صحيفة المثقف

صفحة من ذكريات التلمذة

كنت لمّا أزل على أعتاب الطفولة حينما غيّر والدي مكان سكننا من لبّ الأعظمية الى أطرافها حيث ابتنى لنا بيتا في إحدى ضواحيها - سبع أبكار - ما كانت تبعد عن ناحية الأعظمية وما زالت الا بضعة كيلومترات غير إنها آنذاك أقرب للريف منها للمدن العامرة . لا ماء فيها ولا كهرباء والأهم لا طريق مبلط ولا مواصلات وفي الشتاء غاصت أرجلنا حتى قبيل الركبة في الطين المبارك . كنت في أشهري الأُولى من المتوسطة فعانيت ما عانيت أنا وأُخوتي وصويحباتي في المنطقة الحديثة متباعدة البيوت.. عانينا في الوصول الى مدارسنا في الوقت المحدد . ولطالما مررت ببيت زميلتي "وفاء" منذ الصباح الباكر وترافقنا باقي الطريق الى المدرسة مشياً نصعد الى كتف نهر دجلة في "الدهاليك" محاولتين الحصول على مكان في الباص الخشبي العتيق الذي كان يصل الى عمق " الكريعات " ليعود الى شارع عمر بن عبد العزيز ومن ثم الى باب المعظم . حيث نترجل بموازاة الأعظمية ونعاود المشي وصولا الى المدرسة . طالما كانت مسيرتنا اليومية هذه موحشة وصعبة ومنهكة لقوانا ولكننا لم نتغيب يوما واحدا أبداً وكان جَلدنا طبيعياً لا تصنع فيه ولا ضجر منه فقد كانت كلتانا جادتين في طلب العلم "أصبحت وفاء طبيـبة أسنان" كانت لنا مغامرات في اقتناص سيارة أو باص لينقلنا الى المدرسة صباحاً وهو الوقت الأولى بحرصنا على عدم تفويته . ولا زلت أذكر بغاية الوضوح حتى كأن الأمر حدث بالأمس لا قبل ستين عاماً إحدى هذه المغامرات حيث وقفنا على كتف النهر في الشارع ننتظر الباص الخشبي وطال انتظارنا بلا جدوى فقد مرت بعض الباصات الخشبية محشورة بالركاب فلا مجال لنا قط ... تحيرنا والدقائق تحث خطاها والزمن يتآكل منذرا بتأخرنا عن الدوام وكان ذلك في عرفنا - نحن الصغيرتين - أمرا كارثياً لم يسبق منا حصوله ، تقارب رأسانا نتشاور ونحن نرى عربة - ربل - تقترب منا أوقفنا الرجل وسألناه عن النقود التي يريدها ليوصلنا الى المدرسة حدد الرجل ما يريد وبسرعة أحصينا ما معنا من نقود ولله الحمد كانت مثلما طلب فصعدنا العربة التى يجرها حصان واحد ظل يخب بنا تارة ويتمهل اخرى ونحن نحترق مثل الجمر محدقتين بساعتينا عاضتين على شفتينا بين آن وآخر دون أن نجرؤ على استعجال الرجل أو حث الحصان على الإسراع وأخيرا وبعد ما يزيد عن ثلث الساعة من بدء الدوام الرسمي وقفت بنا العربة أمام المدرسة لتركض كل منا الى صفها لا أدري ما الذي فعلته وفاء وبم اعتذرت لمدّرستها عن التأخر غير إني طرقت باب الصف بعجالة ودون أن أسمع رأي المدرسة ألقيت بجثتي فوق رحلتي وبدأت معزوفة غريبة لا انتهاء لها وكان بكائي متصلا لا انقطاع فيه مما أربك درس الهندسة اللذيذ الذي كانت تلقيه البارعة " ست ثامرة المختار " ألقت المدرسة الطبشور من يدها واتجهت نحوي انحنت المدرسة الشابة عليّ بحنان بالغ وهي تظن أن نكبة ما تعرضت لها أو إن موتا عنيفا حصل في بيتي أو قدامي عند قدومي للمدرسة، وبالكاد بعد انتهاء الزلزلة البكائية المتطاولة على الزمن وعلى الدرس وحين استطاعت المدّرسة تهدئتي وفهم الأمر طبطبت على رأسي وسألتني مسح دموعي ومرافقتها الى السبورة لنستأنف الشرح ثم سألتني عن اسمي وجعلت اسمي واسمها على رؤوس المثلثات التي رسمتها بالطبشور على اللوحة السوداء وبذا امتصت بؤسي وحزني وكسبتني لعلم الهندسة الى اليوم .

***

سمية العبيدي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم