صحيفة المثقف

رب واحد.. دين واحد

محمد العباسيقبل 35 سنة دخلت في مناقشة مع بعض الأجانب في أمريكا حول موضوع الأديان.. وعلمت كم الجهل من ناحيتهم حتى بأديانهم.. وكانوا بشكل عام يكررون قول ربنا وربكم وهكذا توصيف، وكأن من خلقنا ونعبده غير خالقهم.. فسألتهم إن كان هناك أكثر من إله وخالق للبشر.. وكان جوابهم دونما تفكير بأن هنالك أكثر من إله، إله لكل دين على الأرض.. لكنهم بعد تكراري للسؤال وقعوا في حيرة من أمرهم.. وباتوا حيارى حول موضوع الخالق! فعادوا في قرارهم بالإتفاق بأن الخالق واحد!!

فسردت عليهم أسماء الأنبياء والرسل من آدم حتى عيسى بمسمياتهم العربية في ديننا والمسيحيين منهم مشدوهين غير مصدقين بأننا في الإسلام نتبع نفس الرسل والأنبياء، وأننا نعترف بالمسيح ومريم ونعترف بموسى وبالكتب السماوية وذات الجنة والنار.. وناقشتهم في موضوع الخالق الواحد الذي خلق كافة البشر.. فمن المستحيل أن يكون في العرش أكثر من خالق واحد.. فهل يعقل أن يكون في السماء مثلاً 10 آلهة وكل منهم يخلق بشراً على مزاجه ويدفعهم لإتباع دين ورب مختلف؟ رغم أننا إتفقنا على أن الخالق واحد، غير أن النقاش إمتد إلى موضوع إختلاف الأديان.. حيث أنه إذا كان الخالق واحد فمن المفروض أن الجميع يعبدون نفس الخالق والمنطق حينها أن يكونوا جميعهم يتبعون نفس الديانة! بصراحة، لم أستطع حينها (قبل 35 سنة) أن أناقشهم في هذا الأمر، ولم أرغب حينها الدخول في سجال حول مفهومنا بأن المسيحية واليهودية كمثال قد تعرضتا للتشويه والتغيير وأخطاء في الترجمة من اللغات الأصلية التي أنزل بها الله كتبهم السماوية إلى لغات أخرى عبر التاريخ.

الحقيقة التي نعلمها بيقين العلم والمنطق أن كافة الأديان على تعدادها هي في الأساس دين واحد، فما من رسول ولا من كتاب منزل إلا فيه إفراد الله بالعبادة، ولا من دين يدعو إلى عبادة إله ثان أو ثالث، على سبيل المثال، كما قد يعتقد بعض المؤمنين بالأديان وتعدد الأديان. بل أن الفراعنة القدماء كانوا موحدين.. فقد أتاهم النبي إدريس (عليه السلام) حاملاً معه رسالة التوحيد التي يعمل بها ويعتبرهو أول من خط بالقلم وهو أول من كتب عباداته وتسابيحه إلى الورق وكانت عقيدته التوحيد (لا إله إلا الله). ثم في عهد الهكسوس بعث الله لهم سيدنا إبراهيم ومن بعده سيدنا إسماعيل.. وثم سيدنا يعقوب وسيدنا يوسف وسيدنا موسى الذي أرسله رب العالمين إلى فرعون (إذهب إلى فرعون إنه طغى). ومن دلائل التاريخ أن المصريين القدماء كانوا يمارسون التوحيد هو أن "إخناتون" ملك مصر يعتبر من أبرز الموحدين حيث قال أن هناك إله واحد ورمز له بالشمس بإعتبارها رمز الكون، فهو إتخذ الشمس رمزاً وليس إلهاً.

وبحسب الموسوعة المسيحية العالمية "باريت" طبعة 2001، فإن عدد الديانات في العالم عبر التاريخ بلغ حوالي 10000 دين متميز، منها 150 ديانة بلغ عدد المؤمنين بكل منها أكثر من مليون فرد، أما بقية الأديان فعدد التابعين لها لم يتجاوز المليون عبر التاريخ، وقد تم رصد وحصر الديانات المعروفة بحوالي 4200 ديانة وعقيدة، ما بين ملل وفرق وكنائس ومعابد وطوائف ومذاهب وعشائر. فالمسيحيين على مختلف مذاهبها ومللها (2 بليون نسمة)، ثم الإسلام (1.3 بليون)، ثم الهندوسية (900 مليون)، ثم من غير المؤمنين بأي دين محدد ويشكلون (850 مليون)، ثم البوذية (360 مليون)، ومتبعو المذاهب القومية حول العالم (228 مليون)، فالأديان الوثنية الأفريقية (95 مليون)، ثم السيخ في الهند (23 مليون) ثم اليهودية (19 مليون).

أما موقع ويكيبيديا فيحدد نسبة متبعي الأديان حول العالم بحسب "كتاب حقائق العالم" بأن التعداد السكاني هو 7,095,217,980 (حسب احصائية يوليو عام 2013) وتوزيعها كالأتي: المسيحية 31.50%، الإسلام 23.20%، الهندوسية 13.8%، البوذية 6.77%، السيخ %0.35، اليهودية %0.22، البهائية %0.11، ديانات اخرى %10.95، غير متدينين 9.66%، وملحدين 2.01 % (حسب احصائية عام 2010).

و بعد سرد هذه الإحصائيات والنسب لأكثر الديانات شيوعاً بين الناس نعود لموضوعنا القديم والسؤال الذي طرح نفسه علينا عن إختلاف الأديان رغم أن كافة الرسل والأنبياء ممن نعلم عنهم وممن لا علم لنا بهم عبر التاريخ أتوا بدعوة واحدة من عند خالقنا. فحسب "منتديات الفرقان الدعوية": الله سبحانه وتعالى أعلم بما هو أصلح لكل زمان ومكان وبالتالي عندما يرسل الله الرسول بشريعة جديدة تكون مناسبة لقومه، والشريعة الجديدة لا تعني ديناً مختلفا، وإنما الدين واحد (العقيدة واحدة)، والشريعة هي المختلفة، وقد يرسل الله رسولاً أو أكثر إلى قوم مثل يحيى وعيسى في نفس الوقت لليهود، وقبلهما موسى وهارون لليهود أيضا، وإذن الموضوع موضوع مناسبة الشريعة لمن ترسل إليهم الرسالة.

فالقرآن الكريم يقول: "إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم".. إذن بعدما جائهم العلم من الله وقع الخلاف والوقيعة بينهم فاختلفوا وتفرقوا وضاع بينهم الحق فانقسم اليهود على أنفسهم إلى فرق وطوائف منهم العبرانيون والسامريون وما تفرع منهم.. كل يدّعي أن لديه الحق وكل له كتابه غيروا فيه وبدلوا وتبادلوا الإتهامات فيما بينهم بالتحريف.. وإنقسم النصارى على بعضهم البعض.. وأصبح هناك نصارى يهود وهم القاطنون في "اورشاليم" من أتباع الرُسُل وتلاميذهم.. ونصارى أمميون وهم أتباع "بولس" وتلاميذه.. وأسموا أنفسهم مسيحيين.. واختلفوا فيما بينهم وتفرقت النصرانية شيعاً كل يدعي لنفسه الحق المطلق إلى أن كانت الغلبة لمسيحية ال 318 قساً في مجمع "نيقية" عام 325 ميلادي باختيار ومباركة "قسطنطين" الوثني والتي منها كل مسيحيي اليوم.. ولذا فإن رسالة الرُسُل جميعاً واحدة.. لا تتغير ولا تتبدل.. وهو الإعتراف بوجود الله ووحدانيته.. وهذا ما نُسميه الإسلام وكلما غير فريق منهم تعاليم الله عز وجل، فإن الله يرسل الرسول تلو الرسول ليبين لهم ما اختلفوا فيه ويدعوهم إلى الحق حتى لا يكون للناس حُجّة.

أما عند المسلمين بشكل عام فقد بدأ ظُهور المذاهب الفقهيّة في القرن الثاني للهجرة، ولعل أهم العوامل والأسباب التي ساهمت في ظهور هذه المذاهب تنحصر في عاملين رئيسين هما: العامل السياسي والعامل الفكري، فقد نشأت العشرات من المذاهب الفقهيّة خلال القرن الثاني والثالث الهجري لسَدّ هذه المناطق، من خلال بلورة اجتهادات واتجاهات فقهية مُختلفة، حتى قيل أنّ المَذاهب في هذين العصرَين بلغت خمسين مذهباً انقرضَ أغلبها، مثل مذهب الليث بن سعد، وعبد الرحمن الأوزاعي، ولم يبق منها إلا أربعةٌ سُنِية، وأُخرى غير سنية كالمذهب الجعفري، والزيدي، والإمامي، والإباضي، وغيرها من المذاهب التي تتوزع في مُختلف أقطار العالم الإسلامي. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ أصل الاختلاف لم يكن في ذات الدّين ولا في لُبِّ الشريعة، ولكنه إختلاف في فَهمِ بعض نصوصها، وفي تطبيق كُلِّياتها على الفروع، وكلُّ المُختلِفين مُجتمعون على تقديس نُصوص القرآن والسنة (حسب شرح الأستاذ "إحسان العقلة" في موقع "موضوع" 2016).

أنا شخصياً شافعي المذهب، غير أنني لا أعتقد أنني أمارس الإسلام حسب مذهب معين.. بل يمكن القول أنني أفتقر للعلم اليقين بالإختلافات بين المذاهب السنية الأربعة.. لذا أميل للقول بأنني أتبع السلف الصالح دون أي تعصب لتوجهات فقهية معينة.. لأنني أعتبر أسباب ظهور الأئمة ظاهرة طبيعية في تلك الأزمنة وأن إجتهادهم في الشرح والتفسير مجرد عملية بحثية دعت إليها الحاجة لجمع مفاصل العلوم الفقهية.. وأن كل واحد منهم إجتهد وجمع حسب قدراتهم العلمية حينها. والمنطق السليم لا يمكن أن يعترف بوجود إختلافات في ذات الدين، لكن الإختلافات هي ديدن البشر.

فمثلاً، إعتمد الإمام "أبو حنيفة" في كتابة مَذهبه على القرآن الكريم والسُّنة النبوية، والإجماع، والقياس، والاستحسان، والعُرف. وتُعدّ دول البلقان، والقوقاز، ومصر، وأفغانستان، وتركستان، وباكستان، وبنغلاديش، وشمال الهند، ومُعظم العراق، وتركيا، وسوريا، ومُعظم المُسلمين في الاتحاد الروسي والصين تابعة لهذا المذهب. وإعتمد الإمام "مالك" في مذهبه على الاستدلال بالقرآن والسُنة ثم بعمل أهل المدينة؛ إذ اعتبره "مالك" مَصدراً للتشريع على خِلاف غيره من أصحاب المذاهب، ثم فتاوى الصحابة، والقياس، والمصالح المُرسَلة، والاستحسان، والذرائع. أما الإمام "الشافعيّ" فقد إعتمد في مذهبه على الإستنباط من القرآن والسُّنة وجعلها بدرجةٍ واحدة في الإستنباط، وكان من أُصول مذهبه كذلك الإجماع، وأقوال الصّحابة، والقياس، وقد أبطل الشافعي العمل بالاستحسان وكان من قوله: "من إستحسن فقد شَرَّع". وكذلك فعل الإمام "أحمد بن حنبل"، فقد إعتمد كثيراً على الأسلوب الذي اتّبعه مُعلّمه "الشافعي"، وذلك من حيث الأخذ بالكتاب، والسُّنة، والإجماع، والفَتاوى، والقياس.

و يجدر بي الإشارة هنا إلى لب موضوعي.. بأننا لا يجب أن ننكر الإجتهادات ولكن علينا بعد أكثر من 1400 سنة على رسالة ديننا الحنيف أن نجمع الدين الإسلامي في مسمى واحد يجمعنا.. وتكفينا أن تكون الإجتهادات بمثابة بحوث ودراسات ومراجع للتفقه في الدين. فلو عمل "الأزهر" مثلاُ في جمع سنة المسلمين تحت مسمى واحد يتبعون فيها مذهباً واحداً جامعاً هو الإسلام الصحيح، نكون قد أزلنا من حضارتنا مواقع الإختلاف حول صغائر الأمور والإختلافات حول تفاسير النصوص!

بل يمكن القول بأن تجمعنا كمسلمين سنة سيوحد كلمتنا وتوجهنا وثقافتنا، مما سيفسح المجال ويفتح الطريق للم شمل المذاهب الأخرى القريبة منا كالأباضية والزيدية.. بل ولربما الكثير من الحركات والتوجهات الأخرى المنبثقة من الدين الواحد. وبالعمل الصادق النية سنجتمع كلنا تحت سقف واحد ومسمى واحد متوحد وسنجمع معنا أتباع الصوفية والإسماعلية والظاهرية والإمامية وغيرها من الحركات والإجتهادات والمناهج الجادة. فالكثير من الإختلافات ليست سوى إجتهادات، وفي بعضها مصالح سياسية وعشائرية، ويكمن أساس بعضها في خلق بؤر للإختلاف بين الممالك والمناطق وللسيطرة والتحكم بالشعوب بإسم الدين!

فلو آمنا جميعنا بأننا نتبع الله خالصين ونؤمن بالقرأن الكريم متفقين، وآمنا بأن الإختلافات بيننا ليست بالضرورة جوهرية، بل في تفاصيل يمكن تنقيحها وتوجيهها بشكل صحيح نحو التوحيد بالله والإيمان بما أنزل على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لزالت من بيننا الإختلافات والخلافات وظهور الجماعات الشاذة على أصل ديننا الحنيف.. وسنتوحد حينها ضد تلك الجماعات الداعشية وغيرها التي تفسد في الأرض بإسم الدين.. فنحن أحوج اليوم أكثر من أي وقت مضى أن نتبع الدين الصحيح دون مغالاة وبأقصى درجة ممكنة من التيسير والوسطية والروحانية التي تجذب التائهين في الأرض نحو دين المحبة والسلام.

نقول للبشرية جمعاء لا يوجد دين سماوي على وجه الأرض سوى دين واحد هو الإسلام، الذي اعتنقه المؤمنون في جميع الأزمنة والأمكنة، وكان كل رَسول من الرُسُل يمثل حجراً في بناء الصرح الشامخ ووحدة الإنسانية المؤمنة، وهذه الحقيقة هي جزءً أساسياً من العقيدة الدينية، فسبحان من عظمت حكمته وتقدست عن أن يطلع خلقه على جميع حكمته، بل ما غاب عنهم أكثر مما علموه، وفيما علموه من حكمته حجة بالغة، ونعمة سابغة توجب الإقرار به والتسليم لشرعه والإذعان لأمره ونهيه. فالحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، ونستغفر الله من كل زلل وتقصير، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا .

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم