت على الخروج. كانت تحمل فانوسها، وتشقّ البستان إلى منبع الأغنية الذي تهادى منه صوت زوجها قبل لحظات. وجدته جالسا على حافّة المسبح، يتأمّل في الأشنات، والطّحالب الخضراء. عيناه تحفران الماء كما نطق عنهما وعن وجهه ضوء المصباح، وحين وضعت يدها على كتفه، انكفأ فجأة على وجهه دون حراك، فكانت الصّرخة التي شقّت الظلام، واكتفى بها الصّمت عن أيّة زوبعة تخلفه!

مات ابن الرّواس!ولم يشك الرجل من علّة أو مرض، ولعلّ أحدا لايصدّق أنّه من القلّة النوادر في نهر جاسم الذين لم يزوروا الطبيب طوال حياتهم، ولم يلقّح لأيّ مرض سواء الجدري أم الكوليرا، ولا حتّى ألم الأسنان!، وقد عرف الجميع أنّه مات على حافة المسبح المهجور وعلى شفتيه أغنية قديمة كادت تنسى! ومن يبغض، وأهل الخبث، وكثير منهم سمع به ولم يره، يقولون آخر عمره فكّر أن يصبح مغنيا فجرّب صوته قرب المسبح بدلا من الحمّام على اعتبار أنّهما مكانان مناسبان للمطربين المبتدئين.

وبسبب الوفاة اضطرّت الداهية إلى أن تؤجّل الخطبة بضعة أشهر، وكان عبد يشعر بالضّيق لوقوفه في العزاء مع آل الرّوّاس. ماأثقل الأيّام الثلاثة، وفكره يتشتت بين النّواح والحزن إلى مكان آخرحيث يخفق القلب، وتومض الأيّام الحلوة بالفرح القادم، وحين آوى آخر ليلة إلى فراشه، ظلّ يطارد النّوم، فيهرب عنه إلى جزيرة بعيدة قاحلة موحلة. هناك وجد المشنوقين الثلاثة والمجنون واقفا يصرخ، وعلى صوته الحاد يتقاطر النّاس من شوارع وجزر وأماكن بعيدة، رآى خلفه الطّلاّب، والمعلمين، والعمّال، والموظفين. كلّ من هبّ ودبّ، يرددون كلمات الفيل، وبين النخيل في مكان خفيّ وسط السعفات يدلع ابن الرّوّاس لسانه، ولا أحد يراه سوى عبد. في أقلّ من لمح البصر راح يبحث عن منية القلب. لعلّها تكون بينهم. المعتوه زار العزاء ثلاث مرات واختفى. تناول طعامه بثواب ابن الرّوّاس، وغادر من غيرما ضجّة. ليعود ابن الدّاهية يبحث ثانية عن منية القلب. مرّبالمعتوه، ووجوه تصرخ، وأومأ لابن الرّوّاس بإصبعه فوجده غادر المكان، ولسانه وحده معلّق بين الخوص الجارح. كانت تنزوي في مكان ما بين الحشد. تنظر مثل الآخرين إلى مكان ما. وحالما لمسها دبّت فيها الرّوح. تحرّكت الدّماء عنيفة في أوردتها. ناهدة. وهمست باسمه أيضا. أخذته بين ذراعيها، وقبّلته كاللبوة الشّبقة، فإذا بالمشهد الصّاخب يصرخ ويزغرد بالآن نفسه. ظلاّ بين الزغاريد والصّراخ يلتحمان حتّى وصلا الذروة، وفي الصباح، وقد كادت الذاكرة تخونه حول الحلم، لولا بعض الأثر العالق في ثيابه، لكنّ خجلا راوده في أن يستحمّ، عندئذ انطلق كالعصفور الحبيس. كان كمن يكتشف شيئا جديدا، طوال تلك السّنين غابت عن عينيه ملامح كثيرة. ذهب مع أمّه إلى التنّومة والعشّار، فبدت الدّنيا من حوله عاديّة، لاجدّة فيها. المدرسة المتوسّطة ذاتها. المدرّسون الجدد. ربّما بعثت على الضّجر لولا رفقة حسن له، وقضاؤهما الوقت بالثّرثرة عن أمور كثيرة أكبر من عقليهما وقدراتهما. تعبيد الطّريق. الإتّحاد الوطنيّ. مدرّس الجغرافية، وحديثه عن تباين الأرض. البحار. الأنهار. الشّعر واللّغة. الحساب، والذهن الشّارد. وفي المنزل الكبير، بعد دوام المدرسة كلّ شيء متوفر. تلفزيون. مذياع. تحف تعود إلى زمن الباشا جلبت من لندن، وبيروت، والبحرين، فتاهت بهما الإمّان أمام أيّ زائر زهوا. لكن لِمَ تبدو الأشياء في بيت سعد النّمر رائعة تتلألأ صورها للعيون. فجأة، هكذا من دون مقدّمات، يعرف أنّ الأشياء تكون أكثر إشراقا بوجود ناهدة، والحياة، إن لم تكن كحلم جريء، مرّ به الليلة الماضية، تفقد بريقها، وتصير إلىخواء. فأيّة ساعة مباركة ساقته إلى بيت النّمر في العشّار. وأيّ حزن هذا الذي أعاقه بضعة أيّام؟ كان مصمّما على أن يلتقيها مهما كلّف الثّمن. ينفرد بها في مكان غير المنزل. ماأشدّ الهوّة بين الحلم والواقع يوم جلست جنبه، وانحسرت تنّورتها فوق ركبتيها إلى درجة أنّه ارتبك، وكاد رأسه يميل للوهلة الأُولى إلى الجهة المقابلة. الإحراج لم يمنعه خلال دقائق من أن يختلس نظرات إلى ساقيها اللامعتين، والبارحة، قبل ساعات، ارتمت بين ذراعيه. كلّ مافيها ساحر. الحاجب. العطر. أحمر الشّفتين. لا ياأمّي الحاجّة. أصباغ. قشرة خارجيّة وآه من بنات آخر زمن. ماذا تفعل الأصباغ بمن لاتملك ذرة من الجمال، وبين الحلم والواقع خيط رفيع إن لم يقطعه، خانه الوقت، وخسرت قلعة القلب ملكتها. آلاف العشّاق تجمّعوا فيه بلحظة واحدة. عنترة…قيس بن الملوّح…روميو. وتراءت له الجامعة قلعة حصينة لاتقاوم ثورته الصاخبة. ترجّل من السّيّارة، أمام الباب الرّئيس، واستعان بالطّلاّب فدلّوه على كلّيّة العلوم. ثمّ دخل قسم الفيزياء….

ـ ناهدة النّمر!!

قالت إحدى الطالبات، وأشارت إلى الشّارع الأوسط، وعقّبت:

ـ إنّها على ماأظنّ في المقصف الآن. خطا في الاتجاه نفسه. كان الهواء خفيفا ناعما يمرّ على عينيه فيدفعه إلى حلم لذيذ يأرجح كأوراق الأشجار الخضراء يحرّكها النّسيم. هل تواتيه الفرصة في اللحظة المناسبة، فيفضي إليها بكلّ مايجول في قلبه، أم يتراجع آخر لحظة؟توقّف يستعيد دقّات قلبه، ولم ينثن لبعض الوساوس. بأيّ عذر يجيب؟ لو تراجع عن فكرته. وأيّة موانع يخشى، ودخوله الجامعة يوحي إليه بأنّه يقدر على أيّ شيء. ألم يكن جدّه الوليّ صانع المعجزات حيّا وميّتا!وخاله عبد يقتحم الظّلمات، ويركب الليل، وللأمّ الحاجّة حديث تروي فيه عن مآثره الكثير، فيحتقن وجهها، ويتذبذب بين الابتسام والغمّ، وكأنّها عاشت تلك الوقائع، ولمستها بقلبها، وعينيها. وأبوه الباشا غزا بغداد، وأخاف داهية عصره نوري السّعيد، فكيف تنقصه الشّجاعة، وما قدر أن يدخل الجامعة ليسأل عن طالبة تدرس فيها وكلّ هؤلاء فيه، أمّا الخجل فلابدّ من التحرر منه. ناهدة(أحبّك)تلفت كاللصّ قبل أن يجتاز باب المقصف. كأنّ كلّ الطّلاّب يعرفونه تلميذا في الثّانويّة. حالة ناشزة. يابنت النّمر انتظريني سنة، ثمّ أنتقل معك، وحال اجتيازه الباب، وتلفّته بحثا عنها، كانت تنهض من كرسيّها، وتخطو مرحّبة به، وهول الفاجأة يرتسم على ملامحها. وتغلّبت أخيرا على دهشتها، فقالت بضحكة مغناج:

ـ تعجّلت الدّخول إلى الجامعة؟

اكذب ياعبد. اكذب. ليس هناك غير الكذب. أنت تقف أمام مملكتك الرّائعة. القوام المثير. تسريحة الشّعر التي بدت مختلفة عن تسريحة أوّل لقاء. العطر، والجسد البضّ نفسه كان بين يديك قبل ساعات:

ـ كنت في شغل هنا قرب الجامعة ، فوجدت أنّها فرصة كي أمرّ لأسلّم عليك.

تحس ارتباكه، وتشعر بالرّغبة في عينيه، وقد تصدّق حجّته أو لا، لكنّها تعجب بصراحته، وجرأته. فاتها أن تصدّق المفاجأة حيث ظهر بوجه آخر يوم الزّيارة. كان مرتبكا بحظرة الدّاهية يبحث في العيون عن شيء ما فإذا ما شعر بالضعف والهزيمة لاذ بالصمت أو انتظر المدد من الداهية، ويظهر أنّه انتبه إلى وضعه فلم ينطق إلا بضع جمل، خالطها اختلاس النّظرات إليها . عبد آخر أمامها، طليق اللسان، يتغلّب على خجله، فتكاد تراه للمرّة الأولى:

ـ معي نصف ساعة مدّة الاستراحة فقط

فيهمس بصوت يكاد يكون مسموعا:

ـ خذي العمر كله!

مثل بالون تنفجر حرقة القلب، فيشعر العاشق بثقل يجيش في صدره. الزّيارة إلى الجامعة كشفت عن جرأته، ومقدرته على تنفيذ مايعتزم عليه، من غير تردد، ومن دون ما فكرة سابقة، وأدرك من طرف خفيّ أنّ ناهدة اهتمّت به، وهي تسأله عن الجامعة، ولم يكن في باله أنّها تتفق معه بصدد الدّراسة:

ـ أفكّر بتعيين مراقب جديد يكون بأمانة المرحوم ابن الرّواس ولعلي على الأغلب أعرض عن الدّراسة، وأتولّى مسؤليّة العمل بنفسي.

ـ ذلك أفضل، فليس هناك من يهمّه أمرك ومالك مثلك أنت، ومادمت حصلت على الإعفاء، فالأفضل أن تنمّي تجارتك!

ماذا؟أتراها تهتمّ به؟، ولكنّه يحتار وهي أمامه:

ـ عجيب وأنت نفسك طالبة جامعيّة!

ـ مجرّد قضاء وقت. أين أذهب من الملل، ولا مجال أمامي غير الجامعة(وأكّدت مرّة أخرى)ثق إنّه قضاء وقت، ولوكان عندي شغل مثلك، لما أتعبت نفسي!

ـ أتعنين أنّك لاتفرحين لنجاح أوتغتمّين لرسوب؟

ـ أبدا لا. مثلك تماما بعد أن حصلت على الإعفاء. (وصمتت لحظة) أخواي جلال، وحسن، لهما نفس الرّأي. سافرا إلى لندن لدراسة الطّب والهندسة، وكان والدي متيقنا من أنّهما بعد سنتين يتركان الجامعة، وينصرفان إلى التجارة، وفعلا تحقق ظنّه، وهما الآن من أصحاب الملايين.

كأنّها كانت تقرأ لوحة أفكاره. كان يلخّص ماضيه، والحاضر والمستقبل بنصف ساعة، أوّل السرّ في اختلاف آل النّمر أو بالتحديد بين عمّه الذي هام بالتّجارة ليحرّك من ورائها من يشاء أن يحرّك، ووالده الذي أراد أن يكون فلاحا ورئيس دولة، وامتدّ خياله، وهو مازال في مقصف الجامعة، بعيدا إلى بيروت، كما لو أنّ الطّاولة الصّغيرة التي تفصله عن ناهدة، أشبه برقعة خضراء، تنقله إلى لبنان حيث أمواله، وللمرّة الأولى يفكّر أن يصحب معه العمّ النّمر، فيستفيد من خبرته. ظمأ إلى الكلام، ونصف ساعة بدت العمر كله، وحين غادر الجامعة تيقّن أنّها آنست إليه، وانجذبت إلى حديثه، وللصورة تتجلّى معان كثيرة، يدركها بعد اللقاء، وكانت تلك الصّور غائبة قبل لحظات عن عينيه: تلميذات بتنّورات زرقاء، وقمصان بيض تنفر منها النّهود، وجوارب تغطّي السّيقان. طالبات الجامعة بأزيائهنّ الملوّنة، والمكياج، وتسريحات الشّعر. أين كانت تلك المشاهد عن عينيه؟ وكيف لم يلتفت إليها؟ وهاهو يرى ناهدة في كلّ الفتيات، مثلما يجد نفسه تتلجلج في كلّ العشّاق، وهناك أكثر من احتمال يرجّح كفته:الغنى، والمستقبل المضمون، وذلك مالمّحت إليه ناهدة من طرف خفيّ. سنوات طويلة في الجامعة ثمّ العسكريّة، بعدها التخرّج، والبحث عن وظيفة، ثمّ تأثيث بيت. كلّ شيء يسير لمصلحته، وقلب ناهدة …لايمكن أن يتصوّر ذلك. هاجس واحد يثير قلقه فقط، هو خوفه من الدّاهية. لم تتغيّر لحدّ الآن، على الرّغم من أنّ نهر جاسم نفسها نفضت عنها غبار الماضي، وراحت تستحمّ بدنيا جديدة، فهل لديه الجرأة كي يواجهها؟ وقد صدقت هواجسه، فحالما رجع إلى البيت، استدلت على تغيّره المفاجيء، فشكت بأمر ما يشغل باله. امرأة عجيبة تقرؤ الصّور والهواجس! كان يرى الفرح مرتسما على أيّ شيء: الأشجار. الماء. الطيور. البرّ المترامي الأطراف. هو ذات الشّعور الذي راود الأميرة، في قصة روتها الأمّ الحاجّة، فنذرت حين أحبّت الأمير أن تقبّل كلّ ما تقع عليه عيناها، ومادامت أقسمت، فقد وقع بصرها بعد النّخيل، والصّفصاف والماء، على شجرة صبّار، فانغرز الشّوك في جسدها البضّ وشفتيها الرّقيقتين، وظلت تنزف، فكان الشّفق من دمها، حقّا نهر جاسم وسط الحلقة التي تربط المانيا واليابان والجامعة محور العالم، مادامت ناهدة فيها:

ـ جعل اللّه كلّ أيّامك سعيدة ياولدي.

قالت ذللك، ووضعت يدها في يديه، ثمّ اقتادته إلى غرفة أمّه الحاجّة، وواصلت:

ـ أمّك مريضة وتريد أن ترى أطفالك، جعل اللّه يومي قبل يومها.

ـ أطال اللّه عمركما!

ـ إنّها إرادة اللّه ياولدي فهل تحقق أمنيتها؟

ودخلا على الحاجّة التي مازالت راقدة بسبب آلام الروماتيزم والضّغط. زادتها إرهاقا وفاة ابن الرّوّاس، فبدا وجهها ذابلا كالزّعفران:

ـ هاهو أمامك كلميه.

قالت بصوت واه:

ـ عبد لن يردّ لي طلبا، وهو ابني قبل أن يكون ابنك(وراح صوتها ينحدر ببطء)أهمّ شيء تخلّصنا منه هو الجنديّة، والآن جاء دور الزّواج. !

تراقصت الفرصة أمامه، فاندفع بعفويّة:

ـ أنا عند الطّلب.

تلألأ وجه الدّاهية بشرا:

ـ أرى أن يوطد عبد علاقته بالسّيد عبد العليم حتّى إذا انقضت فترة الحداد على روح المرحوم الرّوّاس نكون قد انتهينا من الموضوع.

ـ واللّه لن نجد أفضل من بيت عبد العليم، ولازوجة لابننا عبد أفضل من جميلة!

ـ أريد أن أعرف لماذا جميلة بالذات؟

الحاجّة الكبيرة، وهي تعتدل في جلستها:

ـ بنت أصل. ذات شرف. وأهلها أغنياء مثلنا.

ـ أتريد أكثر من هذا؟

أقرب إلى السخرية:

ـ ياداهية وياأمّي الحاجّة:ماذا عن الفرج المحروق، ولؤم عبد العليم، والمصائب، وو…

ـ نحن أهل نتعارك اليوم، ونتصالح غدا، وكان ذلك زمان مضى وانقضى، والعاقل لاينبش الماضي.

الحاجّة وهي تغالب حشرجة في صدرها:

ـ ياولدي المثل يقول حتّى مصارين المعدة تتعارك مع بعضها.

أمّا الداهية، فأكّدت هذه المرّة بإصرار:

ـ ماذا تطلب أكثر من الشّرف والغنى؟

قال على البديهيّة:

ـ مثل هذه الصّفات متوفرة في بنات عمّي(تعمّد ألاّ يعيّن واحدة) وهو أقرب إلينا على الأقلّ من أيّ غريب آخر.

ـ إعلم أنّ بعض الأقارب عقارب!

غير أنّ الحاجّة لم تأخذ كلامه بمحمل سوء قط، فقالت بصوتها المتهدّج:

ـ بنت المدينة التي تربّت على الوقاحة ولبس الملابس الضّيقة القصيرة هل يعجبها العيش معنا في نهر جاسم:ألا تسخر منّا حين نأكل بأيدينا…

الدّاهية تقاطع:

ـ مالها نهر جاسم؟ خسؤوا واللّه. لكن هل رأيت ملابس البنات الفاضحة، اللّهمّ سترك، المهمّ إنّ جميلة تربّت بين أحضاننا نحن، ونعرفها مثلما نعرف أنفسنا.

وأكدت الحاجّة الغائبة الحاضرة حيث بدأت هواجسها تتبلور مثل قطعة ملح فينطلق لسانها محتجّا:

ـ أغرّتك أصباغ بنات عمّك؟ ولو فعلت جميلة فعلهنّ لبدت ملكة جمال بحق وحقيقيّ، تقول للشّمس غيبي، وأنا في محلكّ!

ـ لا! قولي له ياحاجّة:من تستحق غير جميلة أن يقع عليها الاختيار لتقدّم وردا إلى رئيس الجمهوريّة.

مملكة القلب تكاد تتهاوى، فهل أدركت الدّاهية تبدّل عبد من قبل، وهي التي لاتخفى عليها خافية، فاختارت اليوم بالذات، واتّفقت مع الحاجّة، لتقطعا عليه الطّريق. الدّاهية عنيدة تريد العالم مقلوبا، لِمَ تنآى عن الأقربين، وتبحث عن الأباعد، أليست كخلق الله؟كان يخشى من ثورتها التي ربطت السّفر إلى بيروت، وتحويل الأموال والأملاك باسمه شرط الزّواج بجميلة، كأنّ آل عبد العليم النّاصريين لم يعودوا بوجه قديم مشوّه وشكل قبيح نسجته القرية حولهم من خيالها والواقع، وكانت الدّاهية مساهمة فيه من طرف خفيّ، وأكثر مايخشاه أن تلجأ إلى الدّموع فتظلّ تبكي ليل نهار إلى أن تلزم الفراش، وتفعل مثلها أمّه الحاجّة. لم يصبر على هواجسه طويلا، فمثلما يخشى انهيار الدّاهية يخاف الليل الذي لايعرف الرّحمة. كانت ناهدة تنام ليلة أمس مطمئنّة بين ذراعيه، ولعلّ عناد أمّه يهدم مملكة القلب، فكيف يستقبل الليل وفي صدره يتلجلج الكلام، ولاأحد أقرب إليه من رفيق الطفولة حسن:

ـ غدا لن آتي إلى المدرسة فحذار أن تذكر للداهية شيئا عن غيابي.

ـ خيرا؟

ـ سأذهب لأقابل عمّي.

ساخرا:

ـ هل أنت مريض.

ـ أيلوح على ملامحي شيء؟

ـ ظننتك جئت في مثل هذه السّاعة تطلب منّي أن أزوّدك باستمارة للإنضمام إلى الحزب، وإذا بي أكتشف أنّك تعزف على النّغمة ذاتها. سلامة عقلك!

الحبّ نكتة، كما هي السّياسة عند حسن. دخل الإتّحاد الوطنيّ بنكتة يأمل من ورائها الحصول على امتيازات، وهكذا الحبّ:

ـ دعنا الآن من السّياسة والحزب. أتدري لم أذهب إلى عمّي؟

مازال متهكّما:

ـ الحبّ هكذا فجأة؟!

ـ الحبّ لايحتاج إلى تخطيط بل يهجم فجأة!

ـ حسنا ومن هي المحظية السّعيدة.

ـ سأقول لك شرط أن توقف هذا المزاح السّخيف. لقد جئت إليك وعلى صدري جبل من الكلام لعلي أجد أذنا صاغية عندك لا أن أصمت أنا لتثرثر أنت.

ـ أعدك.

ـ ناهدة بنت عمّي.

متأمّلا قليلا:

ـ كلّ أهل نهر جاسم يعرفون أنّ الدّاهية بصدد خطبة جميلة!

بهزّة من كتفيه:

ـ لا أدري لم تصر الدّاهية على آل عبد العليم؟

ـ وهل تعرف ناهدة بعواطفك؟

ـ ربّما لقد ذهبت إلى الجامعة وقابلتها.

بعد صمت قصير:

ـ الشّيء المحيّر لم اختارت أمّك الأبعد، وابتعدت عن القريب؟

ـ سألت نفسي السؤال ذاته، ولم أجد جوابا غير أنّ الدّاهية تريد العالم مقلوبا أو أنّها تُعنى بالدّفاتر القديمة ولاتهمّ بنسيان الماضي.

حسن بعد أن تأمّل مرّة أخرى:

ـ لعلّ الدّاهية وضعت في اعتبارها أمرين الفارق الاجتماعيّ والدّراسي.

ـ قضيّة الدّراسة ناهدة نفسها لاتعنى بها وقد عرفت وجهة نظرها منها، أمّا الغنى، فنحن أغنياء أيضا.

ـ قد أكون أنا غنيّا، وأنت، لكننا نظل فلاّحين. لاتكابر ياعبد، بيت عمّك انقطعت صلتهم بالقرية منذ عقود، وأصبحوا بعد 17 تمّوز بحكم علاقات عمّك بالمسؤولين في عداد أصحاب الملايين، المهمّ قد لايعدّ هذا عائقا، بالنّسبة لهم، غير أنّ الدّاهية تريد لك زوجة في متناول يدها وتظلّ هي صاحبة الوصاية والنفوذ.

كان يريد أن يستبق الليل ووساوسه، وفي كلام حسن بعض العزاء وبعض اليأس فلم يجد فيه الشّفاء ، وإن كان جبل من الشّكوك والأوهام انزاح عن صدره ولو إلى حين، وفي اليوم التالي حيث أشرقت الشّمس بعد ليل مليء بالحيرة والوساوس قصد مكتب عمّه في العشّار، والحقّ أنّ النّمر بدأ يألف عبد، ويأنس إليه، خاصّة بعد أن توسّط له في مسألة الإعفاء، ولم يخب ظنّ الرّجل في أنّ هناك أمرا ما :

ـ جئت أشكو إليك أمّي ياعمّي!

ـ إنّ للداهية عليك حقّا، فهي ذات عقل راجح، ولاتريد لك إلا الخير.

والانفعال يلوح على وجهه:

ـ إنّها تريد أن تنفّذ عليّ إرادتها كما لو كنت صغيرا من قبل.

ـ مهما يكبر المرء يظلّ صغيرا بعيني أمّه وأبيه(وواصل بعد تأمّل قصير) تذكر أنّها مارست عليك الوصاية بعد وفاة المرحوم والدك، وربّما يصعب عليها الآن أن تتجرّد من كلّ حقوقها بهذه السّرعة.

ـ لكن ماذا أفعل إزاء عنادها إذا أصرّت أن لاسفر إلى بيروت قبل أن يتمّ الإعلان عن خطبتي.

ـ في هذه الحالة أقول بكل صراحة أمّك مخطئة. مسألة السّفر لابدّ منها بل لايلزم تأخيرها إطلاقا. جوّ بيروت بدأ يتلبّد ومن الحماقة أن تؤخّر الدّاهية سفرك، أمّا إذا كنت تريد أن أتدبّر الأمر معها فلا مانع عندي شرط أن لاتعرف أنّك قصدتني.

ـ لهذا جئتك ياعمّي.

هاهو النّمر يعود. بعد تمرّد طال زمنه، وعهد طويل ابتلع حكومات وأحداثا، تذكّر النّمر أهله، وحاجته إليهم، مهما يكن يظلّ أيّ منهما النمر الكبير أو الصّغير، ابن العائلة العائد، أمّا الحاج عباس، والحاجّة رقيّة، والداهية، وغيرهم فيظلّون غرباء عن العائلة:

ـ حسنا دعني بعض الوقت وسوف يتمّ لك ماتريد.

ولم يكن مخطئا، فهو على يقين تام من أنّ عبد سوف ينفجر بوجه الدّاهية. لقد انتبه إلى أنّ طبيعة عمله في الوكالة وشركاته الأخرى جعلته يحتكّ بمستخدمين، وعمّال، وزبائن من فصيلة ابن أخيه، يرمون ماعندهم دفعة واحدة بصراحة بلا لفّ أو دوران، وقد استنتج، وهو الكهل المحنك العارف الخبير بالنّاس من نظراتهم، أنّ للفتى رغبة في إحدى بناته، وهو أمر يتفق مع هواه في أغلب الحالات، ويتجاوب مع متطلّبات بنته الكبرى ناهدة. عبد قريب العائلة تتوفّر فيه القدرة على فتح بيت والصرف والسّفر، والعيش في أوروبّا، وبغضّ النّظر عن كثير من العيوب التي ربّما لايمكنه التّخلّص منها على المدى البعيد، فإنّه، والحقّ يقال، أثار إعجاب ناهدة، بجرأته اللافتة للنظر منذ فاجأها باقتحامه عالم الجامعة، وهو معنى استشفه الأبّ من خلال ترددعبد عليه في مكتبه بالعشار، وجهده في قطع الطّريق على الدّاهيه.

 

د. قصي الشيخ عسكر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم