صحيفة المثقف

غسيل دماغ مبطن

محمد العباسيلقد دخلت مؤخراً في نقاش مع زميلة مثقفة من دولة الكويت حول دورنا نحن الرجال في خلق الصورة النمطية لعلاقاتنا مع النساء.. فنحن من نروّج للصورة السلبية لزوجاتنا وأمهات زوجاتنا.. ونظهرهن وكأنهن كوابيس تقبع على سعادتنا وحريتنا.. عبر خلق وترويج النكات واللوحات الكرتونية والمسلسلات الكوميدية من أجل الضحك! نتبادل كماً هائلاً من هذه النكات عبر مراسلاتنا الهاتفية والإلكترونية كنوع من التواصل الخفيف الظل.. ولا ننتبه لدورنا المدمر في هذا الشأن وكأننا نشن حرباً نفسية وعملية "غسيل" لدماغ المجتمع ليتقبل السخرية الموجهة ضد المرأة ودورها ومكانتها!

فبالكاد نجد رجلاً يمتنع عن نشر مثل هذه المواضيع.. وحتى بالنسبة للزوج السعيد في حياته الزوجية، نجده يجاري الوضع السائد أمام أصحابه ويسخر من حياته الزوجية كما يفعلون من باب السخرية "البريئة"!!.. أظنها أمست مسألة تتعلق بموضوع إثبات الذات في مجتمعاتنا الذكورية.. وصار من المعيب أن يظهر الرجل "ضعفه" أمام النساء ومحبته لشريكة حياته.. كأن إحترام المرأة يتم تفسيره على أنه خنوع وعيب.

لقد أعجبتني تغريدة للدكتور "محمد رشيد العويد" حين قال : "يحسب الزوج أنـه يمزح، ويضفي جو المرح، حين يسخر من زوجته.. شكلها، كلامها، رأيها، تصرفها، اختيارها.. ولعله لا يعلم أنه يحدث جرحاً غائراً فيها قد لا يندمل سريعاً.. السخرية أحد معاول هدم الزواج، وتقويض أركانه من أساسها، وينبغي أن يمتنع عنها الزوجان طاعة لربهما، وحماية لزواجهما.. وتزيد السخرية في الألم والحزن حين تكون أمام الآخرين، فحين يسخر الرجل من زوجته أمام أولادها فإنه بهذا يحرجها وينقص من قدرها. .و كذلك حين يسخر منها أمام أهله فإنه بهذا يحرضهم عليها ويضعفها أمامهم ويفقدها احترامهم لها".

و قد أرسلت لي زميلة عمل منذ فترة رسالة نصية عبر "الواتسأب" مفادها: "عدم تشجيع وإعادة نشر مثل هذه التعليقات لتفادي تفقيم وتعزيز الصورة النمطية السلبية للنساء في عالمنا".. فالنساء في الإسلام مكرمات معززات.. فمن إكرام الإسلام لها أن "أمر الزوج بالإنفاق عليها، وإحسان معاشرتها، والحذر من ظلمها، وعدم الإساءة إليها".. فلذا تكون السخرية منها ولو لمجرد الضحك ومن باب النكتة هو ظلم وإساءة لها من حيث ندري ولا ندري.. فتكرار وترسيخ هذه الصورة النمطية لا بد أن يجرح مشاعرها و"يكسر" همتها ويضعف شخصيتها.. وإذا ضعفت شخصية المرأة "الأم" فذلك ينعكس على دورها في تنشأة أبنائها ورعايتها لأسرتها.

فعملية غسيل الدماغ تتعدى كونها عملية نفسية بسيطة.. فكثيراً من الدول والأنظمة قد تلجأ إلى ما نسميه "الأجندة الخفية".. كسلاح تكتيكي تبثه عبر المناهج التعليمية لتوجيه أجيال من الناشئة نحو فلسفات ايدولوجية معينة.. سلاح يستغله الشخصيات الدينية لتوجيه التابعين لأفكار طائفية بغيضة.. سلاح حربي لتثبيط عزائم الأعداء أو تغيير ولاءات الأسرى.. "د. عبدالله حسين النجار" في موقع "الحصن النفسي" يشير إلى هذا الموضوع بالذات: "تنمية الإحساس بالذنب لدى الأسير (أو السجين) بحيث يُطلب من الأسير مراجعة تاريخ حياته السابقة وتبرير أفعاله السياسية والشخصية والأخطاء التي قام بها مما يثير لديه الإحساس بالذنب والخطأ وبالتالي كراهية الذات، والإحساس بالدونية والضعف، وعدم الثقة بالنفس.. مما يجعله يتقبل آراء الآخرين وأفكارهم ويخدم مصالحهم" .

بل يقال أن السخرية من الصعايدة نشأت على يد المستعمرين الإنجليز كحرب نفسية في ظاهرها السخرية والنكتة.. وفي باطنها عملية تثبيط للصعايدة وتشويه لصورتهم كرجال أشداء ومحاربين أقوياء كان الإنجليز يخشون مواجهتهم.. التاريخ الحديث يشهد لأهل الصعيد والجنوب رجال مشهورين مثل: الرئيس جمال عبدالناصر، البابا شنودة الثالث، الجراح العالمي مجدي يعقوب.. وأدباء مثل طه حسين، عباس العقاد، حافظ إبراهيم، صلاح عبدالصبور، عبدالرحمن الأبنودي، أمل دنقل.. وسياسيين مثل عبدالحكيم عامر، عمر سليمان، وأثرياء مثل نجيب ساويرس.. ورجال دين مثل عبدالباسط عبدالصمد، محمد صديق المنشاوي.. وممثلين ومغنيين مثل جورج سيدهم، هاني رمزي، علاء ولي الدين، محمد منير.. وسيدات مثل سوزان مبارك، جيهان السادات، هدى الشعراوي، سناء جميل، شيرين.. والعشرات من المشاهير.

و كذلك لا نزال نرى في أمريكا عبر إعلامهم وأفلامهم تشويه لصورة الأمريكيين من أصول أفريقية وذوي الأصول اللاتينية.. فهم مجرمون وعنيفين وجهلاء وكثيروا الأولاد الغير شرعيين.. وتكثر في شأنهن النكات والسخريات.. ذات عملية غسيل الدماغ التى يراد منها الإزدراء وخلق صورة نمطية سلبية تترسخ في العقول عبر أجيال متلاحقة.. عملية غسيل الدماغ هذه لا تختلف كثيراً عن الأهداف الخبيثة لبعض الأفلام الغربية التي تعمل على تشويه صورة العرب والمسلمين من خلال خلق صورة نمطية للتخلف والشبق الجنسي والثراء الفاحش والإرهاب.. إنها ذات السلاح وذات النتيجة السلبية!

أما عندنا في الخليج فقد تعودنا على السخرية من السعوديين "الرعناء" والبحرينيين "الفقراء" والكويتيين "المغرورين" والقطريين "الأغبياء" والإماراتيين "الأثرياء" والعمانيين "البسطاء".. وهي صفات نمطية قد تنطبق على البعض منا لكنها كلها تصنيفات نمطية خاطئة دأبنا على تبادل النكات بشأنها لسنوات من باب النكتة والسخرية "البريئة".. لكننا كرجال خليجيين إجتمعنا على مقارنة المرأة الخليجية بالمغربية والسورية واللبنانية.. وأجمعنا بأن الخليجية "ناشفة" وتفتقر للأنوثة وفنون الدلع ومقومات الرومانسية.. ونسائنا بالمقابل تصفننا بصاحب "الفانيلة والسروال" والطبع "الجلف"!!

مثل هذه المواضيع المثبطة هي نتيجة حتمية للموروثات الخاطئة عبر سنوات من عملية غسيل للمخ نتعرض لها عبر الشاشة الصغيرة.. فأغلب المسلسلات العربية تركز على إظهار "الحماة" سواء كانت والدة الزوج أو الزوجة على أنها شريرة.. هدفها في الحياة التنغيص على الحياة الزوجية لـ "كنتها" أو زوج ابنتها وإن كانت بشكل كوميدي.. ولكم في ذلك المسلسل الخليجي "خالتي قماشة" مثلاً واحداً من بين العشرات من المسلسلات والأفلام العربية.. ومن قصة "سندريللا" بتنا نتصور أن زوجة الأب دائماً تكون قاسية ظالمة.. وباتت المسلسلات الرمضانية الخليجية تركز على كم الخيانات الزوجية والعلاقات الغير سوية والصراخ والعويل والصفعات ومن ثم لجوء الزوجة "المكلومة" لمكالمات عتمة "تالي الليل" بحثاً عن الدفء والحنان.. لتقع ضحية لذئب بشري يتصيدها في ساعة ضعف وإنكسار.

لقد كتبت ذات مرة في عشقنا للنساء:

العشق شوق..

و الشوق جنون..

فنحن الرجال..

من دونهن لا نكون..

فهن لنا قمة السكون..

نحن من غيرهن..

كالأموات..

كالنور إذا غاب..

عن مقل العيون..

الرجال دون النساء..

كالجثث إذا توارت..

تحت التراب..

كالبيوت العامرة..

إذا هُجرت..

تحولت إلى خراب !!

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم