صحيفة المثقف

جمعية الفنانين العراقيين: صرح حضاري يناطح السحاب

كاظم شمهودكانت المقاهي في القرن التاسع عشر الميدان المفضل الذي يجتمع فيه الفنانون والادباء والشعراء، وكانت دردشاتهم تستمر الى ساعلات متاخرة من الليل، ولهذا اصبحت هذه الاماكن بمثابة مراكز ثقافية وفنية يتغذى منها الشباب الطلائعي الذي يبحث عن التغيير والتجديد . وقد اشتهرت في ذلك الوقت مقهى weber في حي مونتمارت في باريس ومقهى اربع قطط els quatre gats في برشلونة والذي كان يتردد عليها بيكاسو في بداية حياته، وغيرها .

و يعود الفضل الى هؤلاء الشباب الطلائعيين في تكوين التجمعات وانشاء الجمعيات الفنية حيث كان التفاعل والتقاطع في الافكار والرؤى وما ينطوي عليه من المبادئ النظرية والعلمية و الفنية، دفعت الفن في القرن العشرين الى التحول من الخطاب الكلاسيكي الى خطاب الحداثة، وكذلك ما حدث في الشعر الكلاسيكي وتحوله من الاوزان(فاعل وتفعيلة) الى الاستعاضة عنه بالايقاع و الموسيقى .. روابط الفنانين الحديثين

يذكر البعض ان تطور الفن العربي جاء انعكاسا لحركة الاصلاح التي قام بها جمال الدين الافغاني ومحمد عبده في القرن التاسع عشر حيث دعا الى الاصلاح والتجديد في الفكر الديني والخروج من الجمود والتحجر الذي ادى الى تأخر الامة العربية قرون عديدة ايام الاستعمار العثماني .... ثانيا كان للاستعمار الاوربي للدول العربية ايجابيات ومنافع والمثل يقول (رب ضارة نافعة) حيث اخرجوا هذه البلدان من التخلف ونقلوا التكنولوجيا والحداثة اليها، كما حدث لدور العرب سابقا في القرون الوسطى حينما انقذوا اوربا من التخلف والضياع ومدوها بصنوف المعارف والعلوم .. ولهذا اخذ الفنانون العرب يتطلعون الى التجديد والتغيير واتخاذ الفن الغربي كنموذج لهذا التغيير والتحرر فتشكلت الجماعات الفنية ثم الجمعيات وبعدها الروابط الفنية .و اتذكر قول للمفكر والناقد جبرا ابراهيم جبرا يقول لا ظير ان نأخذ من الغرب مظاهر الفن المعاصر ما داموا هم سابقا اخذوا منا ...

يذكر ان مصر كانت السباقة في حركة الفن العربي الحديث وحتى في مجال الصحافة مثل مجلة صباح الخير وروز اليوسف في نهاية القرن التاسع عشر ، وقد تأسست اول جمعية للفنانين التشكيليين عام 1936 تحت عنوان / رابطة الفنانين المصريين / وقبلها تأسس المجمع المصري للفنون عام 1932 .. كما تأسست اول جماعة في مصر تسمى / جماعة الظل / والذي اشرف على رئاستها الفنان محمود مختار عام 1928 .. وفي عام 1908 تاسست اول مدرسة للفنون في مصر . فهذه الصفحة المشرقة الناصعة لحركة الفن المصري تعطينا فكرة واضحة عن بداية الفن العربي الحديث وريادة مصر ..

بداية تأسيس الجمعية:

312 ماهود احمدفي العراق تاسست جمعية الفنانيين التشكيليين عام 1955 بمبادرة من الاستاذ خالد الجادر حيث دعى الفنانين الرواد الى الاجتماع في بيته لدراسة فكرة المشروع ووضع الاسس والنظام الداخلي الذي تبنى عليه وقد لبى الجميع الدعوة وانتخب اول رئيس لها الدكتور المهندس المعماري محمد مكية واكرم شكري نائبا وخالد القصاب سكرتيرا.. وكان بيت خالد القصاب مقرا لها لمدة سنتين .... ثم شيدت بناية الجمعية الحالية وكان الملك قد تبر ع بقطعة ارض في مدخل مدينة المنصور وشيدت بنفقة مؤسسة كولبنكيان البريطانية.. وافتتحت عام 1967 وكان قد صمم عمارتها الاستاذ قحطان المدفعي والتي جاءت بتأثيرات من عمارة دار الاوبرا في سدني ... وبالرغم من التعارض في الاساليب والافكار من يسارية وقومية ودينية ورغم التبعية الى الفن الغربي في المدارس والاساليب والتقنيات الا انهم كان لهم الفضل الكبير في بذر الحبة الاولى في السعي الى خلق فن معاصر في العراق.. فتأسيس الجمعية كان هو محاولة لجمع الاضداد والشتات والتعرف بعضهم على بعض لاثراء واغناء الحركة التشكيلية في العراق . يضاف الى ذلك ان ظهور الجمعية هو بمثابة الاصرار على الوصول الى افضل واسمى الوسائل التي ترفع مشروع التفاعل البعيد والقريب من تراث ومعاصرة، وولادة فنا جديدا في كل صوره وافكاره، وبالتالي هذه الجمعية جاءت كخطوة ظرورية وصورة تفاعلية مع النظريات الفلسفية والعلمية المعاصرة... فالفن هو واحد ومفهومه واحد سواء كان عند الانسان البدائي القديم او الفنان المعاصر فليس له ماضي ولاحاضر انما هو فن وجد منذ الخليقة ويبقى الى الابد مثله كمثل الجمال المطلق يمكن ان تجده في كل زمان ومكان وفي الفكر او الشكل (ان الله جميل يحب الجمال) فالجمال اذن مستمد من الله (او الطبيعة حسب البعض) ولذلك فهو ازلي .. اما التطور فهو يحدث في المظاهر والاشكال والاساليب والتنظيرات الفكرية الفنية ..

و رغم الظروف الصعبة التي مرت بها الجمعية من ضعف في الحركة والنشاط والاغلاق احيانا خاصة ابتداءا من مطلع السبعينات الا انها بقت على خط اللامنتمي ثم دخول البلاد في صراعات حزبية وحروب دولية وحصار عالمي دامت حوالي ثلاثة عقود كل ذلك اضعف البنية التحتية للجمعية وجمد انشطتها الفنية تقريبا مما ادى الى هجرة وغياب مؤسسيها الرواد الى الخارج مثل خالد الجادر الذي عاش ومات في السعودية وغيره ..

الجمعية بعد سقوط النظام:

311 جميل حموديوبعد سقوط النظام البعثي تعرضت الجمعية الى السرقة والعبث والتهديم والاهمال وبقت هكذا سنوات عديدة حتى جاءت ثلة من الشباب الواعي والحريص على وطنة وتاريخه ان ينهض بهذه المؤسسة الفنية العريقة من جديد ويعيد امجاد رواد الفن العراقي الحديث .كما تعرضت كثير من التماثيل الى الاختفاء والسرقة والتشويه وكان آخرها قطع اصابع تمثال ابو نؤاس؟؟... ويذكر ان الفنان قاسم سبتي كان من ضمن هؤلاء الاشراف الذين قاموا باعادة اعمار الجمعية بمساعدة ودعم بعض المؤسسات الاجنبية ومنها منظمة الامم المتحدة... اليوم اصبحت الجمعية قامة من قامات الفن العربي سواء كان في نشاطاتها الثقافية او الفنية او دعم الانشطة الاخرى كالمهرجانات السنوية والمسابقات الدورية وتكريم الباقي من الرواد والمبدعين .. (فما جزاء الاحسان الا الاحسان) كما ازداد عدد اعضائها الى اضعاف ما كان عليه سابقا وقد شاهدت معارضها السنوية الاخيرة تزدحم باعمال الشباب الواعي المثقف حيث ترقى في مستواها الى صف الفن العالمي المعاصر.. واستطاعت بحسن ادارتها والقائمين عليها من دعم مجلتين هما مجلة باليت ومجلة تشكيل واستطاعت ان تعتمد على نفسها في التمويل الذاتي المادي من خلال النادي والمطعم والكراج التابعة لها كما اصبحت لها انشطة ومعارض متحركة وفروع في المحافظات وخارج البلاد .. يضاف الى ذلك ما يأتيها من مساعدات تأتي من منضمات ثقافية انسانية ...و قد حدثني رئيس الجمعية الاخ الفنان قاسم سبتي 2018 ان الجمعية احيانا تساعد بعض المحتاجين المقطوع عليهم السبل من الفنانين والمثقفين ... اما الدولة فيبدو انها غائبة و مشغولة في دعم احزابها والدعاية لها ، بالاضافة الى ذلك جهلها في دور الفن في خلق الثقافة والمتعة والجمال والتجمل والذي حث عليه الدين (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) (قل من حرم زينة الحياة الدنيا) .. وحتى هذه الخطابات الدينية والمفاهيم الاخلاقية اهملت وتركت على رفوف الاغبار؟؟ تحياتي .

 

د. كاظم شمهود

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم