صحيفة المثقف

حول "معاداة السامية".. والجدل التاريخي بشأنها

محمد العباسيهل مشاعر الكراهية مجرد داء.. مرض نفسي؟ قد يتفق البعض على أن هكذا مشاعر ليست طبيعية، بل تتكون مع أشخاص معينين بسبب مواقف معينة.. وقد تنمو وتترعرع بين الأضلاع مثلها مثل شتى أشكال المشاعر، الإيجابية منها والسلبية.. غير أن للكراهية آثارها البينة، حيث أنها قد تتسبب بالمضرة لحاملها قبل غيره ممن هي موجهة ضدهم. أنا شخصياً مثلاً أحمل كماً من الكراهية ضد الحركات الصهيونية، لكنني لا أحمل أية ضغينة ضد الديانة اليهودية ولا اليهود أنفسهم بشكل عام.. بل تعرفت وتعاملت وصاحبت في حياتي الكثير من اليهود، ولم أختلف معهم إلا في شئون عامة، بعضها أكاديمية أو إجتماعية أو حتى سياسية.. ونادراً ما تناقشت وإياهم في الإختلافات العقائدية.. ورغم إختلاف الروئ لم تتكون بيننا الضغائن !

أما مشاعري السلبية تجاه الصهاينة فمنبعها يتمحور حول القضية الفلسطينية بشكل خاص وهذا الشعور متأصل في جذور أفكاري.. وهي ليست كراهية ضد أصحاب دين مختلف، بل من حيث المبدأ، ضد الظلم الذي أوقعوه في فلسطين وقمعهم المستمر للشعب الفلسطيني بكل أطيافهم وأديانهم وأعراقهم.. ومن ذات المنطلق أحمل مشاعر سلبية ضد السياسات الأوروبية والأمريكية التي كانت وما زالت ترعى وتدافع عن حق اليهود في إغتصابها لفلسطين.. وتنسى حقوق الشعب الفلسطيني المنكوب الذي يتعرض لشتى أنواع الإضطهاد والتفرقة والظلم والإستبداد منذ معاهدة "سايس-بيكو" المشئومة و"وعد بلفور" اللعين!!

فاليهود منذ أبد التاريخ كانوا يتعرضون لشتى أشكال التفرقة والكراهية بسبب هيمنتهم على مفاصل الحياة وولعهم بالمال وشغفهم بالذهب والتجارة بكل أشكالها، ومنها تجارة السخرة والعبودية والبغاء.. وكانوا يمتازون بصفات خبيثة مثل نكثهم الدائم للعهود والمواثيق ولإصرارهم على تكرار مقولة أنهم "شعب الله المختار".. فمنذ عصور اليونانيين والرومان حتى العصور الوسطى، إلى أوائل القرن الماضي، كانوا منبوذين في أوروبا وأمريكا.. وأدبيات تلك الأزمنة تحتوي على الكثير من الإزدراء تجاه اليهود وتظهرهم بأبشع الصور وتصفهم بصفات الجشع والخبث والدهاء ومعدومي الثقة. كراهية اليهود أو كره اليهود هو مصطلح يشير إلى مجمل المعتقدات والممارسات والدعايات التي قادت إلى ازدراء اليهود كجماعة واضطهادهم ليهوديتهم، ويعتبر بعض الدارسين أنها امتدت على مدى فترة تفوق الثلاثة آلاف سنة، يشمل بعض دارسيها صراعات شعوب العبرانيين والإسرائيليين ويهودا بالشعوب المجاورة ضمن أصولها، ويربطه البعض الآخر بعلاقة وطيدة بالخلاف حول مفهوم الإله والرب بين الرومان واليهود، وامتد تاريخ الكراهية والاضطهاد من بعدها للمسيحية الرومانية والإسلام ومن ثم الكنيسة الكاثوليكية ووصولها لاحقاً إلى كراهية قومية-عرقية تمثلت بالنازية و"معاداة السامية"، وتظل أشكال متنوعة منها مستمرة حتى اليوم (ويكيبيديا).

ففي القرن الثامن عشر مثلاً ظهرت في إنجلترا وإيطاليا والولايات المتحدة أشكال قوية من الممارسات التي يمكن وصفها بمعاداة السامية. وفي أول مؤتمر دولي لمعاداة السامية اتفقوا على ضرورة تطبيق قيود متعصبة ضد اليهود.. وقد أعطى "هوستون ستيوارت تشامبرلان" قاعدة فلسفية لهذا المفهوم وذلك بوضعه الألمان على قمة هرم البشرية ووضعه اليهود في أدنى سلم البشرية.. وبعد الحرب العالمية الأولى أدى نشر "بروتوكولات حكماء صهيون" إلى دعم الاتجاه المعادي للسامية، فقد أظهرت البروتوكولات رغبة يهودية في السيادة العالمية مما أدى إلى إحياء الدعاية المعادية لليهود.. وقامت ثورات عنيفة ضد اليهود في المجر عام 1920. وفي الولايات المتحدة دعم "هنري فورد" الحركة المعادية لليهود معنوياً ومالياً.. وفي ألمانيا جعل "أدولف هتلر" معاداة السامية أحد المبادئ الأساسية لبرنامج حزبه النازي.

ابتدعت الصهيونية مفهوم "معاداة السامية" وبدأت توظفه لتحقيق مصالحها بعدما اتخذت القيادات الصهيونية من ظاهرة معاداة السامية ذريعة لفصل الجماعات اليهودية في أوروبا عن المجتمعات المسيحية التي كانت تعيش بينها، وطورت على أساسها الفكرة القومية الموجهة لإنشاء ما يسمى بالوطن القومي لليهود.

ربما يكون من أول المفكرين الصهاينة الذين تناولوا ظاهرة معاداة السامية بالتحليل "ليو بنسكر" الذي فسرها على أنها ظاهرة مرضية وعقدة نفسية دائمة أصيب بها الإنسان الأوروبي المسيحي، وهي ليست فقط ظاهرة اجتماعية أو اقتصادية كما قد يعتقد الكثيرون.. فمعاداة السامية في رأي "بنسكر" هي كراهية "الغريب"، وطالما أن اليهود أقلية في كل مكان يعيشون فيه فهم كالأشباح المطاردين في كل مكان، وغرباء على كل الشعوب التي تكره بطبيعتها كل ما هو أجنبي عليها.. وهكذا فسر أن السبب الأول في كراهية اليهود هو أنهم لا ينتمون إلى الأوطان التي يعيشون فيها، ومن ثم فهم عنصر "شاذ" غير مرغوب فيه، حتى لو حاولت الجماعات اليهودية تغيير أوضاعها داخل هذه المجتمعات، فالتغيير اليهودي لن يجلب رضا الأغلبية.. ولهذا يؤكد "بنسكر" أن اليهود أجانب على المجتمعات التي يعيشون فيها، وأن حلم اندماجهم في هذه المجتمعات لا يمكن تحقيقه.. وهذا في رأيه ليس مرجعه أن اليهود غير قادرين على الاندماج، ولكن لأن الأغلبية لن تسمح لهم بذلك.

و هكذا بدأت تنشأ فكرة نقل اليهود وتهجيرهم من أماكنهم إلى قطعة أرض يملكونها فيصبحون أمة طبيعية، ويتغير هذا الوضع غير الطبيعي في رأي "بنسكر".. ويجب أن نلاحظ أن "بنسكر" لم يصر قط على أن هذه الأرض التي يتحدث عنها هي أرض فلسطين بالذات، ولكنه اقترح أرضاً تلائم الاستيطان الحالي لليهود كجزء من القارة الأميركية مثلاً، حيث يستطيع اليهود أن يتموا تحررهم.. ويظهر من هذا تأثر "بنسكر" بالأفكار التحررية التي ترى مبدأ التحرر اليهودي أساساً لحل المشكلة اليهودية، كما يظهر هذا في رغبته في قبول اليهود على قدم المساواة في العالم مع غيرهم من الشعوب، وربما ترجع أصول هذه الفكرة إلى مبادئ المساواة التي بثتها الثورة الفرنسية.. وقد عبر عن آرائه الصهيونية في مقال بعنوان "التحرر الذاتي: نداء من يهودي روسي إلى شعبه" (موقع الجزيرة الإلكتروني).

و يبدو جلياً أن "ثيودور هرتزل" إستقى أفكاره من "بنسكر" فأحس بوطأة معاداة السامية منذ مراحل عمره الأولى.. وأيقن بأن مسألة ذوبان اليهود في مجتمعاتهم الأوربية وأمريكا وقبولها لهم ما هي إلا سراب، وأن التنوير الأوروبي والكلام عن حقوق الإنسان والمواطنة لن يجدي نفعاً في أن يعيش اليهود كمواطنين من الدرجة الاولى، فاستجمع أفكاره وفصلها تفصيلاً مغرياً وغلفها بطابعٍ دينيٍ وعزف على وتر "المظلومية"، ووضعها في كتابٍ يحمل الأمنية التي يجب أن تتحقق لتجميع يهود العالم وسماه "الدولة اليهودية". ويمكن أن نصف "هرتزل" بأنه الأب الروحي للصهيونية العالمية في العصر الحديث، وهو قد نجح في توظيف الدين في النداء لنشأة دولة لليهود تجمعهم وتكون لهم الملاذ الآمن من نقمة الأوروبيين والأمريكيين ومن كافة أشكال الإضطهاد الموجه ضدهم كشعب مستضعف. ومن هنا تعتبر الرسالة التي بعث بها وزير الخارجية البريطاني "آرثر بلفور" عام 1917 إلى اللورد "روتشيلد" أحد زعماء الحركة الصهيونية والتي عرفت فيما بعد باسم "وعد بلفور"، أول خطوة يتخذها الغرب لإقامة كيان لليهود على تراب فلسطين.. بعد أن تم الإتفاق على تقسيم الشام بين إنجلترا وفرنسا فيما عُرف حينها بإتفاقية "سايكس بيكو" في 1916.

فالبرغم من إختيار "فلسطين في نهاية الأمر، غير أنه كانت هناك مقترحات سابقة لإنشاء وطن لليهود في منطقة في أمريكا "سُميت "أرارات"، وأيضاً تم إقتراح منح "أوغندا" كدولة لليهود ضمن مقترحات عديدة.. ويقول الكاتب "فهد عامر الأحمدي" (موقع الرياض الإلكتروني) أن عمر إسرائيل ليس طويلا ولا يتجاوز الـ 70 عاماً فقط.. وظهورها في فلسطين لم يكن مطروحاً أصلاً، حين كانت الحركة الصهيونية تبحث عن وطن لليهود.. فقبل فلسطين طُرحت إقتراحات بإقامة وطن لهم في أوغندا وموزمبيق والكونغو والأرجنتين وشمال أفريقيا وشرق أستراليا، بل وإنشاء ولاية خاصة بهم في أميركا.. كانت كل الخيارات مطروحة حتى موعد عقد المؤتمر الصهيوني الأول (في 29 أغسطس 1897) في مدينة "بازل" السويسرية.. وهناك ضغط مؤسس الحركة "ثيودور هرتزل" لإختيار فلسطين (التي حاول قبل ذلك شراءها من السلطان عبدالحميد الثاني بعشرين مليون ليرة ذهبية قبل دخولها تحت الوصاية البريطانية).. وبين تاريخ عقد المؤتمر (1897) وتاريخ قيام دولة إسرائيل (1948) عملت الحركة الصهيونية على تشجيع الهجرة إلى فلسطين، والعزف على مذابح النازية في أوروبا، ومساومة الحكومة البريطانية حتى حصلت على "وعد بلفور" الشهير!

الغريب أكثر؛ أن قسماً كبيراً من اليهود أنفسهم لا يؤيدون قيام دولة إسرائيل ويعتبرون ذلك مخالفاً لنصوص التوراة.. فهناك فرق كبير بين اليهودية (كديانة سماوية) والصهيونية (كحركة قومية) تسعى لجمع الشتات اليهودي في وطن خاص بهم.. جل اليهود المتدينون يؤمنون بأن الله كتب عليهم التشرذم وعدم التجمع حتى يوم القيامة (و بالتالي) يعتبرون تجمعهم في فلسطين نذير شؤم وغضب جديد سيحل عليهم من الله.. وكانت تجمعات يهودية كثيرة قد أعلنت منذ البداية معارضتها إنشاء دولة يهودية في فلسطين، من أبرزها يهود ألمانيا الذين منعوا "هرتزل" من عقد مؤتمره الصهيوني الأول في "ميونيخ" كما كان مقرراً فاضطر لنقله إلى "بازل".. أما يهود أميركا فنظموا مؤتمراً في مدينة "مونتريال" الكندية في نفس توقيت مؤتمر "بازل" في سويسرا، وأصدروا بياناً اعترضوا فيه على محاولة إنشاء دولة يهودية واعتبروا ذلك مخالفاً للرسالة اليهودية التي يجب أن تنحصر في طابعها الروحي وتنتظر الإذن بإنشاء "مملكة الرب على الأرض"!.. وفي أيامنا هذه توجد حوالي 27 منظمة يهودية مناهضة للصهيونية تنادي بتسليم فلسطين لأهلها - من أبرزها منظمة "يهود ضد الصهيونية" في أميركا واتحاد "ناتوري كارتا" في أوروبا.

وقد كان "هرتزل" ذاته يعتقد أن القوى الكبرى يجب أن تعمل من جانبها على مساعدة اليهود في التخلص من العداء للسامية عن طريق إنشاء دولة يتم تهجير اليهود إليها فيتحقق لهذه الدول (الغربية) الخلاص من العنصر اليهودي، وتنتهي بذلك ظاهرة معاداة السامية.. وهكذا جعل "هرتزل" معاداة السامية مشكلة العالم الغربي وليست فقط مشكلة خاصة باليهود.. وقد حرص "هرتزل" على التركيز على هذا الرأي في المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في "بازل" عام 1897، مستغلاً كراهية الشعوب الأوروبية للعنصر اليهودي.. مبيناً أن العنصر اليهودي في أي مجتمع من المجتمعات مجرد عنصر مثير للاضطراب والتمرد داخل تلك المجتمعات، وهذا أمر يتعلق بطبيعة اليهودي، فهو بطبيعته لا يستطيع الحياة مع الشعوب الأخرى، مؤكداً في غايته أن اليهودي وإن عاش بينهم فلن يكون أبداً عنصراً مفيداً، بل هو عنصر مدمر لقوة هذه الشعوب ومحرضاً على الثورة وقلب الأوضاع.

وقد استند "هرتزل" إلى هذا الرأي في مراسلاته مع ملوك وحكام أوروبا، فقد صور لهم أن بقاء اليهود داخل المجتمعات التي يحكمونها ليس في صالح هذه المجتمعات ولا في صالح حكوماتها، ولهذا يجب على هذه الحكومات تشجيع فكرة الصهيونية وإنشاء الوطن اليهودي حتى تتخلص هذه الحكومات من العناصر المناهضة لها !!

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم